عزالدين ملا
خلقت الثورة السورية خلال سنواتها الست الطويلة الكثير من الدمار والخراب في سوريا عامة, أما في منطقة الجزيرة ونتيجة ارتكاب سياسات خاطئة من سلطة أمر الواقع تجاه الكورد من فرض منهاج تعليمي غير مدروس واعتقال الشباب للتجنيد الإجباري, أدى إلى خلق حالات نفسية كثيرة من الإحساس بالقلق والإحباط والتوتر والاكتئاب والانتظار وفقدان روح المرح والخوف عند المواطنين وبالأخص عند الأطفال والمراهقين، يصعب على الكثيرين التأقلم مع ما تخلفه الحرب من آثارٍ نفسية، حيث يُعايش البعض هذا الواقع المرير بينما يُصارعه البعض الآخر بقلقٍ وتوترٍ وخوفٍ لا نهاية له، وتعتبر هذه الآثار النفسية من التأثيرات الكبيرة لتصبح من المهددات الرئيسية على صحة الإنسان النفسية خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والأمنية والاجتماعية وتؤدي الحالة النفسية الانفعالية التي تترافق مع يوميات الأزمة إلى خروج الكثيرين عن السيطرة، فيتوجه البعض إلى التفكير بالانتحار أو الهروب من الواقع من خلال ممارسة أعمال غير أخلاقية من شرب للكحول والمخدرات، والبعض الآخر إلى حمل السلاح والانتقام، ويرى الاختصاصيون النفسيون أنه يجب التعامل مع هذه الحالات ومعالجتها بالسرعة القصوى وعدم إهمالها أو تأجيلها لآثارها السلبية على المستقبل.
حالات نفسية غير مألوفة
يقول محمد خليل اختصاصي أمراض نفسية: «إن الأزمة في سوريا خلقت حالات نفسية غير مألوفة في مجتمعنا، وكما نعلم جميعاً بأن البشر يتعاملون مع الصدمات النفسية بطرق مختلفة تعتمد على الخبرة الحياتية والوعي والمستوى الثقافي أو التعرض الكبير للحرب، لذلك يجب التدخل السريع والمبكر لمساعدة من بحاجة للعودة إلى وضعهم الطبيعي خلال فترة زمنية قصيرة، فالبعض يحتاج لخدمات نفسية بسيطة، أما البعض الآخر فيحتاج إلى وقتٍ طويل للعلاج خاصة إذا كانت الصدمات متكررة حيث تكون القدرة على الاندماج مع المجتمع سيئة وتؤثر سلباً على الصحة النفسية والعقلية وعلى القدرة في الاندماج مع المجتمع».
وأضاف خليل: «بغض النظر عن نوع الصدمة الناتجة عن الأزمة فإن الخطوة الأولى يجب القيام بها لتقديم المساعدة تكون بعمل تقييم شامل للحالة من خلال الحصول على أكثر من مصدر للمعلومات, بما فيها الشخص نفسه وتقارير الطبيب وملاحظات المتخصصين واستخدام مقاييس التقييم الموحدة التي تتم أخذها من الشخص وعائلته، وبهذه الحالة يمكن خلق بيئة منزلية ومجتمعية خاصة بالنسبة للطفل ليشعر بالأمن والأمان، وتعزيز قدرته على التحكم واسترجاع التوازن والالتفات إلى الذات، إضافة إلى مساعدته على تعزيز طريقة التفكير الإيجابية والسلوكيات المرتبطة بها».
معاناة فوق التصور والوصف!!
إن ما عاناه الشعب السوري من خوفٍ وقلق نتيجة مشاهدة حالات القتل والدمار التي لا تعد ولا تحصى أدى إلى إصابة العديد داخل البلاد وخارجها في بلاد الشتات بأمراضٍ نفسية متنوعة، لم يعانيه أي شعب آخر في العالم بحسب العديد من المنظمات الدولية.
مالفا ذات السبعة أعوام لجأت مع والديها إلى تركيا بعد اشتباكات مدينة الحسكة طلباً للأمان، إلا أن مالفا حملت في ذاكرتها العديد من المشاهد والأصوات المؤلمة والتي أصرت أن تكون رفيقاً موجعاً لا يفارقها، فكل صوت تسمعه تظنّه صوت انفجار تركض وتختبئ تحت سريرها، وكوابيسها الثقيلة في الليل توقظها وتوقظ كل من حولها الذين لا يملكون حيلة لطمأنتها سوى إقناعها بأنها آمنة بينهم، أما أشد ما يخيف شيرين فهو فكرة العودة إلى سوريا أو حتى مجرد الخوض في هذا الحديث أمامها.
الاستعداد للموت والتظاهر بالقوة!!
أما هيفي البالغة خمسة عشر عاماً والتي فقدت حتى معنى اسمها، لجأت مع عائلتها إلى تركيا للهروب من الواقع المؤلم في سوريا، فتحاول التظاهر بالقوة والاستعداد للموت، كما تحاول إظهارها بأقوالها وتصرفاتها، إلا أن الليل بعتمة نومها كان قادراً على كشف ما تشعر به في ,اخلها من خوف عميق. ويحاول والديها أن يشغلاها بنشاطات مختلفة ليبعداها عن خوفها وقلقها, ويران أن سن المراهقة التي تمر فيها هيفي تزيد الأمر صعوبة عليها، فالعنف الذي شهدته بدأ يظهر في سلوكها وملامحها.
الأخصائية النفسية شيرين أكدت: «أن أعراض ما بعد الصدمة تتمثل باضطراب يصيب أي شخص في ظل ظروف العنف في سوريا، وتنقسم الأعراض ما بعد الصدمة إلى ثلاثة أقسام هي: استرجاع الحدث كأخذ الأحداث وهضمها، أو التخلص من هذه الأحداث التي قد تظهر بفقدان هذه الذاكرة المؤلمة، إضافة إلى الاكتئاب أو الانتقام وسرعة الغضب والعدوانية والتبول اللاإرادي لدى تذكر الحدث، وكذلك الكوابيس والأحلام شكلاً من التفريغ للحدث».
عادل شاب في السابعة عشرة من عمره خسر كل أسرته المؤلفة من أمه وأبيه وثلاث أخوة في التفجير الإرهابي الذي ضرب الحي الغربي في مدينة قامشلو، وهو في وضع نفسي مضطرب حيث ترك دراسته وحاول في كثير من الأحيان التفكير بالانتحار, فيقول وجسمه يرتعش غضباً وحزناً «لماذا بقيت حياً، ضاع مستقبلي، ولم أعد أحتمل ولا أريد أن أعيش».
مشاكل نفسية لا تعد ولا تحصى
وقد تحدثت الأنسة شيرين اختصاصية في علم النفس عن هكذا حالات: «إن العنف وإيذاء النفس وإيذاء الآخرين هي من المشاكل المتصاعدة في كل أنحاء العالم فهي مشاكل سلوكية تدل على التوتر وعدم الاتزان في علاقة الشباب مع بيئتهم نتيجة الصدمة التي حصلت معه، لذلك لابد من دراسة وفهم أوضاع هؤلاء المراهقين بحذر قبل بدء التدخل لضمان النجاح».
وتابعت شيرين: «إن تدخل الأقارب هي من أقوى وأنجح أساليب علاج هكذا حالات، وهذه التدخلات تزيد في فاعلية العلاج، كما أن خلق سلوكيات بديلة قد تمكّن هؤلاء من الانشغال بها بدلاً من الاتجاه نحو الانتقام أو الرذيلة، وصقل مثل هذا السلوك هو مجرد وسيلة سلوكية واحدة ناجحة يمكن توظيفها لتجنب الإفراط في الانتقام أو الرذيلة وقد تتضمن الوسائل كتابة مذكرات المريض المؤلمة، و الإحاطة بأصدقاء جيدين ذوي أخلاق حسنة».
الخوف من اليتم
شيروان عمره تسع سنوات قُتِل والداه وأخوه الصغير أمام عينيه في تفجير قامشلو، وانتقل للعيش عند عمه في إحدى القرى القريبة من تربه سبي، فيقول: «أنا خائف جداً من ما حصل وأصبحت يتيماً و لا أريد أن أنسى ما رأيته، كان أخي هو أحب الناس على قلبي، وكنت متعلقاً به كثيراً أما أبواي فكانا حنونين لا يبخلان علينا بشئ رغم الفقر, وأنا سأكبر وسأتابع تعليمي لكني لن أنسى كيف قتل الإرهابيون أهلي».
يقول الاستاذ محمد خلدون سليمان اختصاصي علم اجتماع: «إن أهم ما يجب فعله في هذه الحالة هو فهم ومراقبة ردود الفعل العاطفية لدى شيروان أو لأي تغييرات تطرأ عليه لمساعدته في الحدّ من التبعات, من خلال توفير الدعم العاطفي والأمان و السماح له بالتحدث عما حصل دون الدخول في التفاصيل الدقيقة كي يثق بالناس المحيطين به، ويشعر بالأمان من الذين يقدمون الرعاية له, ويجب على كل شخص الانتباه إلى عدم إغراق مثل هؤلاء الأطفال بالنصائح بل توفير مجال لهم للتحدث دون فرض أفكار حول كيفية التصرف، إضافة إلى الاستماع لآرائهم ومشاعرهم وطمأنتهم باستمرار».
شمسة أم لثلاثة أولاد هاجرت مع أطفالها عندما اشتدت الاشتباكات أثناء دخول تنظيم داعش الارهابي إلى مدينة الحسكة السنة الماضية وفقدت زوجها جراء سقوط قذيفة فوق منزلهم، وحين وصلت لتعيش في إحدى أحياء قامشلو حاولت نسيان ما حصل وامتصاص الصدمة والتهجير, فمنعت أولادها من التحدث بما حدث في الحسكة، وساعدت أبناءها في متابعة دراستهم ووجدت عملاً في إحدى معامل المنظفات في المنطقة الصناعية في قامشلو من أجل أن ترعى أطفالها، وتنسيهم وجع فقدانهم لوالدهم، وقالت لنا: «لن أيأس أبداً وسأتابع في تعليم أولادي إلى أن أجعل منهم ما كان يتمناه والدهم».
تتحدث الآنسة شيرين اختصاصية علم النفس: «يتم تسهيل التعافي من خلال تصحيح استراتيجيات للتأقلم والتكيف عبر إعادة تأسيس روتين الحياة الطبيعي ومساعدة الطفل للمساهمة والمشاركة في بعض المهام الروتينية اليومية أو المشاركة في أنشطة ترفيهية، وما فعلته هذه الأم خير مثال على تحسين شعور أطفالها بالحماية والسلامة وزيادة الشعور بالانتماء للمجتمع».
إن الآثار المدمرة للأزمة يترتب عليها كوارث أخرى لا يمكن فهمها، ولا يمكن تداركها في كثير من الأحيان، ومثال ذلك ما تتركه من آثار اجتماعية ونفسية على الأفراد والجماعات، فالإدمان والانتحار يعتبران من الآثار الكارثية اللتان تولدهما أزمة الحرب خصوصاً لدى المراهقين وصغار السن.
وقد تحدث الاستاذ محمد خلدون سليمان اختصاصي في علم الاجتماع عن كيفية العمل وذلك بتدريب عدد من الأشخاص على برنامج الإسعاف النفسي الأولي, ويجب على الجمعيات والمنظمات الإنسانية العاملة في الداخل العمل على تقديم خدمات الصحة النفسية والمعالجات النفسية المختلفة, كما يجب توفير الدواء الخاص بالأمراض النفسية لأن الاضطرابات النفسية في مختلف مستوياتها ازدادت نسبتها خلال الأزمة السورية.
للطب النفسي دور كبير
لابد في النهاية من الاعتراف بأن الاضطرابات النفسية تؤدى إلى زيادة الخسائر في الأرواح، لذلك فإن للطب النفسي دورٌ كبير في تفادي الأضرار البشرية، وإن التقصير الواضح من قبل الأخصائيين ومنظمات حقوق الإنسان بالتعامل مع الوضع النفسي للمواطنين السوريين عامة واللاجئ السوري خاصة، وللتخلص من الأزمة النفسية التي يعاني منها اللاجئين ضرورة اتخاذ بعض الإجراءات لطمأنتهم واستقرارهم، ولابد من الاهتمام بالنواحي النفسية وتقديم الرعاية والعلاج، وتأهيل الحالات، وفي هذا الوضع الصعب الذي يعيشه الشعب يجب أن نتكاتف جميعاً كي نتجاوز الأزمة بأقل الخسائر.
* جريدة كوردستان / 548