د. محمود عباس
أردوغان، ليس بالسياسي المحنك، لكنه رجل دولة؛ يستفيد من الميكيافيلية، بإمكانه أن يكون صديقا حميما وعدوا خبيثا للمكون ذاته، لا قيم تحده، بل مصالح الدولة التركية، فخلال فترة زمنية قصيرة حصل خلاف ووئام، بينه وبين إسرائيل ومصر والسعودية، وتأرجحت علاقاته مع روسيا وأمريكا وأوروبا واليونان وأرمينيا وغيرها من الدول المجاورة، وهو ما يدفع به في هذه الفترة وعلى خلفية الحرب الأوروبية، إصدار تصريحات استفزازية، لكل الدول المعنية بالقضية السورية، على أنه سيجتاح شمال شرق سوريا وللمرة الرابعة، ويعارض قبول فنلندا والسويد في عضوية الناتو، ليصبح مركز الحدث بين الدول الأوروبية مقابل الحرب المستعرة.
له من الأولى غايتان: قريبة، وهي محاولة الحصول على الضوء الأخضر لاجتياح المنطقة الكوردية، وملئ الفراغ الذي يخلفه الانسحاب الروسي، قبل أدوات إيران. والبعيدة، هي أضعاف المعارضة الداخلية في الانتخابات القادمة، واستخدام قسم من المهاجرين السوريين، لتنفيذ مهمة احتلال المنطقة الكوردية، حتى لو تمادى وضمت إلى الجزء الشمالي تكون غربي كوردستان قد خسرت ماهيتها الكوردية.
وعلى الأرجح، مطالبه من أمريكا وروسيا على أنه يحصر العملية حاليا بين سري كانيه وعفرين، أي المنبج وكوباني، كتتمة لسابقاتها الثلاث (فيما إذا حصل على الضوء الأخضر من الدولتين الكبريين، ولا يزال مستبعداً، بل وأبعدتها التصريحات الصادرة من الوزارة الخارجية الأمريكية، وتحركاتها العسكرية، ومثلها الروسية، لكن لا يعني هذا أنه لن يستمر في محاولاته، مسخرا كل الأساليب للحصول على مبتغاه، في هذه الفترة وحيث فوضى الحروب الأوروبية؛ وليس بعدها) والتي كانت ترفضها الدولتان، وخاصة الإدارة الأمريكية بعد مجيئ جو بايدن، ولا يزال الرفض مستمرا.
أردوغان على دراية كافية بأنه لولا الحرب الأوروبية لما تجرأ على التصريح الاستفزازي، والإعلان عن احتمالية اجتياح رابع دون اتفاق مسبق. ففي الاجتياحات الماضية لم يتجاوز منطق الدولة، وعلاقاتها، والتي تنعدم فيها القيم والأخلاق، وتتغير معادلاتها بين ليلة وضحاها. والسؤال هل ستستمر أمريكا وروسيا على مواقفها الرافضة؟ أم أن ما يقال على الإعلام ليس كما يتم ضمن الأروقة الدبلوماسية وحيث أولوية المصالح؟ وهو الذي يصر على أنه لا بديل عن ضرورة الدمج بين منطقة كري سبي وعفرين، أي اجتياح منطقة كوباني والمنبج، المنطقة التي لا تزال بيد قوات قسد من غربي الفرات، وتشكل تهديدا مستمرا لوجود المعارضة السورية في عفرين وسري كانيه والباب وجرابلس وحتى إدلب، الجزء المكمل والمأمول بالنسبة لتركيا ضمها بشكل غير مباشر مع إدلب إلى لواء اسكندرونه، ولا يعني هذا أنه سيغض الطرف عن الشريط الممتد حتى عين ديوار، وبعمق 20-30 كم كما يصرح بها عادة.
ومن الثانية، على خلفية إتهام الدولتين بمساعدتهم للإرهاب، وضجة تسليم مجموعة من حزب العمال الكوردستاني، وشخصيات من جماعة گولن، تقف مسألة الضغط على السويد لرفع الحجز عن تصدير الأسلحة المتطورة لها، الحصار الذي فرض بعد الاعتقالات العديدة للصحفيين والسياسيين في السنوات الماضية.
بدراسة للتاريخ، يحاكم فرنسا وبريطانيا على تجزئة كوردستان إلى أربعة أجزاء؛ قبل الدول الأربعة المحتلة لها، كتقسيم الإمبراطوريتين الصفوية والعثمانية لها بعد معركة جالديران، والمذنب الرئيس في الحالتين، كان التخلف الكوردي، وجهالة التبعية المذهبية للطرفين. الحدث الذي يعاد اليوم وبوجه أخر عصري، لكنه أعمق جهالة، والتي تسهل للأعداء تشتيت الحراك الكوردي، وتدمير أو إضعاف الإدارتين، بدءً من سحب المكتسبات التي أعطيت لهم مقابل خدماتهم في إنقاذ أمريكا وأوروبا من أبشع المنظمات الإرهابية في عصرنا.
وبالتالي ففي كل الحالات، ما بين توحيد الجزئين، أو احتلالهما عن طريق استخدام أدواتها لإدارتها، يغيب الوعي الكوردي، المؤدي إلى عدم الاستفادة من أخطاء أردوغان، فعندما أراد عن طريق التحالف مع الكورد الطعن في معارضته، ليس لدهائه، بل لسذاجتنا، لم نتمكن من تحقيق أي مكسب. ولا زلنا نتخبط كحراك بين أطلاق الاتهامات وإعطاء التبريرات له وللمعارضة السورية، على ما يقدمون عليه، والمؤدية إلى معالجتنا للخلافات الداخلية بنفس النمط الكلاسيكي الساذج، بل وتراجعت قدراتنا في فهم مجريات الأحداث الدولية وتأثيرها على قضيتنا.
الجهلاء، أسرع الناس على التصادم وخلق التبريرات، وأضعف قدرة على الاتفاق، وحل القضايا الجدلية، وأكثرهم تكراراً للخطأ ذاته. بعكس الحكماء والمتنورين الذين من النادر أن تظهر بينهم خلافات دون أن يجدوا لها حلولا منطقية، وعرض نقد مسيئ للمجتمع. حراكنا الكوردي والكوردستاني خير من يمثل الجدلية الأولى، فمنذ ظهوره على الساحة السياسية وشبح الخلافات لم يبارحه، بل وتوسع مع الزمن، وجل ما أبدع فيه، إيجاد المبررات لها ولأخطائه، أي عمليا ولد والجهالة السياسية ملازمه، الحقيقة التي يدركها الأعداء ويسخرونها لمصالحهم ويستفيدون منها بشكل متواصل.
القضية أبعد وأعمق من أن تحتل تركيا شرق الفرات، أو أن تستمر في احتلالها لعفرين، وليتها فعلت وضمت المنطقة بديمغرافيتها إلى جغرافيتها، لكنها على دراية بضحالة مداركنا، وعدم قدرتنا على تسخير إمكانياتنا الكافية لنكون دولة مستقلة ذات شأن في المنطقة، وبالشكل المناسب.
ما الذي سيتغير إن كانت منطقتنا، محتلة من قبل الأنظمة العربية السورية، أو الطورانية التركية، ففي الحالتين سنظل نجتر الخلافات الداخلية بجهالة، وسنبدع في خلق الحجج للنظامين على احتلالهم لنا، وبالتالي سنستمر في طرح المظالم، ونسخ الأساليب الكلاسيكية المهترئة في النضال.
أي كان المحتل سيظل السؤال التالي يؤرق معظمنا: ما الفرق بين الحاضر المأزوم، والقادم المؤلم، والماضي الكارثي؟ الأنفال عرفناه، والتهجير الجماعي أعتدناه، والمستوطنات الغريبة بيننا نصطدم بهم ليل نهار، والاستيلاء على أملاكنا ومزارعنا لا يقارن باحتلال كوردستان، فنحن قادمون على تجربة كارثية مريرة جديدة لا تختلف عن سابقاتها، احتلال على احتلال، تعودنا عليها نحن الكبار في السن وسمعناها من أجدادنا، فقط قد تتغير أوجه الحكام؛ واللغة الآمرة، سيجاملهم الأجيال القادمة؛ ما داموا سيكررون مثلنا تجارب الأجداد، وسينسخون الأساليب الكلاسيكية لحل الإشكاليات، وعرض قضيتنا على العالم، والتي لا شبه لها بين قضايا الشعوب.
علينا أن نعمل على تغيير أساليبنا، ولا نكررها، حتى ولو تغير المحتل. نبحث عن الجديد، لا ننسخ القديم. نقدم للجيل القادم ما يتطلبه لتطوير مداركه، لئلا يعيد أخطاءنا وأخطاء أجدادنا مع المحتلين. ليخرج من الظلمة الذي خلفناه، ويحاوروا البعض بوعي وحكمة، ويواجهوا الأعداء ومشاريعهم العنصرية بوعي، ويسلك الطريق الصائب لبلوغ الغاية، أي علينا أن نوعي ذاتنا لنخلق جيل واع ناجح.
الولايات المتحدة الأمريكية
24/5/2022م