ماجد ع محمد
“كأنك يا أبو زيد ما غزيت”
ثمّة تصوُّر مشترك لدى أهل البصيرة وذوي الفكر الحر، بأن أردأ ما في المناهِض لسلطة مستبدة ما في أيّ بلدٍ كان، هو أن يضع حافره على حافر من ثارَ عليه مِن قبل لمجرد أن يتسنم موقع القرار بدلاً منه فيما بعد، باعتبار أنه عبر محاكاة تصرفات الجائر السابق يُظهر جلياً بأنه لم يكن من طُلاب التغيير للأفضل لاحقاً، إنما كان هدفه الأساس هو أن يعتلي موقع المتسلط القديم فحسب، وبالنظر إلى سلوكيات المئات ممن تسنموا مواقع سلطوية في الشمال السوري يبين بأنهم لم يكونوا مع تغيير بنية النظام أو إسقاطه حباً بالحرية أو رغبةً بالتخلص من جور السلطة المستبدة، إنما أن يكونوا هم في السلطة عوضاً عنه، ويمارسوا بالتالي بعد الوصولِ للعرشِ نفس موبقاته!
ولا يغيب عن بال الذي عاش في البلد أنه ولسنواتٍ طويلة كانت الصدارة لدى أجهزة أمن النظام للوشاة وأهل النميمة وأصحاب التقارير الكيدية المرحب بهم ليل نهار، إذ كان يكفي للنيل من أي شخص أو عائلة أن يقوم الواشي الرخيص باتهام تلك العائلة بأنها من الإخوان المسلمين، حتى تقوم أجهزة الدولة بناءً على الوشاية تلك بدون التحقق من مصداقية الاتهام وبدون التأكُّد من صحة أقوال الواشي باعتقال الشخص أو زجه عشرات السنين في أقبية الأفرع الأمنية، وحيث كانت تهمة الإخوان كالكابوس تلاحق أي شخص لديه ميول فطرية للدين، حتى وإن كان معارضاً للفكر الإخواني، بل وكان الكثير منهم يخاف من أداء الشعائر الدينية في مؤسسات الدولة خشيةً من أن تلاحقهم تهمة الإخوان، وهذا الأمر بدأ قبل مجزرة حماة 1982 بسنوات واستمر حتى بداية الحراك الجماهيري في سورية عام 2011.
ولكن بعد الإنتفاضة الجماهيرية في آذار عام 2011 وطرحِ الشارع السوري شعارات الحرية والكرامة على الملأ، تصوَّر الكثير من المتشوقين للاِنعتاق من مخانق المخابرات والبوليس، أن عقلية وثقافة النظام التي كانت وراء تكاثر وانتشار تلك الخسة السلوكية لدى فيلق الوضعاء من أبناء المجتمع السوري انتهت مع مظاهرات 2011، ولكن الذي لم يكن محط أملٍ لدى المنتفضين في 2011 هو أن يجدوا أمامهم ذات العفن ونفس الثقافة النتنة، ويلاحظوا نفس السلوكيات القميئة وهي منتشرة وبكثرة في المناطق المحررة مثلما هو الحال في مناطق سيطرة الأسد.
عموماً لكي لا نتحدث عن كل الشمال السوري يمكننا أخذ منطقة عفرين كعينة للنماذج التي كانت تعتاش فيما مضى صبح مساء لدى النظام على التقارير الكيدية، بما أنها تمارس اليوم نفس الخسة والوضاعة التي كانت لعقود أداة رئيسية من أدوات الأجهزة الأمنية لسلطة البعث الحاكم.
فمع أن كل من يتابع الشأن السوري ووضع منطقة عفرين على وجه الخصوص، يُدرك جيداً بأن منظومة حزب العمال الكردستاني بفروعها وروافدها انتهت في كل المنطقة منذ الشهر الثالث من عام 2018 إلاَّ أنه إلى تاريخ اليوم تعتقل الأجهزة الأمنية المنتشرة كالفطر الممجوج في بلدات وقرى المنطقة أي مواطنٍ كان لا على التعيين بدعوى الانتماء لتنظيم حزب العمال الكردستاني PKK، أو بتهمة التعامل مع إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، بالضبط كما كان الأمر في السابق لدى النظام، إذ أن قاعدة الأوباش التي كانت تعتبر كل سني أو كل معارض للنظام الحاكم هو إخواني، هي نفسها المعمول بها الآن في الشمال، فاليوم كل كردي في منطقة عفرين بنظر الأوباش المتحكمين بمصير المدنيين هناك هو PKK .
وكما كان المتدين في مناطق النظام قبل الثورة يخشى من إظهار ميوله الدينية أمام الوشاة أو في أي دائرة حكومية لئلا يُتهم بأنه إخواني، فاليوم وفق شهادات العشرات من أهل المصداقية من الأهالي، غدت تهمة العمال الكردستاني هي البديل عن تهمة الإخوان عند مقلدي مخابرات الأسد، فأي كردي لمجرد اهتمامه بالثقافة الكردية، ولمجرد أن يتكلم اللغة الكردية، ولمجرد أنه من أصلٍ كردي هو مهيأ في أيّ لحظة للاعتقال بتهمة التعامل مع الإدارة السابقة، أو بتهمة التعامل مع حزب العمال الكردستاني الذي لم يعد له أي وجود منذ أربع سنوات، وحيث أن حال الكردي حالياً في عفرين هو كحال المتدين السني في مناطق حزب البعث سابقاً.
ويبقى الغريب في الأمر حقاً هو أن نفس الفئات البشرية التي كانت تشتكي من غطرسة المخابرات وتعاني من جور وعسف جلاوزة النظام في الأمس، تمارس اليوم الجور ذاته على الغير من سكان البلد، وذلك بعد أن غدا واحدهم سلطاناً على المدنيين العزَّل بفضل دعم الجهة الخارجية التي سلَّمتهم رقاب الأهالي في المنطقة؛ وفي الأخير لا يسعنا إلاَّ تذكير هؤلاء الأنفار الطارئين على الحكم مرةً أخرى ببيت أبو أسود الدؤلي: “لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله، عارٌ عليك إذا فعلت عظيم”.