صلاح بدرالدين
أتذكر كالحلم عندما نشب نقاش بصوت عال في غرفة الضيوف بمنزلنا بقرية جمعاية، بين مجموعة من الاهل والاقارب وبينهم المرحوم والدي، حول صورة – كمال أتاتورك – التي جلبها احد المعارف معه من تركيا، ورفعها في غرفة الضيافة، مما اثار اعتراض الوالد والاهل، ومازلت أتذكر كيف ان الوالد نهر الضيف قائلا : صاحب الصورة هو سبب تشردنا، ونفي عمنا وكبير عائلتنا (خليلي سمي الذي شارك مع عشيرته – ديبو – بانتفاضة الشيخ سعيد) الى الاناضول، فكيف تريدنا ان نرفع صورته في بيتنا ؟ ثم ان البارزاني هو زعيمنا القومي، والاحرى بنا تعليق صورته، ثم ذهب الى الغرفة المجاورة ليجلب صورة كبيرة للبارزاني، ويعلقها على صدر الغرفة التي بقيت مرفوعة حتى صادرتها مخابرات النظام البعثي في حملتها الشهيرة على قريتنا بحثا عني أواسط الستينات .
نعم جيلنا ترعرع في خضم نضاله المتواصل من أجل رفع الاضطهاد القومي، وانتزاع الحقوق القومية، على متابعة أخبار البارزاني منذ ان واجه الحكومات العراقية، والاستعمار البريطاني، وهب لنصرة جمهورية مهاباد الكردستانية بايران، ومسيرته الطويلة ليجتاز مع صحبه نهر آراس، وصولا الى الاتحاد السوفييتي السابق، ومعاناته الطويلة في – الكولخوذات – بسبب السياسة الخاطئة الاستبدادية لنظام – ستالين – وبعض المسؤولين المتعصبين الآذريين، ثم وصوله الى موسكو بعهد حكم – نيكيتا خروشوف – الانفتاحي، وانتهاء بعودته الظافرة الى العراق الجمهوري عام ١٩٥٨، مرورا بمصر حيث التقى الزعيم العربي جمال عبد الناصر .
بعد عودته الى الوطن، وصار على مقربة منا، وتحول الى عنصر فاعل في السياسة العراقية، وزعيم لشعب كردستان العراق، تضاعفت متابعتنا، واهتمامنا كافراد، وكمجمل الحركة الكردية السورية، حيث وجدنا في دوره المتعاظم سندا معنويا مشجعا لنضالنا، بل ان التفاعلات الداخلية في كردستان العراق، انعكست في ساحتنا، وفرضت نفسها على مجريات الأمور الداخلية في قلب حركتنا، فلم يكن لدى غالبية المنتمين الى الحركة الكردية السورية، خيار آخر سوى دعم واسناد البارزاني، في مسيرته القومية أولا، وفي مواجهته المنشقين عن حزبه، والمتمردين على قيادة البيشمةركة، والمنحرفين عن خط الحركة، والثورة في كردستان العراق، ونحن في ساحتنا واجهنا فلولا منشقة أيضا موالية لنظام البعث ومعادية للبارزاني، ومتواطئة مع خصومه من جماعة ( ٦٦ ) .
لقد اختار البارزاني طريق الوقوف مع شعبه، وحمل طموحاته، وامانيه، رغم الصعاب والعوائق، فثار على الدكتاتورية، وأشعل ثورة أيلول عام ١٩٦١، تحت شعار (الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان)، ونال تعاطف الكرد بكل مكان، الذين وجدوا في ثورته الامل الكبير للحلم الكردي المشروع الذي تعقد عليه الامال، بل هب الكثيرون من الأجزاء الأخرى للانخراط بصفوف البيشمةركة، والتطوع، كما بادرت غالبية الحركة الكردية في الجوار الى تقديم المساعدات اللازمة، وحتى نكون منصفين علينا الاعتراف باسبقية اليسار القومي الكردي في الأجزاء الثلاثة من كردستان، بدعم واسناد البارزاني، المتجسد حينها بحزبنا (البارتي اليساري – الاتحاد الشعبي وكذلك الجناح اليساري في الحركة الكردية بتركيا بقيادة د شفان، وحزبي ديموقراطي كوردستاني ايران بقيادة احمد توفيق) .
لقد نشأت معادلة واقعية حقيقية في الساحة الكردية السورية، وهي ان من يناضل من اجل الحقوق القومية والديموقراطية لكرد سوريا بإخلاص، حزبا كان او مجموعة، او افراد لابد وان يكون مع ثورة أيلول بقيادة البارزاني، كما ان الأنظمة والحكومات السورية المتعاقبة كانت قاسية مع الخندق الكردي السوري المتعاطف مع البارزاني، ومشجعة للمعادين له .
التعرف على نهج البارزاني عن قرب
بعد عملية إعادة بناء الحركة الكردية السورية من خلال كونفراس الخامس من آب ١٩٦٥، وتصحيح المسار، وتعريف الشعب، والقضية، والبرنامج السياسي، ووضع الاستراتيجية، والتكتيكات، تقرر توجه وفد الى كردستان العراق للقاء البارزاني، وكان لي شرف ترأس الوفد حيث وصلت – كاني سماق – في أيار ١٩٦٧، والتقيت بالبارزاني ومعظم القيادات السياسية، والعسكرية حيث صدف وجودنا انعقاد الكونفرانس العسكري السياسي، ثم استكملنا اللقاء بمنطقة – قصري – حيث مكثنا يومين بضيافة الراحل الكبير، وشرحنا له تفاصيل اوضاعنا، واستمعنا الى شرحه لأهداف الثورة، والأوضاع العامة بكردستان والعراق، ثم عقدنا لقاءات مكثفة مع الراحل ادريس بارزاني المسؤول حينذاك عن الملف القومي الكردستاني، ونسقنا حول العديد من الأمور، والهموم المشتركة، وخرجت من رحلتي تلك بانطباعات يمكن ايجازها بالتالي :
أولا – ان البارزاني ومن معه يمثلون الشرعيتين الثورية، والقومية، والمنشقون عنه ليسو الا مجموعة مغامرة، يتعاملون مع نظام بغداد، ونظام ايران، وخرجوا عن اهداف الحركة، والثورة .
ثانيا – ان البارزاني قائد مجرب يحظى بثقة شعب كردستان العراق، وينشد السلم والاستقرار في عراق ديموقراطي، وانه لايكن أي عداء لاي شعب او قومية، بل يواجه سياسات الأنظمة الاستبدادية .
ثالثا – انه قائد ديموقراطي، يسمع ويتقبل آراء الاخرين، ونصير كبير لحقوق المرأة ومع العدالة الاجتماعية، ويعترف بوجود وحقوق الاقوام الأخرى بكردستان، حتى حراسه المؤتمنون على حياته وقد شاهدتهم بعيني كانوا خليطا من الكرد، والكلدان، والاشوريين، ومن المسلمين، والمسيحيين، والازيديين .
رابعا – كان البارزاني صاحب نهج سياسي قومي وكردستاني، ووطني، وكان مع نضال الكرد بكل مكان، واختياراتهم الفكرية، والسياسية، حسب ظروفهم، ومع حل القضية الكردية بكل مكان عبر الحوار السلمي .
بعد تجربتي المبكرة في التعامل مع الراحل الكبير، وبعد ان اقمت بكردستان العراق بعد عام ١٩٩٣، حاولت جاهدا التعرف على تاريخ، وآثار البارزاني، ومتابعة ماخلفه من خطابات، وكلمات، وتوجيهات، والاطلاع الميداني حتى على مخابئه السرية، وقد اصطحبنا احد الأيام الأخ الرئيس مسعود بارزاني الى المكان الذي اطلق فيه الطلقة الأولى بثورة أيلول، وكان كهفا من طابقين في منطقة شديدة الوعورة.
أقول بعد اطلاعي الواسع حاولت جاهدا توثيق كل مايتعلق بهذا القائد الفذ، وتحويله الى مصدر نظري مكتوب لفائدة الأجيال، وكنت من الداعين الى عقد ندوتين حول حياته، ونهجه في بلدة صلاح الدين، وساهمت فيهما ببحثين مطولين، ومازلت أرى ان البارزاني كان صاحب نهج متكامل من اجل تحرير شعب كردستان العراق، وساعيا الى التنسيق مع كرد الأجزاء الأخرى من دون التدخل بامورهم، وخصوصياتهم، كما انني مازلت أرى بإمكانية الوفاء له ولنهجه، وذلك باتخاذ خطوات مدروسة، وصولا الى احياء مقترحي السابق بانشاء (مركز البارزاني للسلام)، وكل تفرعاته الثقافية، والفكرية، والسياسية، والإنسانية، وأخيرا (الخيرية) .