حاوره: عمر كوجري
قال الأستاذ موفق نيربيه، المعارض السوري المعروف، والسجين السياسي في سجون نظام الأسد الأب لعدة سنوات، في حوار خاص مع صحيفتنا «كوردستان» يُنشر على حلقتين، في سؤال حول شرح واقع المعارضة السورية:
تغيّر الوضع بعد موت الدكتاتور الأب، وانتفاض المثقفين خصوصاً من خلال لجان إحياء المجتمع المدني وحركة المنتديات. ورغم القمع الذي أصبح أكثر حياءً بشكل مؤقت، توصّلت المعارضة تلك مع النخبة الثقافية إلى تأسيس إعلان دمشق بعد أن أعطتها هزيمة النظام في لبنان بعد اغتيال الحريري دفعة جديدة. اقتربت تلك المعارضة خطوة أخرى محدودة نحو تحقيق ذاتها، مؤقتاً بالطبع. وكانت أهم ظاهرة في إعلان دمشق اندماج القوى السياسية الكردية مع العربية للمرة الأولى.
وحول فشل المعارضة السورية في تحقيق هدفها الرئيسي، وهو إسقاط النظام، أكد الأستاذ نيربيه:
إنها لم تكن موحّدة أولاً. تأخذ العزّة بالإثم كلّ أطرافها، ولا وجود لما يكفي من الدافع للعمل والتنازل من أجل الوحدة. ولأنّها لم تكن «عضوية» ثانياً، لبعض أفرادها منفردين صلات بالناس هنا وهناك، ولا يريد أحدهم أن يسمع إلّا غناءه”السولو” وعزفه الفريد.
حول هذه الأسئلة وغيرها، كان الحوار التالي في جزئه الأول مع السيد نيربيه، والجزء الثاني يبحث في هموم الكرد في سوريا بشكل أساسي.
*تعرّضتَ للتغييب في السجون السورية لسنوات عديدة، وكنت تقارع نظام “الأسد الأب” وخرجت من سجونه منذ بداية الثمانينيات، لكن عاودت العمل مع المعارضة، وعارضت نظام بشار الاسد، ترى لو كنت متفرغاً للكتابة والابحاث ألم يكن أفضل بالنسبة لك؟
كثيراً ما أحلم بذلك حالياً: لو انسجمت مع”روحي” وتابعت التركيز على البحث والكتابة، ألم يكن ذلك أفضل لي وأكثر استقراراً وربحاً؟! أحلم أحياناً أيضاً أني بقيت وفياً لاهتماماتي الإبداعية، الشعرية مثلاً أو السينمائية أو ما هو قريب من ذلك. كان ذلك ليكون ممتعاً أكثر. كان ينبغي لتلك الأشهر الخمسين التي أمضيتها في السجن؛ وعانيت فيها من تعذيب مزعج وإحباط شديد في السجن وخارجه الميت بعد خروجي منتصف الثمانينات؛ كان ينبغي أن أتروى وأغيّر مساري قبل فوات الأوان. ولكنّ الطبع غلّاب كما يبدو، والتيار جارف. فقد اعتدت الاهتمام والحراك السياسي منذ نعومة أظفاري، واعتاد من حولي على ذلك. هذا إسار ربما لا انفكاك منه، ولا تنفع الحسرة والندم فيه.
*لك تاريخ طويل في معارضة النظام السوري، لو تشرح لنا واقع المعارضة السورية بكل ألوانها وخاصة بعد الثورة السورية وماذا انتجت طوال هذه السنوات؟
ما بين أواخر السبعينات ونهاية القرن، لم يكن هنالك إلا” التجمع الوطني الديمقراطي” بمكوناته الخمسة: الاتحاد الاشتراكي( جمال الأتاسي) والشيوعي- المكتب السياسي( رياض الترك)- الذي كنت أنتمي إليه، وأحزاب ثلاثة أخرى أصغر حجماً؛ والإخوان المسلمين الذين انتقل عملهم بمجمله إلى الخارج بعد” نكبتهم” وقمعهم المتوحش ٨٠-٨٢، وقوى أخرى أبرزها حزب العمل الشيوعي الذي واجه حملات قمع عديدة أنهته عملياً في مطلع التسعينيات.
كانت تلك” معارضة” لا تحتمل تسمية معارضة، مع نظام لا يحتمل أساساً وجود معارضة، لا شكلاً ولا مضموناً. مجمل ما كان آنئذٍ متابعة نخبة سياسية وأخرى ثقافية لإثبات وجود وحياة وروح في هذا الشعب المسكين أمام نظام متوحش في عنفه واستبداده.
تغيّر الوضع بعد موت الدكتاتور الأب، وانتفاض المثقفين خصوصاً من خلال لجان إحياء المجتمع المدني وحركة المنتديات. ورغم القمع الذي أصبح أكثر حياءً بشكل مؤقت، توصّلت المعارضة تلك مع النخبة الثقافية إلى تأسيس إعلان دمشق بعد أن أعطتها هزيمة النظام في لبنان بعد اغتيال الحريري دفعة جديدة. اقتربت تلك المعارضة خطوة أخرى محدودة نحو تحقيق ذاتها، مؤقتاً بالطبع. وكانت أهم ظاهرة في إعلان دمشق اندماج القوى السياسية الكردية مع العربية للمرة الأولى، الأمر الذي أسّس له ربيع دمشق، وأنجزه إعلان دمشق.
وصلت المعارضة إلى ذروتها- حتى الآن- حين كانت في طريقها إلى المجلس الوطني لإعلان دمشق في عام ٢٠٠٧. حضر ذلك الاجتماع ١٦٧ عضواً يمثّلون كلّ القوى على الساحة، وكلّ الجغرافيا السورية، واتفقوا على ورقة واحدة وكيان واحد، انفجر في الساعات الأخيرة وحسب بسبب الخلافات المرضية والمخفية بين الأطراف آنذاك. ابتعد قسم قليلاً عن الأضواء تحت عدسات النظام، وتكتّلت البقية حتى تطورت إلى ما هو أقرب إلى البنية الحزبية منها إلى صيغة الإعلان الأساسية.
كنت في تلك الفترة قد أسهمت في التحضير للمجلس وترأست لجنته التحضيرية، ثم انتُخبت فيه عضواً في أمانته العامة. ولكنّي ابتعدت بعد حوالي عام، هرباً وإحباطاً من حالته الحزبوية تلك. كنت مسؤولاً في ذلك العام عن المكتب الإعلامي للإعلان، في غياب رئيسه في السجن. لوحقت من قبل الأجهزة الأمنية منذ أواخر ٢٠٠٧، واضطررت لترك مدينتي وبيتي في حمص، لأعيش متخفّياً في دمشق… وتنامت حالة الإحباط، وتراجع الحراك السياسي حتى ما يقارب الصفر آنذاك.
على تلك الحالة المنقسمة المغمى عليها، جاءت الثورة، ودقّت الأبواب بحرارة، من دون جواب يليق بها وبتاريخية الحدث وجذريته.
*لماذا لم تحقق المعارضة هدفها الرئيس بإسقاط النظام وبناء سوريا الجديدة رغم كل هذا الدعم الشعبي والدولي؟
لأنّها لم تكن موحّدة أولاً. تأخذ العزّة بالإثم كلّ أطرافها، ولا وجود لما يكفي من الدافع للعمل والتنازل من أجل الوحدة. ولأنّها لم تكن «عضوية» ثانياً، لبعض أفرادها منفردين صلات بالناس هنا وهناك، ولا يريد أحدهم أن يسمع إلّا غناءه”السولو” وعزفه الفريد.
في أول نيسان في عام الثورة، وبعد أسبوعين من بدايتها، دعونا إلى لقاء في منزل رياض سيف للبحث في تنشيط وإعادة توحيد المعارضة، وفيما ينبغي لها أن تقابل به انطلاقة الثورة وشبابها. قلنا إن ذلك الاجتماع يستطيع أن يبدأ بإعادة إحياء إعلان دمشق موحّداً، أو أن يقرّر كياناً جامعاً جديداً. لم يحضر أحد « كبار» المعارضين لوجود شخص آخر في الاجتماع؛ وانشغل واحد آخر منهم بالمزاح والضحك؛ وانقض آخرون على الآخرين بالاتّهامات والتشكيك… وكان حسين العودات رحمه الله يتلقّى على الهاتف ونحن مجتمعون آخر الأنباء من درعا، ويتلقّى غيره آخرها من حمص!
لقد ارتفع شعار «إسقاط النظام» بشكل مبكّر لا يتناسب مع حجم المعارضة وتنظيمها وتنسيقها مع الثوار الشبان، الذين كانوا يغنّون موّالهم. كان يمكن للنظام أن يسقط، لو تمّ تخطيط مسبق وتنظيم لعملية احتلال الساحات مثلاً، بتصاعد الضغط الشعبي حتى مستوى يصعب على النظام قمعه بشكل حاسم… ولكن ذلك كان وضعاً بعيد المنال؛ لا تقدر عليه المعارضة القديمة المُتهافتة، ولا الشبان الذين ما استطاعوا تنظيم أنفسهم سياسياً وحركياً بشكلٍ ناجح.
أمّا أنه كان هنالك دعم خارجي يمكن له أن يساعد على إسقاط النظام، ففرضية تحتاج إلى برهان غير متوفّر. كان الغرب يرتجف من تحوّل الحراك إلى إسلامي ومتطرّف فإرهابي، ويختبر المعارضة من دون نتيجة فعّالة. وكانت القوى الإقليمية تدخل في دهاليز مصالحها الخاصة: بعضها يخشى التغيير ويريد احتواءه، وبعضها يريد تجريب إحماء حرارته برعايته ليرعب الآخرين ثمّ يبتزّهم به، والكلّ طامح إلى التحكم والقيادة إلى حيث تنضج الأمور في حضنه. كان المجتمع الدولي أكثر انسجاماً من ذلك الإقليمي، ولكنه لم يكن كذلك مخلصاً لقيمه قبل استراتيجياته إلى النهاية.
رغم ذلك، كانت أرضية دعم معظم المجتمع الدولي للشعب السوري حقيقة واقعة، أو قابلة للوقوع لو قابلها قوة سورية منظمة مقنعة، الأمر الذي فشل في تحقيقه المجلس الوطني ثمّ الائتلاف، بقيادة الإسلاميين بكلّ تنويعاتهم، بوحدتهم وتنوّعهم.
أهمّ منبر كان يمكن له أن يحقق شيئاً برعاية الجامعة العربية وبدعم من المجتمع الدولي كان مؤتمر القاهرة مطلع تموز ٢٠١٢؛ الذي حدثت فيه إعادة قبيحة لما حدث مع المجلس الوطني لإعلان دمشق، حيث خرج الرهط منه وكلّ يخفي في نفسه نواياه« الطيبة».
لم يكن ممكناً لا للدعم الخارجي ولا للمعارضة ولا لشباب الثورة أن يسقطوا النظام، الذي يخشى الجميع أن يكون سقوطه بعد كارثة ٢٠٠٣ في العراق، سقوطاً للدولة واستحالة إلى بؤرة فوضى وإرهاب وانعدام استقرار.
*بماذا يمكنك أن تميّز وضع المعارضة قبل الثورة وبعدها وما هو السبب في التشظي أولاً الكبير في المعارضة السورية وتسمية بعضها بالدول الداعمة لها؟
خلال سنوات ثلاث سبقت الثورة في آذار ٢٠١١، كان وضع المعارضة يبعث على اليأس. في عام ٢٠١٠ مثلاً، فكرنا بالخروج من حالة الاستعصاء والعجز عن طريق محاولة إحياء لتجربة العام ٢٠٠٠، ولكن من دون ظروفها الموضوعية: حاولنا تنظيم بنى جديدة تركّز على«الثقافة الديموقراطية»، بعد أن عانينا من العداء العملي لتلك الديموقراطية في النظام والمعارضة معاً. فقط كان النظام أقلّ كذباً من المعارضة، وادّعاءً للديموقراطية والانفتاح وحسن النية والعمل.
هنالك سببان هامان لتلك الأزمة في العمل المعارض:
أولهما: النرجسية الخانقة، والإرث المشترك مع الشمولية والاستبداد، واستراتيجيات تحطيم الخصم الأقرب منّا حين نعجز عن الأبعد. كان جزءٌ من المعارضة يرى في الآخر كلّ الانتهازية والخَوَر والعزيمة المتهالكة، والجزء الثاني يرى في الأوّل روح الانتقام والتطرّف والمغامرة. وحتى تستقيم الأمور، لا بدّ من تصفية” صفوفنا” أولاً كما كان الكلّ يرى!
وثاني هذين السببين، هو مشاركة السلطة والمعارضة في وهم أسميه” عبادة دور الخارج”. هذه موروثة في التاريخ السوري الحديث على وجه الخصوص. وفي تلك العبادة ذهبت المعارضة في الاتّجاهين أيضاً: الارتهان المقيت الذي ينزلق إلى الانتهازية حتماً مع الزمن، والرفض القاطع للخارج ودوره من جهة أخرى. وإن ظهر الاتّجاه الثاني أكثر طهرانية من الأول إلّا أنه يشترك معه في قصور البصر الاستراتيجي، وعلّة الاستسهال إما استعجالاً للتغيير من قبل اتّجاه، أو فرملة له لمنعه من إلحاق الضرر وجعل التغيير سلساً حتى الحلم وأضغاثه.
رغم ذلك، يمكن إعادة المعارضات السورية كلاً إلى مرجعية خارجية، بل ربّما يمكن إعادة جزء صغير منها إلى مرجعية النظام ذاته، أو إيران وحزب” المقاومة”. هنالك حالياً معاوضة تركية وأخرى قطرية وثالثة سعودية ورابعة إماراتية وخامسة أردنية وسادسة مصرية، ويمكن الجمع بين مرجعيتين إذا تفاهمتا معاً، وكانت علاقاتهما أقلّ من عدوانية بشكل قاطع. لذلك يمكن بسهولة إحالة تشظّي المعارضة في أحد أسبابه رلى واقع التشظّي العربي أو الإقليمي.
*كنت نشطاً منذ بداية الثورة السورية، وشكلت مع معارضين آخرين ” تيار مواطنة” لماذا لم يتح المجال لهذا التيار للانتشار والتوسع جماهيرياً؟
بعد اندلاع الثورة، عدت للعمل في الأمانة العامة لإعلان دمشق مع فشل محاولتنا الأولى لجمع المعارضة وتوحيدها، وذلك كان الإطار الأول الذي عملت فيه. والإطار الثاني كان التنسيق مع لجان التنسيق المحلية، من خلال الاستشارة والتشاور والتنسيق، إضافة إلى الانشغال المباشر بمسائل الحراك والدعم الصحي والإغاثة ومساعدة النازحين في محافظتي حمص ودمشق خصوصاً. كذلك عملت مع أصدقائي القدامى في تيار مواطنة، المؤسس على شغل فكري- سياسي انشغل منذ مطلع القرن في إطار سميناه لاحقاً” ورشة دمشق للتغيير” كان يغلب عليها الليبرالية والانشغال الثقافي كما ذكرت.. اعتمد تيار مواطنة على الجناح الليبرالي من بين من كانوا في إطار حزب العمل الشيوعي مع غيرهم من أمثالي.
في الحقيقة لم يستطع تيار مواطنة الخروج من نخبويته، ولا من عقدة السجين السابق أو حتى من إسار النسق التنظيمي القديم لحزب العمل… وفي هذه الأجواء غير السياسية بالمعنى المباشر، التي تفتقر إلى أي محاولة أو اهتمام بالتوسّع والعمل المنظم بين الناس، انطلاقاً من ليبرالية مفتوحة في الفكر حتى الشطط في التفكير والجدل، تركت التيار. من دون أن أتخلّى عن علاقاتي معه كمنظمة وأفراد… تلك بيئتي الطبيعية كما أعتقد.
*خرجت من الوطن عام 2013 ما سبب خروجك من سوريا؟
كنت مطلوباً من قبل النظام وأجهزته منذ أواخر عام ٢٠٠٧ كما ذكرت سابقاً، وكان مروري على أيّ حاجز لديه جهاز كومبيوتر وأرشيف في الخيمة إلى جانبه يمكن أن يحمل خطر الاعتقال المجهول المصير. في أواخر عام ٢٠١٢ كان عدد الحواجز في دمشق وضواحيها قد تزايد كالفطر، مما اضطرني إلى السكن في قلب دمشق مباشرة للحدّ من تحركاتي إلى أدنى مستوى. وكان لهذا الأمر انعكاسه على فعالية عملي وصلاتي أيضاً.
وكان تيار مواطنة من مؤسسي الائتلاف آنئذٍ ولديه عضو فيه، ورأى التيار مصلحة في خروجي وتمثيله في الائتلاف. إضافة إلى علاقاتي مع بعض القيادات الفاعلة في الخارج وإلحاحها عليّ للخروج وخدمة قضيتنا من هناك بمردود أفضل. وبالطبع كانت هنالك ضغوط من الأقربين للحفاظ على حياتي وحريتي أيضاً. فخرجت من دمشق في أواخر كانون الثاني ٢٠١٣، ووصلت إلى أنطاكيا في ٢ شباط.
*اُنتُخبت عضواً بالهيئة السياسية للائتلاف السوري، كيف تقرأ وضعه حالياً خصوصاً أنه في حالة ضعف هائل من جهة ” الاعتراف الدولي” والجماهيرية؟
نعم انتُخبت مراراً في الهيئة السياسية للائتلاف، ورُشّحت مرتين لرئاسته، وشغلت منصب نائب رئيس فيه لموسم واحد. هذه كلها اعترافات أو بمثابة إقرار: كنت أرى في الائتلاف على علّاته جسماً رئيساً للمعارضة السورية حاز على اعتراف دولي معقول، وهو مؤسسة يمكن الاستناد إليها في قضيتنا: نوع قريب من منظمة تحرير أو ما شابه ذلك.
هذا الائتلاف كان” مُفَخّخاً” من تأسيسه أولاً. فلم تكن دول الخليج لترغب عن حقٍّ في انتصار ثورة ديموقراطية وعادلة وتحديثية في سوريا، وإن مضت في ذلك قليلاً، فإلى الحدّ الذي لا يكون خطراً مباشراً” عليها.. يمكن استخدام تلك المرحلة في الصراع الإقليمي والابتزاز الدولي بالطبع، ويمكن التراجع عن ذلك الدعم حين يكون ذلك مطلوباً، بل إن التراجع وقتها سيكون ضربة قاضية مع مؤسسة اعتادت العيش على” الزكاة” من هناك.
عملت تلك الأطراف التي استطاعت أخذ مهمة” العرّاب” من المرجعيات الدولية، على تعظيم حصة الإسلامويين في الائتلاف، وتقليص حصة أهل” الديموقراطية والعلمانية” إلى الحدّ الأدنى غير الفعّال. بعض هؤلاء الأخيرين دفعته روحه الانتقامية إلى تلك المغامرة منفرداً حتى يصل قبل الآخرين، ويستطيع عزلهم عن السياق.
مع تلك الأسلمة التي لحقتها العسكرة بسرعة، ساد الأجواء قوى أكثر تطرّفاً وانتهازية، وتفسّخ الائتلاف والعمل العسكري الذي حمل« شرعيته» أساساً من مجرّد حماية المتظاهرين السلميين، بعد أن واجهتهم رشاشات ودبابات النظام. لافت للانتباه وربما مثير للابتسام أن تكون تسمية إحدى أهم هيئات التسليح والعمل المسلّح الإسلاموي” هيئة حماية المدنيين”.
حالياً يمكن اعتبار ما بقي من الائتلاف ثلثه: بعد أن خرج منه الديموقراطيون القلة وبعض ممن حولهم أو ممن سئم الحالة؛ ثمّ تمّ تقسيمه إلى ائتلافين مؤخراً يدّعي كلٌّ منهم وصلاً بليلى.
أعتقد أن أهم مكوّنات الائتلاف حالياً هو المجلس الوطني الكردي، الذي انضمّ إليه في آب ٢٠١٣، على أساس اتفاقية متميّزة تمّ ابتلاعُها سريعاً فيما بعد، ولم تجد من يدافع عنها بالقوة المناسبة… ولا يكفي هذا المكوّن- الذي تراجع وضعه كثيراً بدوره لأسباب عديدة منها لا مكان لبسطها الآن. المهم أن وجود المجلس في الائتلاف لا يستطيع حجب حقيقة تراجعه وتعرّضه للنقد الكاسح، وغيابه من ثمّ عن القضية التي قام وتأسّس لأجلها.
بالطبع لا أرى من الصحيّ إنهاء الائتلاف طالما ما زال هنالك ما يمكن له أن يقوم به، ولو بما تقوم به” الخشب المسندة” تحت عنوان تأمين الاستمرارية؛ كذلك لا ينبغي الخلاص منه قبل تأمين بديل له.. ولعلّه بأجزائه كلها داخله وخارجه يكون جزءاً من المشروع البديل في لحظة ما.
*لو طُلب منكم إعادة تشكيل أو تأطير المعارضة السورية، لتتخلص من عقدها الكثيرة، ماذا ستقترحون؟
هذا سؤال افتراضي وتخيّلي ربّما، ولكن اللعب عليه ممكن بل فرصة للخيال والتخييل:
كانت هنالك محاولات عدة لذلك وما زالت، تعتمد على فكرة تشكيل هيئة من« الحكماء» غير ذات مصلحة في سلطة أو معارضة. وذلك صعب بل ربّما مستحيل، لأن العديد من أولئك الحكماء المفترضين ما زال يخفي بين جناحيه طموحاً كاسحاً خبرناه، وعرفناه؛ ولأنهم أنفسهم كانوا أطرافاً في الصراعات« الكريهة» أحياناً، أو عاشت على هامش القوى الإقليمية أو حتى بعض تلك السورية، وأيضاً الإسلاموية؛ وكذلك لأن بعضهم كان على الكرسيّ ولم يثبت نجاحاً كافياً للتغيير وهو على ما كان عليه، فكيف يحقق ذلك وهو بعيد عنه… بعضه في حقيقته من أهل الفكر أكثر من السياسة، وبعضهم بلغ من العمر عتيّاً وفقد الكثير من طاقاته وفاعليته.
وكانت هنالك محاولات جمع بعضها بين هيئة التنسيق والائتلاف، وأخفى بعضهم هنا وبعضهم هناك أسلحته، في حين احتفظت المرجعيات الخارجية بالدور الرئيس… ولم يؤدّ ذلك إلى نتيجة، وهو إن فعل ذلك حالياً سيكون بمثابة جمع« المتعوس إلى خايب الرج»، ولا أقصد هنا إلّا الجسم والمؤسسة، لا الأشخاص الذين أحتفظ لكثير منهم بالودّ والتقدير.
وما يخطر في بالي- ما دمتم قد سألتم- هو أن نلجأ إلى المجتمع المدني السوري، ومعه المجتمع المدني- الأوروبي حصراً-، لتشكيل مؤسسة من الخبراء الشبان السوريين وهم كثر حالياً؛ ونسلّمهم هذه المهمة بكلّ التسليم. يمكن ببساطة تحصين مثل هذا المشروع بدعم” خارجي” كاف وواف ولو بالحدّ الأدنى.
ليدرس هؤلاء واقع الأمر، ويقترحوا مشروعاً قابلاً للحياة يعزل الطامحين عن طموحهم والمشاكسين عن أهدافهم والمرتهنين عن رهاناتهم.
أتخيّل ذلك، وأجد فيه احتمالاً ممكناً يتفوّق على عجز المحاولات التي أعطبت معنويات السوريين بفشلها الدائم، وبتخلّفها الفكري والعلمي… وبانعدام النوايا الطيبة خصوصاً.
هذا يصلح للحقل السوري، وأيضاً في الحقل الكردي، الذي لا طاقة لي على احتمال غضبه.
*ما رأيك بالحوار السوري السوري؟ وهل يمكن تحقيقه في الظروف الحالية والتوصُّل إلى مؤتمر جامع يحقّق وحدة المعارضة في مواجهة استحقاقات المرحلة؟
هنالك عوائق طبيعية أمام الحوار السوري- السوري لا بدّ من تذليلها أو تحييدها قبل أن ينتقل هذا الحوار- وهو موجود ضمن حدود- إلى مستوى فاعل وضروري.
هذا العوائق الطبيعية بعضها جغرافي، حيث تتواجد أجزاء هامة من المعارضة في أحضان أو إلى جوار قوى إقليمية أو دولية طاغية الحساسية أمام ما يمسّ مصالحها، أو عنفوانها القومي. بعض تلك العوائق يمكن التغلّب عليه من خلال الشبكة العنكبوتية، لو لم تكن عوامله من النوع الاستخباري أحياناً، الذي يصيب البعض بالهلع على مصالحه. وحتى على وضعه العائلي. لم نطلب من الموجودين في بعض الأحضان- غير حضن الوطن- التوقيع على بيان بسيط كان يمكن لتوقيعهم عليه أن يشكّل خطراً وزلزالاً على وضعهم.
وباعتبار أنه من المستحيل التقاط لحظة توافق إقليمي للفوز بذلك الحوار ووضعه على طاولة مناسبة، ومن المستحيل أيضاً أن تكون هنالك طاولة بعيدة أكثر لا تحمل الأخطار على من يغامر بالمشاركة فيها، وكذلك من المستحيل أن تدبّ النوايا الطيبة والإرادة والعزيمة فجأة في معارضات استأنست الهدوء وراحة البال…
لذلك أعتقد أن ذلك الحوار صعب التحقق حالياً… على الرغم من الهيئات والتجمعات العديدة التي ظهرت لهذه المهمة. هو ممكن في حالة كون الدعاة والرعاة من النوع الذي لا يخضع للابتزاز، وسوريا وقضيتها لا تحمل ذلك الوزن حالياً. وهو ممكن في حالة تم الاتّفاق على أن يكون الدعاة مغفلين- مجهولين-، أو أن الدعوة جماعية، أو خارجية محايدة.
أما مضامين الحوار، فهي ليست معقدة ولا مستحيلة عند تحييد العوائق المذكورة: هنالك اختلاف على القضية الكردية وقضية العلمانية وعلى الهوية السورية… وعلى جدل العملية السياسية. وكلّها قابلة للتسوية والتوافق في رأيي وخبرتي.
قضية المؤتمر الجامع مهمة، وتحتاج إلى اجتماع ما لا يجتمع: من الداعمين وغيرهم، ومن الائتلاف- حامل الاسم- وغيره، ومن النظام- محتلّ الشرعية حتى الآن-، ومن القوى المتدخّلة بالقوى العنيفة أو اللطيفة في سوريا..
خلاف ذلك كلّ شيء سهل!
أعتقد أن تجزئة المهمة أكثر عملية من تلك التي تنتهي دوماً بكلمة«… الجامع” أو” … الجامعة»… لنبدأ – مثلاً- بحوار القوى الديموقراطية معاً، والقوى الكردية معاً، وسيأتي الباقون سريعاً وراءهم.
موفق نيربيه:- بروفايل
مواليد: حماة 1949- سوريا
نشأ وعاش: حمص ودمشق.
الإقامة: ألمانيا ، برلين (منذ 2013)
العمل: الصناعات النسيجية المكتب الهندسي الخاص حتى 2004.
كاتب في العلوم الاجتماعية- السياسية في الأخبار- الصحف وغيرها (التسعينيات- الآن).
كسياسي:
– نائب رئيس ائتلاف المعارضة السورية. 2013-2017
– ممثل SOC في ألمانيا ولاحقًا لدى الاتحاد الأوروبي ودول البنلوكس 2013-2015
– رئيس المنتدى الأوربي السوري الديمقراطي- منظمة غير حكومية (بروكسل 2014 – الآن).
– عضو حركة المواطنة 2012-2017
– عضو أمانة إعلان دمشق (2007-2012).
– محرر اللجنة التحضيرية لبرنامج SDPP (2003-2005).
– ناشط ربيع دمشق 2000-2003.