صالح بوزان
عندما قامت الثورة السوري عكست منذ البداية طابعها الوطني. التي نزلت إلى الشارع كان لها هدف أساسي وهو إسقاط الطاغية. كل المكونات السورية الاثنية والدينية والطائفية عبرت عن هذا التوجه دون أن يكون ثمة اتفاق مسبق بينها. لقد تكونت قناعة لدى هذه الجماهير خلال نصف قرن أن هذا النظام الأمني هو سبب كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والقومية والطائفية في سوريا. وبالرغم من أن الطائفة العلوية توجست خوفاً من المستقبل، إلى أنها هي الأخرى كانت لديها قناعة أن بشار الأسد طاغية، وأن سبب حقد بعض الجهات السنية على الطائفة سببها الديكتاتور وثلة من الضباط العلويين حوله.
ما يهمني في هذه المقالة هو الخلاف الأخير الحاد الذي برز على ساحة الوطن بين العرب والكرد وخاصة بعد إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائه فدرالية شمال سوريا.
أعيد إلى الذاكرة أن أول حركة جماهيرية قامت ضد النظام السوري هي انتفاضة الكرد في آذار 2004. صحيح أن الأطراف العربية المختلفة السورية وغير السورية وقفت ضدها، وسرعان ما اتهمتها بأنها مؤامرة خارجية ضد الوطن السوري. لكن هذه الأطراف استنتجت من هذه الانتفاضة أن العمل الجماهيري العفوي الواسع هو الوحيد القادر على إحداث التغيير في الأنظمة العربية الحاكمة. فالمعارضات المنظمة كلها اقتلعت في ظل هذه الأنظمة من جذورها. بعضها هربت إلى الخارج وانتهت هناك بإصدار البيانات في المناسبات. وبعضها تحالفت مع النظام وأصبحت بوقاً رخيصاً لها. وبعضها الآخر ذابت في سجون الديكتاتور. ولهذا من المستحيل تشكيل تنظيم قادر أن يتمدد بين الجماهير لقيادتها من أجل إحداث أي تغيير.
ثورات الربيع العربي كلها حدثت بشكل عفوي من قبل الجماهير. ولكن هذا لا يعني أن العقل الجمعي لهذه الجماهير لم تتأثر بنضال المعارضات الفاشلة. والثورة السورية كانت إحدى هذه الثورات. لكن الثورة السورية منذ البداية كانت لها خصوصيتها. فسوريا متنوعة دينياً وطائفياً وقومياً. وجميع المعارضات السورية خلال نصف قرن انحصرت في صفوف القوميين العرب والتيارات الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين، والشيوعيين. القوميون العرب بمختلف أحزابهم لم يكن لديهم مشروع سياسي واجتماعي يختلف من حيث الجوهر عن توجهات حزب البعث. كانوا يريدون إزاحة الدكتاتور وحزبه واستلام السلطة لإدارة البلاد بطريقة لا تختلف عن النظام المزاح إلا في بعض الشكليات. فالقضايا الأساسية الخارجية ظلت كما هي عند النظام البعثي. وهي الوحدة العربية وقضية فلسطين والصراع مع العدو الصهيوني والامبريالية. وداخلياً لم يكن لديهم أي مشروع اقتصادي وفكري واجتماعي. الأهم من ذلك لم يكن لديهم مشروع سياسي يختلف عما جرى في سوريا منذ ما بعد الاستقلال. أما الإخوان المسلمون فكان مشروعهم هو العودة إلى نظام حكم إسلامي. هذا النظام الذي لا يتذكره الشعب السوري بكل مكوناته إلا في ظل الحكم العثماني قبل قرن. أما الشيوعيون فقد وقع القسم الأكبر في حضن النظام ولم يعد يحمل صفة المعارضة، والقسم الثاني وقع في حضن الإخوان المسلمين في التحالف معهم في الثمانينات ومن خلال المجلس الوطني السوري منذ بداية الثورة. المشروعان القومي العربي والإسلامي الإخواني لم يقدما شيئاً جديداً ممكن أن يستقطب الجماهير. خصوصاً أن الجماهير العربية السورية اقتنعت بالتجربة أن شعار الوحدة العربية والقضية الفلسطينية هما شعاران لا محتوى لهما عند الأنظمة العربية. بل كانا مجرد توظيف لخدمة الأنظمة الحاكمة في سبيل ترسيخ سلطتها ونهب الجماهير وقمعها. أما شعار العودة إلى نظام حكم إسلامي هو الآخر كان وسيلة لمسعى فئة تريد التحكم بالشعب. اكتشف الشعب السوري خلال تمرد حزب الإخوان المسلمين المسلح ضد النظام السوري في الثمانينيات القرن الماضي أنهم يخفون خلف أيديولوجيتهم الدينية نظاماً استبدادياً ليس أقل من النظام القائم.
أما بالنسبة للكرد، فهم لم يجدوا مكاناً لهم لا في صفوف المعارضة القومية العربية ولا في صفوف المعارضة الإسلامية، ولا في صفوف الشيوعيين. فالجميع ينكرون حقوقهم ولا يعترفون بهم كشعب له هويته الخاصة في إطار جغرافية سوريا.
وهكذا، عندما بدأت الثورة السورية بعفويتها غير المنظمة وخارج كل القيادات السياسية الكلاسيكية، وجد جميع مكونات الشعب السوري فيها بارقة أمل لحقوقها. لم تكن الجماهير المنتفضة تملك ايدولوجيا، ولا شعارات قومية أو دينية. إنها تريد التخلص من الاستبداد. ولهذا ظهر التلاحم العفوي الكبير بين الجماهير العربية والكردية في جميع أنحاء سوريا.
أين بدأت المشكلة؟
لم تكن القوى السياسية الكلاسيكية راضية لهذا التوجه الجماهيري. فسرعان ما أرادت السيطرة عليها وتوجيهها حسب أيديولوجياتها الكلاسيكية ( ومن ضمنها الأحزاب الكردية الكلاسيكية أيضاً). كما أدرك النظام فوراً أن هذا التحرك الجماهيري لا يمكن السيطرة عليه بالطرق التي يتبعها في قمع المعارضات السورية منذ نصف قرن. الإسلاميون سارعوا لصبغ الثورة بطابع إسلامي سني، والقوميون أرادوا توظيف الثورة للتسلق إلى السلطة وإعادة دولة القومية العربية. وسرعان ما أدرك الكرد أن القوى العربية والإسلامية تريد تفريغ الثورة من محتوى حقوقهم. بينما بدأ النظام ينتج من خلال ماكينته الغوبلزية اتهامات مسعورة ضد الثوار، وأنهم عملاء الخارج؛ عملاء السعودية وقطر والامبريالية والصهيونية. وهكذا بدأ تمزق قوى الثورة على الأرض. وجاءت الضربة القاضية عندما تحول مسارها السلمي إلى طابع عسكري بدعم مباشر من السعودي وقطر وتركيا. في النتيجة كانت الغلبة للتيارات الإسلامية التكفيرية. وعلى ضوء ذلك جرى الاصطفاف الخارجي والإقليمي والداخلي.
انتهت الثورة كثورة شعب، وتحولت إلى صراع ميليشيات ضد النظام وفيما بينها. وانزلق الجميع بقيادة مباشرة وغير مباشرة للنظام إلى حرب أهلية مدمرة. إن التهمة الموجهة للنظام بأنه جرً الثورة إلى العسكرة واستقطب التيارات التكفيرية إلى سوريا لتبرير قمعه الوحشي ليس ضد المعارضة المسلحة وغير المسلحة فقط، بل ضد كافة الشعب، ليست تهمة لا أساس لها. لكن التكفيريون لم يأتوا من السماء. لقد وجدوا التربة الإسلامية السنية مهيئة لوجودهم وتوسعهم. كما أن النزعة العروبوية الفجة ضد الكرد وخاصة بعد إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائه لفيدرالية الشمال لم تأت من فراغ. فظهور تيار كردي مسلح يسيطر على المناطق الكردية وغير الكردية أحدث خللاً في المنظومة الفكرية العربية التي ستند فكرها القومي إلى المفهوم البعثي والناصري للقومية العربية. وهذا المفهوم لا يعترف بأية قومية أخرى في المنطقة الجغرافية التي سموها بالوطن العربي. وللتذكير، فالمفهوم البعثي للقومية هو مفهوم مسروق من المفهوم النازي والفاشي للقومية. في وثائق حزب البعث التأسيسية نجد العديد من المقولات تتطابق مع ما قاله هتلر في كتابه “كفاحي”. وكتاب “في سبيل البعث” لميشيل عفلق ليس بعيداً عن كتاب هتلر. ولعل الشعار العنصري دينياً وقومياً يتجلى في ” أمة عربية واحدة وذات رسالة خالدة”. وكان هتلر بدوره يقول أن الله دفعني لاستنهاض الأمة الألمانية من أجل تحقيق رسالة حضارية تاريخية.
الهجوم الحالي على الفيدرالية الكردية تبين أن جميع الأطراف التي استحكمت بالثورة السورية أخيراً ابتعدت نهائياً عن أهداف الثورة التي أعلنت في بداياتها. فالثورة أرادت الحرية والديمقراطية والكرامة قبل كل شيء. وها هو الشعب الكردي السوري يريد في إطار سوريا الحرية والديمقراطية والكرامة. فلماذا هذا العداء السافر الذي وصل عند بعضهم إلى القدح والذم؟. الغريب في الأمر أن الذين طالما اتهموا حزب الاتحاد الديمقراطي بموالاته للنظام السوري، سواء من الساسة ومن الكتائب المسلحة والتكفيريين يتفقون اليوم مع النظام في نقطة واحدة، وهي رفض الفدرالية. هذا دليل عميق على أن المعارضة السورية لا تريد تغييراً جذرياً في سوريا، وإنما تريد فقط تغيير سلطة بشار وحاشيته. والدليل الآخر على هذه الحقيقة هو رفضهم القاطع لمشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في مؤتمر جنيف. لأنهم لا يحسبون حساب الكرد الذين يجلسون معهم على طرف واحد من الطاولة. فهم على قناعة أن هؤلاء الكرد لا يستطيعون فرض أية أجندة كردية على المفاوضات. أما حزب الاتحاد الديمقراطي هو قادر على فرض الأجندة الكردية (إذا أراد) عليهم، لأنه يملك قوة على الأرض بنفس قوتهم إذا لم تكن أكثر. وفي كل الحروب عبر التاريخ كان الواقع العسكري على الأرض يتجسد في المفاوضات السلمية والاتفاقيات.
ومع كل هذا، أعتقد أن الأطراف السورية المختلفة، بما في ذلك الكرد محكومون بوحدة سوريا، ومجبرون لإيجاد تفاهم مشترك بين مكونات المجتمع السوري. ومن ناحية أخرى، إذا كان هذا القول ينطبق على الكرد ( وهو ينطبق عليهم فعلاً) فإن المكونات السورية الأخرى هي بدورها محكومة بالتفاهم مع الكرد. لأنه من المستحيل بعد اليوم أن تكون هناك سوريا موحدة بدون أن يكون للكرد هويتهم الخاصة كشعب فيها.