د. محمود عباس
وصف الكاتب اليساري الفلسطيني المعروف (سلامة كيلة) في أحد مقالاته المتأخرة، الصراعات الجارية في الشرق ب (الثورات الحقيقية) وهي رؤية متفتحة وحكم نابع عن خلفية فكرية نقدية، استند عليها في تقييمه للثورة السورية والثورات التي ظهرت في الشرق، وفي معظم تحليلاته حول الثورة السورية، كان يصيب مع استثناءات، بعكس الأغلبية من الكتاب والمثقفين اليساريين، والفلسطينيين بشكل خاص، فمن النادر قراءة تحليلات غير منحازة من المثقفين العرب في هذه الفترة، لأن أغلبهم أصبحوا أقلام بلاط الإسلام السياسي أو قاعات السلطات الدكتاتورية، وكان المتوقع أن يستمر السيد الكاتب على ذاك النهج:
1- يحافظ على عدم الانحياز في تحليلاته وتقييماته، وأبعادها المتشعبة، لتبقى أحكامه في هذه المجالات وغيرها، المتطرقة إليها لاحقاً، بسوية المفاهيم المطروحة سابقاً، حيث البعد الفكري الاشتراكي الذي عرف بها في الوسط الثقافي العربي والكردي.
2- ويكون ملما بالغايات والخلفيات الحافزة للشعوب المستعمرة مشاركاتهم الكثيفة بالثورات في البلدان الاستبدادية، ومن ضمنهم الكرد والأمازيغ والفلسطينيين، وبشكل واسع.
3- التنقيب بمصداقية عن الحقائق السياسية المخفية عن العالم، في هذه البقعة الجغرافية، تحت غطائي العروبة والإسلام، والتي لا تختلف بشيء عن مطامح الشعب الفلسطيني.
الكرد كانوا يأملون من مثقف نهضوي وباحث واع على سوية السيد سلامة كيلة، الإحساس بآلام الشعوب، ومن ضمنها معاناتهم مع السلطات الدكتاتورية، من خلال مصائب الشعب الفلسطيني على الأقل، وعدم حصر مجريات الأحداث في بوتقة القومية العربية، وعدم تناسي الحقائق أمام النزعة العروبية، والتساهل مع نوايا أنظمتها الاستيطانية، والتماهي مع مثقفي شريحة البلاط، وبشاعة الثقافة التي نشرتها السلطات الشمولية الاستبدادية، المتعاقبة على الجغرافيات المحتلة مع شعوبها، وتعرية مخططات نقلهم من حضن مفهوم الأمة الإسلامية إلى الأمة العروبية والإسلام السياسي العروبي.
تهت بين المؤثرات التي دفعت بشخصية كاتب معروف بيساريته وتأييده لحق الشعوب، التخبط السياسي المفاجئ والمتناقض مع ذاته وتاريخه الفكري، وأسباب الانزياح عن مفاهيمه بين ليلة وضحاها، والنبش بسذاجة في مستنقع الثقافة العروبية العنصرية السورية، والتي تتعارض ومفاهيمه التي نعرفها عن الثورة السورية، وللأسف يقدم بها خدمة مجانية للمعارضة التكفيرية العروبية وسلطة الأسد والبعث. فالمقال المنشور في تاريخ 24 آذار 2016م تحت عنوان (الفيدرالية في سورية) الموضوع الذي لا جدوى بالدخول في حوار حوله، لأن المطروح في المقال لا يرقى إلى سوية النقاش عليه، ولا يعكس قدرات الكاتب المعرفية والعمق الثقافي ورؤيته السياسية، بل تنم عن ضحالة فكرية عرضية، أو نقص معلومات حول هذه القضية السياسية الديمغرافية الجغرافية لغربي كردستان، وفي الحالتين، إن كان عن قصد فهي مصيبة، وأن كانت عن غاية فهي كارثة.
إن الفيدرالية من الأنظمة التي كتبت عنها “جبال” من الصفحات والدراسات والمقالات وأقيمت لأجلها أعداد لا تقدر من المؤتمرات والكونفرانسات والحوارات الفكرية على مستوى الاستراتيجيات العالمية وضمن قاعات الأمم المتحدة، ولها أشكال وأنواع، ومن المؤسف بأن السيد سلامة كيلة يعرضها وكأنه لا يعلم أن 70% من دول العالم والعشرة الأوائل منها مساحة وقوة عسكرية واقتصادية تتبع النظام الفيدرالي، الذي أثبت وعلى مر التاريخ السياسي أنه من أفضل الأنظمة التي تصون حقوق الشعوب وتحافظ على استقرار الأوطان، فعدم الإلمام بهذه الثانويات من المعلومات، تحضنا على تركها، والتعويض بنصيحة للأخ الكاتب بتثقيف الذات في هذا المجال.
وإن كان نقده يركز ويبطن بأنها فيدرالية ظهرت في شمال سوريا من جانب حزبي، دون الشعب، أو الدولة الاستعمارية أو الدستور المطعون فيه مسبقاً، فهي جدلية ساذجة كررها ببغاوياً معظم المعارضين، فكما هو معلوم ليس فقط الشعب الكردي يطالب بتطبيقه، بل أغلبية الإثنيات الأخرى في سوريا تطمح إليه وتسعى إلى تحقيقها كنظام لكلية سوريا، لكنهم -رهبة- وخوفاً من مثل هذه التهجمات العشوائية يسكتون عما يريدون، فجميعهم أصبحوا يدركون بأنها الطريقة الوحيدة المتبقية لحفظ سوريا من الانقسام و”الثارات” القادمة ووقف الحرب الأهلية، وصون كرامة الشعوب والطوائف ضمنها. فسوريا المستقبل ذات السلطة المركزية المتوقعة أن تكون تحت سلطة إسلامية عروبية سوف لن تكون أقل بشاعة من سلطة بشار الأسد والبعث، ولو استمع كاتبنا لتصريحات شريحة من المعارضة السورية، أو حديث (أسعد الزغبي) رئيس المفاوضين في المعارضة السورية في قناة أورينت، حول الكرد والشعب الكردي لأدرك هذه الحقيقة.
ليت السيد سلامة كيلة بقي محافظاً على مسيرته الفكرية، وظل مبتعداً عن مفاهيم العديد من المثقفين العروبيين، والسياسيين، الذين كانوا ينتظرون مثل هذه اللحظة المصيرية، لإصدار ما بداخلهم من كراهية تجاه الشعب الكردي، ومن بينهم (اسعد الزغبي) الضابط البعثي المعروف، وغيره من البعثيين وجماعة الإسلام السياسي العروبي، والذين أصبحت أسماؤهم تطفح عنصرية عوضا عن الوطنية، وبينهم خريجو سجون البعث بعد الدورات التثقيفية- التي فرضت عليهم- في غسل أدمغتهم من الوطنية، وهي شريحة بينت عن ذاتها الانتهازية، ضمن المعارضة السورية، وتمكنت من تصدر قيادة الائتلاف اليوم، فلم يتملك كثيرون منهم ذاتهم بعد الإعلان عن النظام الأنسب لسوريا وغربي كردستان، وطفحت بهم الخلفية الثقافية العدائية، على عتبة بروز القضية الكردية على الساحة الدولية، وخروجها من تحت عباءة التعتيم والتناسي المخطط، ومعظمهم وجدوا ضالتهم في الصيغة الفيدرالية، والتي هي في الحقيقة أقل رهبة من التقسيم الجاري على الساحة الجغرافية بين سوريا والعراق، والصامتة عليها القوى السنية في المنطقة، من دول وحركات. وفي الواقع، الكرد عندما يطالبون بالفيدرالية فإنهم يهدمون مخططات التقسيم الجارية في سوريا والعراق، وهو نظام منطقي وعملي يعري المتكالبين على تجزئة سوريا والعراق، وبها يثبت الكرد أنهم أصدق لوطنية سوريا من المتصارعين على السلطة المركزية…
وللحديث تتمة…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
24/3/2016