د. محمود عباس
القوى التي قدمت خدمات لأمريكا والعالم بمستويات لم تقدمه جيوشها الجبارة في العراق وأفغانستان، والشعب الكوردي الذي حمى الشعوب الأوروبية والأمريكية، بل والعالم، من الإرهاب بسوية لم تستطع جيوشها ودبلوماسييها والقوى الإقليمية التي تتعامل معها تقديمه، تتلقى اليوم أدنى سويات التعامل الدبلوماسي والدعم العسكري-السياسي، وتواجههم التوافقات السرية بين الدول الكبرى والإقليمية لئلا يظهر الكورد على الساحات السياسية كقوى منافسة لمحتليهم.
من السذاجة التحدث مع القوى الكبرى بمنطقة المظلومية، فهم قادة الظلم كإمبراطوريات، ومن الجهالة السياسية طلب المساعدة من أمريكا وغيرها من القوى الكبرى الوقوف في وجه الدول المحتلة لكوردستان؛ وهم أقرب حلفائهم، ولا تسمح مصالحهم مسهم بالقدر الذي يدعي الرد. لكن المؤلم عدم تمكن الحراك الكوردستاني من إقناع المسؤولين الأمريكيين والروس على أن التصريحات الصادرة من بعضهم، خطأ سياسي قبل أن يكون طعن في حقوق الشعوب، خاصة تلك التي تساوي بين الاعتداءات التركية وهي ثاني أقوى دولة في الناتو والإدارة الذاتية التي تعاني الكثير لحماية شعب المنطقة من الإرهاب الداعشي ومرتزقة تركيا وإيران.
أمريكا ودول التحالف تدرك، أن العنجهية التركية لا تقل عن عداء إيران للغرب، وأن شعوبها ستدفع يوما ما ثمن الضبابية في مواقفها تجاه ما تقوم به تركيا وإيران من الجرائم في غرب وجنوب كوردستان، وتعلم بأنه عندما تضعف أو تزول عن الساحة القوى الحقيقية الرادعة للإرهاب؛ وهي القوى الكوردية دون غيرها، ستفتح تركيا وإيران الأبواب لمرور الذئاب الضارة ليدخلوا شوارع أوروبا وأمريكا، وينفذوا أجنداتهم القومية أو الدينية.
التردد ما بين المعرفة والمصالح لدى أمريكا وأوروبا، إحدى مصاعب الكورد، فخلف الأبواب الموصدة في وجه الحراك الكوردستاني السياسي – الدبلوماسي، تقف إستراتيجية صراع الأقطاب، والتي من مصلحتها بقاء المنطقة على ما هي عليه الأن، بدءً من استخدامهم لقوى الشعب الكوردي وبسهولة، وجغرافيتهم كأحد أفضل الموارد الملائمة ضد الطرف الأخر، إلى حاجة الكورد لأدنى درجات المساعدات الخارجية، بسبب غياب الأمل في تكوين جبهة داخلية متفقة، وهذا ما تدركه كل القوى المعنية بالقضية الكوردية، لذا يتطلب من الحراك الكوردي العمل على تغيير هذه المعادلة الكارثية، والعمل بذهنية عصرية على الساحة العالمية، لفرض الذات على قدر الإمكانيات الخام الهائلة التي تملكه كوردستان.
درجت بين العامة على أن الصعود الكوردي في العقدين الأخيرين كان بفضل أمريكا، وعندما لا تدافع بشكل مباشر عنهم ولا تردع اعتداءات الدول المحتلة عليهم، تكون قد رجحت إستراتيجية بعيدة المدى؛ مستندين على كلمة قالها الرئيس جو بايدن، عندما كان نائبا للرئيس براك أوباما، للسيد مسعود البرزاني رئيس الإقليم الكوردستاني الفيدرالي على “أننا معا سنرى كوردستان” وهي التي تدفع بالقوى المحتلة على مضاعفة الحذر من الوجود الأمريكي في كوردستان.
ويرجح على أن ضبابية مواقف أمريكا وحلفائها لا تعني أنها لا تراقب أو تتناسى مجريات الأحداث، والتي يحللها البعض على أن مصالحها وهي في حالة صراع على جبهتين مع روسيا والصين لا تسمح لها بتوسيع حلقة الأعداء، ومن بينها تركيا؛ الدولة الثانية في الناتو، وهي تلعب دور في الصراعين، وعلى هذه البنية تتحرك تركيا، وأدت بها إلى تغيير موقفها من النظام السوري، وأصبحت ترى أن المعارضة السورية بالنسبة لها ولإيران مجرد تغيير في نظام الحكم، أما الصعود الكوردي فهي قضية تمس مصير الدولتين، ومستقبل جغرافية المنطقة، وربما حضور دائم لأمريكا على جغرافية كوردستان، لذلك بدأت الإستراتيجيات تتغير بين الحالتين، وتتقاطع أو تتعارض مصالح الدول الكبرى والمحتلة لكوردستان.
تركيا تدرك أن المصالح الأمريكية والروسية تسمحان لها بالتمادي في القصف الجوي والميداني قدر ما ترغب، فقط تحتاج إلى التبريرات، لذلك وقبل أن تظهر المسرحية الدراماتيكية على ساحة التقسيم في إستانبول، بشهرين، جهزت أدواتها المتوقعة أن تكون قادرة على تنفيذ مخططات الهجوم البري للمرة الرابعة على غربي كوردستان. والتي على أثرها غيرت من أماكن سيطرتهم ما بين منطقة إدلب وعفرين، وبها رفعت إمكانيات قوات هيئة تحرير الشام، مع التغيير في اسم فصائلها وإدراجهم كفصائل للجيش الوطني، ليبدأ بعدها بالفصل الثالث من المسرحية وهو تصعيد القصف الإرهابي على القرى وتدمير البنية التحتية للمنطقة بشكل إجرامي لا تقل عما فعله داعش، سايرتها دعاية التحضير للاجتياح البري، وفي كثيره هذه تغطية على جرائمها الجارية بقتلها للمدنيين.
ولذلك تزداد الشكوك حول مصداقية أمريكا، إلى درجة احتمالية التخلي عن المنطقة، كما فعلها دونالد ترامب، لكن الظروف والصراع الدولي اليوم ليس كما كانت حينها، فأي تراجع أمريكي عن المنطقة انتصار لروسيا ليس فقط في سوريا بل وفي الشرق الأوسط، ويدرك الاستراتيجيون الأمريكيون أن تركيا تقوم بهذه المهمة بشكل غير مباشر، عن طريق الطعن في علاقاتها مع قوات قسد والإدارة الذاتية، وأي تقدم تركي تعني خسارة للأمريكيين، لذلك فممارسة الضبابية؛ إلى درجة السماح لها خرق الأجواء التي تسيطر عليها القوى الجوية الأمريكية، للحفاظ على علاقاتها مع تركيا؛ على خلفية إستراتيجية الصراع مع الصين وروسيا، جريمة بحق الشعب الكوردي والقوى التي قدمت أكثر مما توقعته أمريكا من أية قوة عالمية أثناء محاربتها للإرهاب.
مع ذلك فالمسؤولين الأمريكيين، صرحوا على أن إدارة البيت الأبيض لم تعطي الضوء الأخضر لتركيا، بالنسبة لهم هذا التصريح كاف لتبيان استراتيجيتها وردع تركيا، ويدركون أنه هش بالنسبة للكورد، يتخلله خبث سياسي وتفضيل مصالح ولا يمكن مقارنته مع ما قدمته القوى الكوردية للشعب الأمريكي والأوروبي، مثلما يعلمون أن ضبابية مواقفهم في المنطقة صعود للإرهاب، إرهاب الدولة والمنظمات المدعومة منهم، وإذا كانت شعوب كوردستان تدفع الثمن اليوم، فغدا ستدفعها شعوبهم، وروسيا ضمنا.
وبالتالي على القوى الكوردية أن تدرك، أن مصالح أمريكا كإمبراطورية، ترجح التماهي على ما يجري اليوم من القصف الإجرامي والتي تستهدف المدنيين والبنية التحتية، وتبعد الدفاع الميداني المباشر، لكنها لا تسمح بالهجوم، واحتمال حصول أردوغان على الموافقة الأمريكية الروسية، شبه معدومة، علما أنه يستخدم كل إمكانياته، ومنها الأهمية التي حصل عليها في الحرب الأوكرانية، ومن ثم ثقل تركيا الإسلامي والعرقي، إلى الجانب الأمريكي في حال بدء الصراع مع الصين في شرق أسيا، إن كانت في تايوان أو كوريا الشمالية.
مع ذلك وبدراسة لشخصية أردوغان، والتي لا تختلف عن فلاديمير بوتين، يتوقع أن يقدم على المجازفة بتركيا والسقوط في مستنقع الصراع مع أمريكا، واستخدام أدواته من المعارضة السورية، مثلما فعلها بوتين مع أدواته في أوكرانيا، ولكن هنا ربما الرد الأمريكي سيكون متأخرا وليس مباشرا كما حصل لبوتين في أوكرانيا. لذلك يتطلب من كل كوردي البحث في كل الطرق للدفاع، سياسيا، دبلوماسيا، إعلاميا، بالتحالف الكوردي، وغيرها.
الولايات المتحدة الأمريكية
24/11/2022م