إبراهيم محمود
” إلى الصديق عبدالغني ليلي، وآخرين وآخرين جرّاء مكابدات معبَر سيمالكا “
معبَر سيمالكا الكردي بدمغته، الكردي في جهتيه، العلامة الفارقة، الشاهقة، الصاعدة بتلويحة أغلب الكرد المتعبين، ممَّن يعيشون في أغلبهم الكردي شتاتَ الداخل والخارج، وممن تناثروا، أو تكاثروا وجعاً على وجع حتى حدود ما لا يخطر على بال جغرافي، أو مسّاح جهات، معبَر لأكثر حالات الكرد عسفاً في الراهن، وما يترتب في عسفه الكردي يداً ولساناً على الراهن، أو في ضوء المستحدث في الجسد الكردي المتطاير في مهاب التجاذبات السياسية ومقاديرها المباشرة وفي وضح النهار الدولي، ومكاشفات الليل الكردي الطويل، والشامتين بالكرد جملة، أكثر من أكثر من شاهد عيان على ما تناهى إليه خبر الكرد، ومبتدأ فعل الكردي واسمهم في انزلاقاتهم الجغرافية، وانشقاقاتهم التاريخية.
معبَر سيمالكا فقه المكان الراصد لمكان ملعوب باسمه، دون مساءلة: و ” القادم أعظم ” !
كردٌ خرجوا من ديارهم في لحظات الشدة، وبالتأكيد، ليد ِ الكردي الطولى بصمة، وقد لاذوا بحدود الآخرين، بمنافذ مدقَّق فيها على هذه الخريطة أو تلك، طلباً للبصيص من الأمل الأمان. ليكتشفوا، ولما يزل الملح الساخن والصفيق للمكان الذي ينتمون إليه، أن الجرح ازداد عمق إيلام، والملح إزاد حرقة لمحيط الجرح التي استغرق الجسد الكردي أو يكاد .
معبَر سيمالكا الماء. تلك بداهة. سوى أنه في محتواه دماء الكردي الموحدة في وحدة الوجع الكردي ورذاذاته، وفي لا تناهي الصراخ الكردي في مسلخ السياسة التي تأبى التعريف بالكردي موحداً رغم أن التاريخ يُسمّي عن قرب، كائنات خرساء لم تشهد نطق حرْف من جنسه البشري، وما في تقريب المشهد هذا من سخرية ما بعدها سخرية، إزاء الكردي الذي بلبل لسان سيمالكا في العمق، وفي أعلى واجهة المتلفز حدودياً، ثمة أمم، شعوب تنسج طرائفها حوله.
معبَر سيمالكا المائي، معبَر سيمالكا البرّي، معبر سيمالكا الجوي، هو المعنى واحد غير مختلَف عليه، مشدود من خاصريتيه المأهولتين بكرد يأتي من أقاصي الأرض ساعين إلى عبوره، لعلّهم يقاومون التاريخ المنقسم على نفسه بين جنبيه، بجغرافيا مقبوض عليها في وحدتها، ليفجأوا أنهم أعجز من أن يصمدوا أمام دواماته المتشكلة منت وطأة الضفتين.
ليس الجاري على مرأى من سيمالكا مجرد ماء، طمي، حطام سهول، أتربة منجرفة، إنما هو الجسد الكردي في هزال تشكله، هو المتقاذف بين سياسة ” لا ؟ وسياسة ” نعم ” بين ” نعم ” سياسة، و” لا ” سياسة “، بين ” لا- نعم ” سياسة ، و” نعم- لا ” سياسة، حيث لا تعود ” نعم ” في يقين معناها، ولا ” لا ” في ” عالي مبناها، لتغدوا حجريْ رحى والجسد الكردي البسيط الأبعد ما يكون عن ” نعم ” و” لا ” تبعاً لارتجاجات الضفتين، المتقابيلين، طحناً في طحن.
لا أذن كردية صاغية في موقع مسئولية الإصغاء المصيرية، إلى أنين المعبَر بتجويده الكردي الموغل في الشكوى والتلوع والسخط، والتاريخ في عجلة من أمره، والجغرافيا في مسلخ التسميات، ومن يطلقها عن قرب وعن بعد. لا عين كردية ناظرة في المشهد الدامي والذي أثقَل على عموم الجاري نهراً، أعني به فجيعة الكردي الفصيح، المشرّد في وطن مطعون باسمه، والمهجَّر كردياً، وبعلامة كردية، لرؤية المذبوح في الموجود الكردي .
كل الجهات تتقاذف الكردي، لا جهة تقبل به، ولو برسم الأمانة، أنياب المغترب، المنفى، المهجر، الغربة غارزة حتى إلى ما وراء الحلقوم والرغامى، لا أرض تعترف به من النوع المنتمي إلى المترجل أو الناطق بلسان مسموع، تحت وطأة معابر سابقة، لم يدخر الكردي في تصميمها وتلغيمها، وسيمالكا نسخة أكثر حداثة، إنما أكثر إيلاماً، في امتحان الكردي الأخير، وفي وضع مروّع، حيث يسترسل السيد الكردي صاحب القول الفصل في اجتراع أهوائه، وفي معاقرة شروده عما يجري، وعلى طرفيْ سيمالكا، كرد قادمون من أقاصي الأرض، إشعاراً بأن لهم أرضاً، وكلهم إصرار بالتشبث بها، كرد قائمون، وهم في نزيف روحهم الجماعية على الجهتين، على / في أرض يعرّفون بها كردية، رغم أنهم ممزقون بين رهان كردي وآخر، في بورصة لا كري فالحاً فيها، وليس في أي جهة ما يضمن تزكية مثمنة للكرد تاريخياً .
كيف يمكن للكردي أن يصالح جسده الكردي، وفيه ذاكرته الكردية، سرديات تقاليده وأعرافه، وحكايات المكان وكائنات المكان، وقد أمضى فيه ردحاً مقدَّراً من الزمن، وأن يتناغم مع روحه المتشظية جرّاء هذا الانقسام الكردي، وليس مقاصد الأعداء وتنكيلاتهم ذات العراقة، كيف يمكن للكردي الذي حفظ عن قلب قلب كردي كان، لغات حية، ولغته في خطر من زوال ما، من نفاد حضور، على وقع هذا المجلجل على طرفيْ سيمالكا، حيث لا ذهاب ولا إهاب، ليكون المعبر الخطو الأخير للكردي فرداً وجمعاً، قبل تلاشيه الأخير، والكلّي ؟
كيف يمكن للكردي أن يصطحب معه روحه الكردية التي حملها بين جنبيه وهو في شوق معذَّب ومعذّب إلى ديار أهل، إلى مجالس تبكي أهليها، إلى زوايا تحتفظ ببقايا ظلالهم، وأصداء خطوهم على الأرض، سعياً إلى تجديد العهد بالمكان، بعد هذا الصد والرد، حيث يرتقى معبر سيمالكا إلى فكّي كماشة من نار، والماء في أشد غليانه المميت، فائضاً على الجهتين ؟
أي نوعع ِ كردي يحمله الكردي المهاجر، المغترب في قلبه وعقله، في فكره وشعوره، فرداً وعائلة، على وقع هذا النفير الصادم والهادم لكل مستوجب قرْب أو لقاء قريب، أو معانقة المكان الأول ؟ إن لم يكن ذلك، امتحان الكردي الأخير في الحياة التي تسمّيه كردياً ؟
ينسى الكردي كرديه، الأخ الكردي أخاه الكردي، الابن أباه، وبالعكس، الأخت أختها وبالعكس، الأم ابنتها وبالعكس، الجار الكردي، جاره الكردي، إن بقي له حضور، الأهل المتبقون بعض بعضهم بعضاً، لا يعود هناك من جمع، إنما نعي في الحضور والغياب، والمتوقع أوجع!
من يبكي الخراب الكردي، حين يصبح الكردي مخصبه والمستعجل في استفحاله ؟
بالطريقة هذه، وبإيجاز شديد، من معبر سيمالكا الكردي، كم يتراءى الكردي معبَراً لأفانين دسائس أعدائهم، وخصومهم، وفنون مكرهم، وشغبهم، وشُعَب أهوائهم إلى داخلهم المتداعي!