د. محمود عباس
بحثت الشركات الرأسمالية العالمية، الأمريكية بشكل خاص، عن قوة تتمكن من قيادة وتوجيه العالم الإسلامي، بالنهج الليبرالي في الدين، لغايات ذاتية وموضوعية، وبعد تجارب فاشلة في عدة أماكن، تناوبت بين قادة المذهبين الشيعي والسني، توقفت بوصلتهم على النجم الإسلامي الصاعد رجب طيب أردوغان، والذي كان يقود حزب معتدل ببرامجه الفكرية الدينية، ويتحاور مع القوى العلمانية ضمن الدولة، وبعد مسيرة سياسية وحوارات غير قصيرة، انسكبت عليه وعلى حكومته بشكل خاص، دعم اقتصادي وسياسي تجاوزت الأطر المتعارفة عليها في المراكز المالية العالمية،
فعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، منذ استلام حزبه الحكم في تركيا بالوجه الإسلامي الليبرالي، ساندته الرأسمالية الماسونية العالمية، بقوة سيولة نقدية من العملة الصعبة تخطت حدود القروض الدولية العادية، رفعت من اقتصاد تركيا بوتيرة غير طبيعية، وبنسب تجاوزت 12% في عدة سنوات، ودعمت الليرة التركية، وأنقذتها من الانهيار إلى سوية أفضل العملات الموثوقة بين الدول الأوربية، وكانت لتلك الاستراتيجية غايات وأهداف، رسمتها الإدارة الأمريكية، وسخرت لها منظمات عالمية عريقة في الاستراتيجيات السياسية الدبلوماسية، والخبرات الاقتصادية، والمؤامرات الدولية.
صعوده وحزبه كانت على خلفية انتهاج الولايات المتحدة الأمريكية، الليبرالية في استراتيجيتها، وعلاقاتها الإيديولوجية الخارجية، وتخليها المتدرج عن الواقعية، خاصة في سياستها الخارجية، كالتخفيف من الاعتماد على هيمنتها العسكرية وقوتها الاقتصادية، وتوضحت هذه بعد سيطرة الديمقراطيين على الإدارة، وبينهم بعض الجمهوريين، وبدأت هذه بعد انتهاء الحرب الباردة، عندما ظهرت سيادة القطب الواحد، وتراجع الاستناد على مؤسساتها العسكرية المسيطرة في فترة سباق التسلح بين القطبين. أثرت هذه السياسة أو الاستراتيجية، بشكل أو آخر، على العالم بشكل سلبي، ونتجت عنها أخطاء كثيرة وكبيرة، كانت ضحيتها تدمير دول ومعاناة شعوب، ومن إيجابياتها ظهور تغييرات ديمقراطية في بقع من العالم، وتعديلات في جغرافية بعض المناطق ولربما أخرى قادمة لصالح شعوب لا تزال مستعمرة.
حاولت أمريكا وعن طريق قوى سياسية وشركات رأسمالية عالمية ومنظمات متنوعة المجالات، تطبيق الاستراتيجية الليبرالية على العالم الإسلامي، وخاصة بعد تنامي دور المنظمات الإسلامية الراديكالية والتكفيرية، كالتي ظهرت في الجزائر في نهاية الثمانينات، وفيما بعد القاعدة، وتنامي قوة السلفيين المتشددين، وبعد انتهاء دورهم في مواجهة الاتحاد السوفيتي الكافر، وتغيير وجهتهم للصراع مع العالم الغربي. فكانت البنية الفكرية لحزب العدالة والتنمية المتصاعد نفوذه في تركيا ملائمة لتطبيق هذه التجربة، وعن طريق شخصية فتح الله كولان الإسلامي الليبرالي والذي كانت علاقاته منذ حينها قوية مع المؤسسات الأمريكية، ويعيش فيها، والتكتيك مع قيادات الحزب الرئيسة بعد ابتعادهم عن المتشددين في النهج الإسلامي جماعة رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربقان(1926-2011)؛ تمخضت تلك العلاقات على اتفاقيات مباشرة بين الحزب والإدارة الأمريكية المسؤولة عن تطبيق الاستراتيجية الليبرالية، وبدأ الدعم للحزب، ليحصل على هيمنة كلية على مقاليد الحكم، لم يحصل عليها حزب في تاريخ تركيا إلا مرة واحدة ولفترة قصيرة، والغاية اتجهت إلى بعدين:
1- التأثير على الدول والمنظمات التكفيرية بدعم القوى الليبرالية الإسلامية لتتمكن من مواجهتهم عوضا عن العالم الغربي.
2- توجيه دول وحكومات العالم الإسلامي إلى الاستراتيجية الليبرالية، كالنموذج التركي، وعليه تبنى أردوغان وبمساعدة حزب العدالة والتنمية احتضان أغلب أحزاب الإخوان المسلمين إما في تركيا أو في أوطانهم، ودعم بشكل قوي المجلس الوطني السوري والذي كان يتزعمه الإخوان المسلمون في سوريا، وزار أردوغان مصر في فترة استلام الإخوان السلطة (محمد مرسي) ونصحهم بالليبرالية والتلاؤم مع العلمانية، وغيرها من التحركات على مستوى الدول العربية والإسلامية. كما وانتشرت أبحاث ودراسات وعقدت مؤتمرات عديدة، دعمتها أمريكا وتركيا بشكل خاص، حول الفروقات بين النهج المكي والمديني في القرآن والفكر الإسلامي، وكان الأمل بنجاح التجربة التركية اقتصاديا وسياسيا كبيرا لخلق قناعة عند العالم الإسلامي في صحة النهج الليبرالي الإسلامي السياسي، ومن إحدى هذه النشاطات، مؤتمر المركز العربي للأبحاث في الدوحة والمنعقد تحت عنوان (العرب وتركيا: تحديات الحاضر ورهانات المستقبل).
شددت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على إنجاح التجربة هذه، وسخرت لها الكثير، اقتصاديا وثقافيا وعسكريا وسياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا، متناسية أن بوش خلقت عداوة بين جميع العالم الإسلامي الراديكالي والليبرالي معا والغرب، وتفاقمت بعد انتهاء الاتحاد السوفيتي (الكافر) من الساحة العالمية، ولم تبقى أمام المسلمون عدوا يحاربونه سوى الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وتغاضت إدارة أوباما عن هذه الحقيقة، وحاولت تطبيق استراتيجيته الليبرالية، بمفاهيم لم تقتنع بها أية جهة إسلامية، ولم تقدم لخدمتها خطط عملية على تلك السوية.
وتغاضت أمريكا في الإدارتين عن العديد من أخطاء تركيا بل وعن عنجهية قادة حزب العدالة والتنمية، كما وساندتها على ضرب الدولة العميقة، وإلقاء القبض على قادة منظمة أرغنيكون السرية العسكرية، وعزل العديد من قادة الجيش المهيمنون وسجنهم، وتغيير مسار تركيا العلماني في كثيره، وهذه تتعارض والاستراتيجية الإمبريالية العالمية، وساندتها في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، ووافقت على طلبها بإدراجها ضمن قائمة الإرهابيين، وأرضخت الأوربيون على الفعل ذاته، وعتمت على القضية الكردية في تركيا، كما وكانت الولايات المتحدة الأمريكية بذاتها وراء منع تركيا دخول قوات الحلفاء شمال العراق عند إسقاط صدام حسين، ولم تعترض القوات الأمريكية على بقاء القواعد التركية المتواجدة على أرض العراق وظلت دون أي تحريض أمريكي أو عراقي أو كردي، وهي كانت وراء منعهم فيما بعد من استعمال قاعدة إنجرليك، في ضرب داعش ضمن سوريا والعراق، وكل هذه لإبراز تركيا دولة إسلامية متطورة عصرية تدعم العالم الإسلامي وبنهج ليبرالي، والأبعد من هذا، إظهارها كدولة ناجحة خلقت قوة اقتصادية عسكرية متصاعدة في ظل حزب إسلامي ليبرالي، وعليه ضخت إليها سيولة تجاوزت 70% من دخلها القومي واستمر الدعم على مدى نصف عقد من الزمن، ولا شك كان وراء هذا الدعم غايات ذاتية للشركات الرأسمالية العالمية إلى جانب دعم الاستراتيجية الأمريكية الليبرالية، وهي دخول العالم الإسلامي عن طريق شركات دولة إسلامية، لسهولة الاستثمار بهذه الدروب، وتمكن أردوغان تسخيرها والاستفادة منه بحنكة ودراية…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/8/2016