ابراهيم محمود
وأنا أقرأ ما يكتبه الصديق الباحث محمود عباس والمقيم في أميركا منذ سنوات طويلة نسبياً، يحضرني ذلك المصاب بـ” الناعور”، وهو الذي يعاني من نزف لا يتوقف في جرح ما، خصوصاً في أعقاب الحدث السوري القياماتي. يتنقل بين موضوعات لا رابط بينها، يثير تساؤلات لا صلة قرابة بينها، يطرح إشكالات بحثية، معرفية: سياسية، تاريخية، اجتماعية، تنظيمية، فلسفية، نقدية بيّنة التباعد، سوى أن حاملاً جمعياً واحداً يموقعها في دائرة واحدة، مفتوحة هي الأخرى، هي دائرة الانشغال الحثيث بكل مستجدات الحياة وتفاعلاتها ووحدة المعرفة، ومن موقع كونه كُردياً بجلاء.
أحسب أن محمود عباس ” يشكو” وجعاً روحياً مزمناً وهو يسلسل حلقات بحثه، وهي أبحاث واقعاً: عن غربي كردستان، عن كوباني، عن العرب والإسلام، عن إيران، عن تركيا، عن الأحزاب الكردية بتنظيماتها المختلفة، عن الثقافة عموماً، والكردية منها على وجه التخصيص..،
وهو في كل ذلك يترجم روحاً نفاثة قلقة، ووجداناً لا أخاله بعيداً عن رؤية صدامية، اضطرارية لواقع ينسّب إليه نفسَه” كرديته طبعاً “، ولو أنه يتوئم عمله اليدوي والفكري ” من التوأم “، كما لو أنه يستشعر موتاً على عتبة قلبه، دماغه، شأنه في ذلك شأن كل مأهول بالجرح ” المستطير ” هنا وهناك، يكتب بغزارة، ربما تحت وطأة شعور ما أن ثمة ما يجب قوله، ما يجب الاعتراف به مباشرة، أن ما يمكن طرحه، تأكيداً على أن مقر الإقامة الأميركي لم يحل بينه وبين مسقط رأسه، في محيطه الكردي الواسع والضيق والخانق في آن.
ربما يمكنني أن أشير إلى جانب من الاسترسال في كل ما يكتب، وما في ذلك من تعارض مفهومي: ما يتطلبه المقال البحثي، أو البحث التاريخي من ركيزة مرجعية وفلسفية أكثر ضبطاً للمعنى، لأن ثمة خطاباً عريضاً في قاعدته يصعب الأخذ به دون تعزيز معطياته التوثيقية من قبل المتعاطي معه: قارئاً أو ناقداً قبل كل شيء، وهو خلاف المقال الأقرب إلى ما هو صحافي أو حتى انطباعي، كما هو حال المتابع لهذا الهم الذي يستنزفنا نحن الذين نقف على منحدر ناتىء خطير تاريخاً ومجتمعاً وسياسة وحياة شخصية، ولو أنه لا يدقق، كما ينبغي التدقيق في اللغة التي تتناسب والبحث المكتوب، خصوصاً إزاء موضوعات لا يؤخَذ بها، ويمسَك بعنان كل منها بسهولة. أقولها، دون أن ألغي اعترافاً لا بد منه، وإلا فإنني أكون متناقضاً مع نفسي، ناكراً لجميل استماتته حقاً، إذ أسمّيه الصديق المعرفي، وهو أنه لا يعدِم الهم الثقافي العام إلى جانب الخاص، كما في العديد من حلقاته ذات الصلة بما هو كردي، وما هو عائد إلى التاريخي والديني: الإسلامي تحديداً، وارتباط كل ذلك بمغذيات الحدث السوري العظيم والآلم معاً، وما في المتابعة من تحديد آخر للموقع الذي يرسمه أو يتخذه لنفسه، وهو في ذلك المكان القصيّ، مكان لا ينأى به عما يبقيه نزيل مسقط رأسه ومهبط روحه ككردي في جغرافيا أبعد من أن تكون مقتطعة أو محلية.
ربما جاز لي الحديث في هذا المنحى، عما يربك رؤية باحثنا عباس وهو منهمك في كل ما يصله بحياة لا يحاط بها، في اضطرامها واحتدامها، لحظة إمعان النظر في محتوى كتاباته، كتابات لا تفتقر إلى ذائقة فكرية، ونقدية، واعتبارية، وحتى إيديولوجية تسمّي فيه رؤية اعتقادية سياسياً، وككردي أولاً وأخيراً مجدداً، وعلى خلفية الدائر والصائر في المنطقة عموماً، وفي سوريا خصوصاً، وعلى مستوى عالمي بمعنى أخص، وربما كانت الخلفية الإسلاموية، وفي إهابها الداعشي التسونامي المرعب حاملة بصمتها النافذة في قائمة الموضوعات التي تعني تناوله للإسلام كتاريخ ومن ينسّبه إلى نفسه حصراً: العرب، وما هو مترتب على هذا النزوع ” الكوني ” وليس القطبي، من استغراق لإيديولوجيا امبريالية خاصة.
هذا الإرباك لا ينفصل عما يصدمنا، عما يصدمه باعتباره يفوق التوقع، المعقول ذاته، ولكرده النصيب اللافت، وربما الباع الطويل للدفع به، لأن يمارس في كتابات لها حدتها نزالاً لا يخونه الوصف، وصف المكاشفة، وإن كان يؤلمه الحاصل على مستوى كردي، وفقر التنظير الفعلي، وغياب المقاربة النقدية لمن يفكر في التالي، في مشهديات المكوكيات التي باتت أشهر من نار على علم لجل كردنا الذين أسلسوا القياد لرغبات تعنيهم تحزبياً، أكثر مما تشملهم كردياً، وتصورات فكرية تسمّيهم في افتئاتهم تنابذياً، أكثر مما تشغلهم حتى على محيط تواجدهم العربي والعالمي وخطورة المجابهة والتحاور مع الآخر والذي أصبح المرئي في عقر دار كل منا: التحاماً واصطداماً.
كما لو أن محمود عباس يكتب ترجمة لنزيفه الذي يتنامى، وهو في ضوء نزيفه ذاك، يبدي رؤية استصراخية عن هول الجاري، وما في الهول من ” شراسة ” القول وعنف المردود، إنما أيضاً حيوية الملموس، يكتب شعوراً منه أن ثمة ما ينبغي تسطيره، ثمة خللاً لا ينفك يتوالد، كما أنه يشهد على بؤس كردية لم تحسن فهم تاريخها، لأن فهم نفسها أعياها من لدن المعنيين بها على مستوى” الساسة ” الكرد غالباً، ومن يُسمّون بالمثقفين الكرد في “دائرتهم ” غالباً أيضاً.
وما ينبغي تأكيده على هذا الشح الثقافي والتنويري الكردي في الجانب الآخر، هو المعايَن في مستوى القراءة التي تخص كتاباته، وكتابات أخرى لا تخفي جديتها إطلاقاً، ولا أهليتها بأكثر من معنى في تداول موضوعها” عدد القراءات المخزي “، وهو خزي لا يشير بإصبعه إلى عباس، وإنما بسبّابته وأكثر إلى كرده الذين يعرّفون بأنفسهم مثقفين، وإن لم يطلعوا على ثقافات الآخرين كثيراً، نقاداً، وإن لم يغذّوا واعيتهم بمعاني النقد المطلوبة، قرّاء فعليين، وإن لم يشغلوا أنفسهم بمدارس القراءة ومناهجها وتوجهاتها، وجمالياتها التي يستحيل غض الطرف عنها في رحابة ما بعد العولمة . هو ذاك بؤس آخر، يقرّبنا في الجانب الآخر مما يكتبه عباس، ويعانيه عباس، أي هذا الإفقار الثقافي القرائي الكردي، والطريقة اللاطريقة المنفّرة لفعل القراءة، وكيفية تشابك القراءات ومن تكون الأوفر في الكم لا النوع إجمالاً.
ثمة ملاحظة، أعتبرها ذات قيمة مرجعية وموقعية تعنينا جميعاً، كما تعني الصديق الباحث عباس، وهي لصيقة بالجهة التي يقيم فيها، ومن أجل تاريخ قادم يفيده ويفيد قارئه ” الكثير “، وهي : ليته يدع الكثير مما يشغل نفسه به، وينهم أكثر فأكثر بأحدث ما يُنشر في الصحافة الأميركية عما هو كردي وغيرها يرتد إليه، وعلى مستوى المطبوعات، وحتى في الجانب الإعلامي والمؤسساتي، والفني والأدبي، لأنه بالطريقة هذه سيترك بصمة أكثر إثارة لاهتمام قارئه الخاص، وأنا أحد هؤلاء القراء طبعاً، بقدر ما يمنحه ذلك ميزة ستمتد به إلى ما هو أبعد من المستقبل القريب.
تحية مجدداً إلى الصديق الباحث محمود عباس، البعيد والقريب في آن !
دهوك- 30 كانون الثاني 2016