إبراهيم اليوسف
يسجل لمدينة – قامشلي- أنها كانت على امتداد عقود حياتها التي تصل- قرناً كاملاً- برغم اجتهادات تأريخات بعضهم غيرالدقيقة لسنة ولادتها أو بنائها- على أمل أن نحتفل بمئويتها عما قريب وهي في أمن وأمان وسلام وفي أحسن وأبهى حال- أنها استطاعت أن تكون مدينة فسيفسائية،بجدارة، وامتياز، كما قلت في الحديث عنها، ربما في أول استطلاع من نوعه نشر في صحيفة – خبات- الصادرة في إقليم كردستان والتي كنت مراسلاً لها، وقد جاء النشر المتأخرللريبورتاج فيها بعدما كتب – أصلاً- لمجلة العربي الكويتية، إلا بسبب ظروف احتلال الكويت التي أحالت دون نشره فيها، بالرغم من أنه كان هناك ثمة كتاب سابق عن هذه المدينة نشره داود إسكندر بعنوان: الجزيرة السورية بين الحاضر والماضي، ولا أتذكر سنة طباعته- وفي المناسبة- هناك أكثر من كتاب، قد كتب عن عامودا أحدها: “عامودا كاليفورنيا الشرق”، وكان الكتابان من عداد مراجع الاستطلاع الذي أجريته واستعنت بصور فوتوغرافية للصديق المصور أكرم درويش، مرفقة بمشروع استطلاع مجلة العربي المذكور.
الآن، وبعد أن أستعرض صورة هذه المدينة التي كان أهلوها يتعايشون إلى جانب بعضهم بعضاً، بالرغم من السعي الدؤوب من قبل الأنظمة القومجية الدكتاتورية لبناء الجدران والسدود بين المكونات، وتأليبها على بعضها بعضاً، إذ إنه لم ينج أحد من هذ المخطط، لاسيما بعد وصول البعث إلى سدة السلطة: الكردي المتهم بالبرزانية، ناهيك عما تم لاحقاً بحق المسيحي المتهم بالكتائبية والعربي المتهم بالصدامية، وإن كان للحقيقة، ثمة من استغرق اتهامه مدة زمانية طويلة تكاد تكون عمر و وصول وهيمنة الفكر العنصري على البلاد، وأعني الكرد ممن كانوا ولايزالون في رأس قائمة دافعي الضريبة، كما يخيل إلي، إلا أن كل هذه الشروخ المجتمعية المشتغل عليها، من قبل آلة النظام العنصري البغيض: ناصرياً أو عفلقياً، أو خليطاً من هذا وذاك- هذا في فترة عقود حكم النظام البعثي، بيد أنه ومنذ بداية الثورة السورية تسللت مثل هذه الأصوات إلى المعارضة، ليكون لكثير ممن هم في واجهاتها مواقفهم ذاتها من الكردي، لترتقي ثقافة الموقف من الآخر إلى مستوى آخر، وبائي، كارثي، عضوي، يمكن استقراؤه، على ضوء ثقافة تم الاشتغال عليها طويلاً!
أتحدَّث، هنا، عن موقف السلطة السياسية من الكردي، تحديداً- ولا أحد من المكونات خارج استبداد الدكتاتورية- لأرى أنه يستوي هنا: النظام وطابوره مع المعارضة، ممثلة بالكثيرين من رموزها ومثقفيها وإعلامييها ومرتزقتها الذين رهنوا قرارهم للممول: أية كانت هويته، وكانت تركيا في طليعة من خططوا للفتك بالكرد، وبالعلاقات بين الكرد وسواهم من أخوتهم. أبناء المكان، وشركائهم، في منطقة الجزيرة عامة، وإن كانت إيران قد خططت لمثل هذا التوغل منذ بدايات العقد الأول من الألفية الثالثة، في أقل تقدير، على نحو عياني، عبر محاولة نشر “الحسينيات” الدخيلة، وسواها، لتفتك بالجسد المجتمعي وتنخره، مستفيدة من سياسات إفقار الناس من قبل نظام دمشق وهي متبعة منذ عقود بعيدة، ولابدَّ من الاعتراف أن سياسات الإفقار كانت ذات طابع شامل، ولعل الريف العربي – كما في تل حميس مثلاً- كان من عداد دافعي الضريبة الباهظة هنا بسبب اعتماد أبنائه على الزراعة غيرالمستقرة ومعاناتهم كما سواهم من انعدام المشاريع في المنطقة: صناعية كانت أم زراعية، بالرغم من أن منطقة الجزيرة هي نبع الإنتاج: زراعياً وحيوانياً ونفطياً، ناهيك عن أن أيديها العاملة كانت ترفد المحافظات السورية كاملة، بالإضافة إلى لبنان والأردن وغيرهما، وتمت بسبب ذلك هجرات كثيرة داخلياً وخارجياً، ضمن مخطط مرسوم، لطالما أشرنا إليه!
بعد هذه المقدمة، وتناول واقع الكرد عامة، في ظل سياسات النظام العنصري في سوريا، فإن النظام الذي لطالما تخوف من انتفاضة الكرد فقد لجأ إلى التشكيك بهم، بالرغم من أن الكرد في سوريا لطالما طالبوا بحقوقهم في المساواة مع شركائهم، والاعتراف بخصوصية هويتهم، ومن بينها لغتهم وثقافتهم ورفع السياسات التمييزية الممارسة ضدهم، إلا أن حالة الاحتقان من قبل أي كردي لطالما كانت في أعلى درجاتها، برغم ما يتم من أشكال السيطرة عليها لأسباب كثيرة، في ظل الإعلام المحلي المغلق، بل الإعلام الدولي الأعمى أو المتعامي تجاه قضايا الشعب الكردي في سوريا، خاصة، وجرائم النظام عامة، لاسيما في فترة حضور القطب- السوفييتي الذي كنت من عداد المعولين على ضرورته- طويلاً، ومن هذه الأسباب:
إكراهه على الصمت و التكيف مع الكثير من تفاصيل الواقع، بالإكراه، نتيجة شراسة آلة القمع والدكتاتورية التي كانت تحاسب، في أحيان كثيرة، الحفيد، أو حفيد الحفيد، بسبب الأب، أو حتى الجد الأول. ورغم كل ذلك، فإنه، وعبر تاريخ الجزيرة، ليس منذ ماقبل وصول القومويين العنصريين إلى السلطة، فحسب، بل وحتى منذ لحظة مابعد وصولهم إليها، استطاعوا أن يواجهوا أية تحديات وخلافات اجتماعية لطالما حاول النظام إعطاءها بعداً سياسياً، وذلك من خلال حكمة الكثيرين من وجهاء المنطقة: رموز عشائر ورجالات دين وأبعاض المثقفين وبعض رجال الأعمال الذين كانوا يحوزن احترام سواهم، وليس ممن انتفعوا نتيجة التواطؤ مع أدوات النظام!
أتذكر، أنني اعترفت في أكثر من مقال، أنني، مع بداية الثورة السورية كنت موقناً أن النظام السوري سيسقط قريباً- وقد سقط حقاً وفق قناعاتي وهو يعيش الآن بسندات كفالة مافيوية دولية وإقليمية مهترئة- ومن بين ما أتذكر أنني كنت أتصرف ضمن فهمي وقناعاتي أن يتم تشكيل قوة من شباب المنطقة للدفاع عنها، قبل أن يتم تشكيل قوى – حزبية- ويتفرد أحدها، لأسباب لسنا في إطارالحديث عنها، ولقد وجدتني أعيش غارقاً في تصورات وأوهام، لا تصمد أمام الواقع، عندما تخلت نويات الفصائل العسكرية التي تشكلت، للتو، على أن مهمتها: الدفاع عن الأهل، لا أكثر. عندما تخلت عن خطابها، وباتت تخطط للهجوم على المناطق الكردية، الهادئة، مديرة الظهر لمصير المحافظات السورية التي راح رصاص النظام ينال من متظاهريها، على مرأى العالم كله، وفي أبشع وآلم صورة، في الوقت الذي كان الرئيس التركي أردوغان يتحدث عن خطه الأحمر، كما أوباما، مدعياً أن مأساة حماة لن تتكرر في سوريا، فقد استمال العناصر المنشقة، عبر تمويلهم، ومن ثم تجويعهم، ثم التلويح لهم بالرغيف والإغراءات، ليكون ذلك المسمار الرئيس في نعش الثورة السورية، بالتزامن مع محاولة الهيمنة على واجهة الثورة السورية تدريجياً، عبر بعض رخاص النفوس!
ومن بين ما أتذكر، أنه عندما تمت دعوتي لمؤتمر للسلم الأهلي في تركيا واعتذرت عن الحضور لأسباب تتعلق بعملي في الإمارات، ومثَّل- منظمة حقوق الإنسان فيها- زميلنا حفيظ عبدالرحمن الذي ترأس الهيئة التي “تم إجهاضها” مع ولادتها، فإنني ظللت أدافع بحماس عن أية فكرة للسلم الأهلي، كما فعلت مع بدايات الثورة، لما كنت أستشعره من خطورة، وكنت أشير باستمرار في مقالاتي إلى ضرورة تفويت فرصة اختراق المكونات من لدن آلة النظام، وهو ما ظللت أتمسك به، ولعل مقالات لي، أو إشارات من قبلي سلمت من السقوط من ثقوب ذاكرة “غوغل” بعد أن ضاعت مدونتنا الكردية الإلكترونية بإعدام عدد من المواقع الإلكترونية الكردية، ليبقى موقع “ولاتي مه” حاملاً رسالتها، محافظاً على بعض ذاكرتنا، برغم أنه من الضروري- وإن كان الكلام هنا استطراداً- العمل على استرجاع أرشيف المواقع الإلكترونية “الشقيقة” الموؤودة التي تضم تاريخ أهم عقدين زمنيين، من ألفيتنا هذه، قبل أن ندخل عقدها الثالث الحالي!
وإن كنت ألجأ، هنا، إلى مصطلح – السلم الأهلي- الذي يحضر ذاكرتي، فإنني لواثق أنه ما من أحد من غيارى الجزيرة- ومن بينها قامشلي التي تناولتها كرمز- إلا وكان يهمه بناء درع للسلم الأهلي، لصونه، وحمايته، وإن كان جميعنا يعرف أن النظام قد خطط لنسف هذا السلم، بيد أنه أخفق في ذلك، نتيجة الوعي العالي لكثيرين من وجوه وأبناء القبائل الخيرين، من بين المكونات الاجتماعية كلها، إذ إن أكثرهؤلاء لم يرضخ لمخطط النظام المفتضح أمره في قامشلي، وفي الجزيرة، في أعلى صور الهتك والتعرية، أثناء انتفاضة الثاني عشرمن آذار2004، بعد أن تم التخطيط لأوسع وأشرس أنموذج من الجرائم والانتهاكات والاعتداءات، وقد شدَّ أزر الكرد عاملان هما:
1-ثورة المعلوماتية التي كسرت الحدود أمام المعلومة وبات شبابنا الكردي يفضح ممارسات النظام وأزلامه
2-عظمة روح شبابنا الكردي في أوربا الذين اعتصموا في عواصم ومدن أوربية كثيرة فاضحين محاولات نظام البعث/ الأسد في إقدامه على إبادة الكرد!
لقد كان التخطيط، هذه المرة، في إشعال الفتنة، من أجل الإجهاز على وجود الكرد جد مفضوح، ليس من خلال استهداف إحدى المفرزات واغتيال أحد عناصرها، بل لمحاولة إرهاب كل من هو غير كردي، وتهديد حياته عبر استهداف أحد وجوه القبائل العربية الغيارى على الأخوة، ولعل ما نجده من فيديوات وأصوات مسجلة لبعض أزلام: النظام وإيران أو تركيا، في التأليب على الكرد، واستنخاء أهلهم العرب ضدهم، يدل، على نحو واضح تورط أكثرمن جهة، ومن دون أن ننسى أن كل ذلك يأتي بالموازاة مع الصراع الدولي في المنطقة: أمريكا وروسيا بالإضافة إلى تركيا وإيران، ومايترتب على ذلك!
تأسيساً، على ذلك، فإن خطاب إثارة الفتن – وهومن خطط الجينوسايد- لا بد من عزله، لأنه يدعو إلى حرب طويلة الأمد في المنطقة. كل مكونات المكان إن سقطوا في مستنقعها المقيت، لاسمح الله، بعد أن عض جميعهم على جراحاته، هنا وهناك، وهم يعتمدون على الإرث التاريخي بين الكرد والعرب بل وبين مكونات المكان كلها: لاسيما أهلنا المسيحيون، بأشكال انتماءاتهم: السريان- الآشوريين- الأرمن، ومن دون أن ننسى الواقع الذي يتصوره هؤلاء الحكماء لوجودهم، أنى اشتعلت حرب ضروس ما بينهم. إنها حرب النظام، الذي يستهدف هذا المكان لأسباب كثيرة، بعد أن دمر وحول ببراميل سياساته وديناميته مدناً سورية إلى مجرد حطامات، وتم تهجير نصف سكان سوريا داخلياً وخارجياً، لئلا يكون هناك شبر في سوريا من دون دمار وبحار دماء وقد دفعت المنطقة ثمن رعونته من دماء أبناء المنطقة ذاتها، في مواجهة من كان هو سبباً في استيلادهم: فصائل الارتزاق الراديكالية بكل مسمياتها، ولاسيما: النصرة وداعش، ومن يماثلهما من أدوات الاحتلال في: سري كانيي- رأس العين. تل أبيض. عفرين، ومن دون أن ننسى ما آلت إليه عفرين، أو غيرها من الأرض السورية المحتلة من قبل تركيا!
أجل، إن أعظم ما يمكن أن يقوم به ابن المكان هو العض على الجراح، ووأد المخطط الكبير الذي يتم الاشتغال عليه، وأن تتم الدعوة إلى مؤتمر جزري كبير، لكل من يقبل بالعيش المشترك، لإعادة النظر في الكثير من القضايا، وقبل كل شيء: إبعاد بؤر الفتن التي خلفها وخلقها النظام، وإشاعة روح التآخي الذي عرف به المكان، ويمكننا بالعودة إلى علاقات بعض القبائل الكردية والعربية – مثلاً- في مواجهة بعض مثيلاتها هنا وهنالك ليس على أساس عرقي، ليتم توسيع هذا التفاهم، على أوسع نطاق لئلا يظل هناك أي دور لمن رهنوا أصواتهم وقرارهم للنظام المجرم الذي جر سوريا كلها إلى هذه الهاوية، وإبعاد شبح إيران وتركيا، وتقليص دور أية جهة أجنبية، من خلال إشادة أعمدة الوئام والتفاهم، على قاعدة اعتبار السلم الأهلي فاتحة أبناء المكان، لدخول مرحلة جديدة، وفي هذا ما سيشكل قاعدة لدعم السوريين، على امتداد خريطة البلاد، لإسقاط النظام الدموي الذي سبب تدخل كل هؤلاء الغرباء في مكاننا، على أن يكون كل ذلك على قاعدة من الوثائق الممضاة من قبل أهل المكان.
بعض المقالات الأخيرة عن السلم الأهلي- ومنها الأخيرة- على سبيل الإشارة لا الحصر: