شاهين أحمد
الجميع يعلم بأن الدولة السورية الحالية بحدودها السياسية والإدارية المعروفة ، هي نتاج التقسيمات التي تعرضت لها مناطق مختلفة من العالم ، ومنها تركة الدولة العثمانية وذلك خلال الحرب العالمية الأولى وبموجب اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 ، ووفق إرادة المنتصرين في تلك الحرب ، ورغماً عن إرادة شعوب سوريا والمنطقة . ولم تشهد سوريا أية انتخابات ديمقراطية حقيقية منذ ما قبل الانقلاب الأول للبعث عام 1963 وحتى اليوم ، حيث شكل البعث والأحزاب الموالية له بعد الانقلاب الثالث بداية السبعينات من القرن العشرين تحالفاً بمسمى ” الجبهة الوطنية التقدمية ” كنوع من تعددية سياسية مكذوبة ، واحتكر البعث من خلال الجبهة المذكورة أكثر من ثلثي مقاعد البرلمان السوري المعروف بـ مجلس الشعب والذي يضم 250 عضواً، ويخصص 83 مقعداً للمستقلين الذين هم في غالبيتهم الساحقة من الموالين للبعث حيث يتم تعينهم بموجب قوائم خاصة تدعى بـ ” قوائم الظل ” ،
ومازالت سورية تعيش في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية منذ قرابة ستة عقود. واعتمد نظام البعث خلال حقبته السوداء على جملة مرتكزات ايديولوجية – حزبية شوفينية ، وكذلك أمنية وعسكرية لحمايته، ودوام سيطرته على المفاصل الأساسية للدولة والمجتمع السوري، حيث شكل البعث الواجهة السياسية- المدنية للنظام، بينما تولى الأمن والعسكر مهمة حماية الحكم. وبعد انطلاقة الثورة السورية في منتصف آذار 2011 ،وظهور تنسيقيات شبابية وحراك جماهيري شكل بارقة أمل لتشكيل لوحة سورية مستقبلية مختلفة عن حقبة البعث، إلا أن المشهد سرعان ما تراجع وشابه الارتباك والتردد شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت، بعد سيطرة التحالفات التي حصلت بين بعض أجنحة الأسلمة السياسية مع الوافدين من الأجهزة الأمنية للبعث الحاكم وتسللها إلى جسد المعارضة ومؤسساتها المختلفة. بدون أدنى شك أن قيام حياة سياسية سليمة ونشوء تعبيرات سياسية – تنظيمية جديدة ناضجة ومختلفة وقادرة على التصدي لمهام المرحلة ، وتصحيح ماتم تشويهه في مجتمع غيب عنه المناخات السياسية والديمقراطية اللازمة ، وعاش حالة من التصحر السياسي طوال أكثر من ستة عقود في ظل الدكتاتورية والشمولية ، تستغرق الكثيرمن الوقت، وتحتاج لمزيد من الجهد والإمكانات، وكذلك فإن بلورة مشهد سياسي مختلف يحتاج وقتاً أيضاً، لكن بكل أسف لم نتلمس عملياً حتى اللحظة هذا التحول المطلوب في ذهنية غالبية الشرائح المتصدرة للمشهدين الموالي والمعارض .
هل حقاً منظومتا البعث الشوفيني والأسلمة السياسية الراديكالية تشكلان معاً الركيزة الأساسية لتقسيم سوريا ؟.
قد يتفاجأ القارئ الكريم من هذا السؤال، وخاصة أن المكونان المذكوران – حزب البعث العربي الاشتراكي والأسلمة السياسية – هما أكثر جهتين أغرقتا ساحات الوطن ومساحاته بشعارات كبيرة ، تطغى عليها الحرص النظري الزائد على وحدة سوريا وسيادتها وسلامتها، وهما بنفس الوقت أكثر جهتين أضرتا بسوريا وشعبها وعلاقاتها ومستقبلها. حيث البعث الذي سيطر على سوريا من خلال سلسلة من الانقلابات التي بدأت رسمياً في الـ 8 من آذار 1963 ولم تنتهي بعد ، وأدخل سوريا بنفق مظلم منذ اغتصابه للدولة بمواردها المتنوعة وناسها، وزور تاريخها، وهمش مكوناتها الأصيلة، ودمر نسيجها الاجتماعي المتنوع والمتعايش، ورفع شعارات قوموية شوفينية، وألغى الحياة السياسية، وغير المناهج التربوية والتعليمية بما تنسجم مع المخطط الشوفيني للحزب، وأصبح الحزب هو المسار الوحيد المتاح أمام المواطن كي يدخل من خلاله إلى مؤسسات الدولة المهمة ومراكز قرارها، وتحول الحزب شيئاً فشيئاً إلى حاضنة أمنية، أفرز نوعاً من الطائفية السياسية كحامل للدكتاتورية والشمولية مع مرور الزمن، وباتت مكونات سورية الأصيلة وفي مقدمتها الشعب الكوردي غريباً في بلده، وفقيراً على أرض أجداده !. وكذلك فإن الركيزة الثانية المتمثلة في الأسلمة السياسية لاتقل خطورةً من البعث، فإذا كان البعث قد سلب سوريا الدولة بمواردها المختلفة، فإن الأسلمة السياسية قد سرقت الثورة من السوريين، وحرفتها، وأخذتها إلى مكان آخر تماماً، وعمقت الشرخ المجتمعي الذي عمل عليه البعث منذ ستة عقود، وحاولت ولاتزال استكمال ما بدأه البعث من خلال إعطاء انطباع بأن كل السوريين الثائرين هم من أتباعها، وتسببت في إدخال الراديكاليين الإسلاميين المعولمين إلى مفاصل الثورة، ومن ثم المعارضة المسلحة، وخاصة المعارضة السورية الرسمية، ونقصد بها هيئة التفاوض وفي القلب منها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ولنعد إلى سؤالنا من جديد، هل حقاً البعث والأسلمة السياسية هما أكثر جهتين تدفعان بسوريا نحو التقسيم ، وكيف ؟. ربما يتفاجأ البعض كما أسلفنا، وخاصة أنصار الجهتين تحديداً وقواعدهما وجماهيرهما، من هذا السؤال، وربما من الإجابة على هذا السؤال أكثر من السؤال نفسه. ولكن عندما نقوم بالاطلاع على تاريخ البعث منذ انقلابه الأول في 8 آذار 1963 وحتى اليوم،وماقام به من مخططات ومشاريع عنصرية، أدت إلى حصول انقسامات عامودية وأفقية في مجمل النسيج المجتمعي السوري، وكذلك عندما يتمعن المرء في دراسة مراحل الثورة والمعارضة السورية وانحرافاتها، والانتكاسات التي رافقت مسيرتها وخاصة بعد نجاح النظام في استدراجها إلى مستنقع العسكرة ،وطغيان الصبغة الطائفية على ممارساتها، وغياب الآليات الديمقراطية في نظام عملها، وانقسامها وتوزعها على الجهات الداعمة، وعدم قدرتها على اتخاذ موقف واضح من الجرائم التي ترتكبها الفصائل الراديكالية المحسوبة عليها، والتي حولت القسم الأكبر من سوريا إلى جحيم أسود، وهنا يجد المرء نفسه في مواجهة سؤال : هو كيف تدفع المعارضة السورية الرسمية التي يسيطر عليها المكون العربي السني الكريم الذي يغلب عليه الأسلمة السياسية بسوريا نحو التقسيم، وهي أكثر جهة تبدي إعلامياً تخوفها من التقسيم، وتحاول إلصاق تهمة الانفصالية بالحركة التحررية الكوردية المعروفة بطرحها القضية الكوردية طرحاً موضوعياً ،وتعمل على حلها حلاً وطنياً داخل الحدود السياسية والإدارية المعروفة للدولة السورية ، وكذلك تلصق هذه التهمة بقوات سوريا الديمقراطية ” قسد ” المكونة أساساً من مزيج من العرب والكورد والسريان والتركمان وبغالبية عربية واضحة، ولاتملك أساساً أي مشروع قومي أو ديني أو مذهبي في سوريا ؟!. وهنا لابد من التذكير ببعض الامور الأساسية التي تتحمل منظومتا البعث العربي والأسلمة السياسية كامل المسؤولية بعدم إنجازها،والتي تشكل الأرضية لتعزيز الانقسام ودفع مكونات سوريا الأقل عدداً سواءً كانت قومية أو دينية أو مذهبية إلى التفكير جدياً بكيفية التخلص من هيمنة المنظومتين المذكورتين ومنها :
1 – غياب مشروع وطني سوري تغييري جامع وشامل يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية .
2 – تطابق رؤية المعارضة الرسمية التي تسيطر عليها الأسلمة السياسية مع رؤية نظام البعث فيما يتعلق بشكل الدولة السورية المستقبلي ، وهويتها ، وطبيعة نظام الحكم فيها .
3 – انتشار الكراهية وزيادة الاحتقان نتيجة المصالحات المحلية التي حصلت بين المعارضات المسلحة والنظام، وترك فصائل المعارضة العربية الإسلامية جبهات القتال مع النظام والتوجه نحو المناطق الكوردية والمسيحية في الشريط الشمالي والشمالي الشرقي، وفشل المعارضة في تقديم نموذج حكم مختلف ( حوكمة رشيدة)، وخدمات، ومساحات لحرية الرأي أفضل من النظام أو مناطق سيطرة قسد .
4 – فشلت المعارضة التي تسيطر عليها الأسلمة السياسية في تمثيل كافة مكونات الشعب السوري ،مثلاً لانرى في مؤسسات القرار الخاصة بالمعارضة شخصيات وكيانات من الطائفة العلوية الكريمة، وكذلك من الطائفة الدرزية العزيزة، وتمثيل ضعيف للطوائف المسيحية، وتمثيل ضعيف جداً للشعب الكوردي ؟.
5 – اليوم سوريا مقسمة فعلياً إلى ثلاث مناطق نفوذ رئيسية، لكل منطقة من المناطق المذكورة إداراتها، وحكوماتها، وجيوشها، وأمنها، ونظامها التعليمي المستقل تماماً، ومواصلاتها، وعلاقاتها الدولية، ومعابرها الخارجية، ونظامها الجمركي، وعلاقاتها التجارية ..إلخ .
6 – الارتباك والتأرجح في أوساط الحراك المعارض للمكون العربي في مختلف مواقفه بين البحث عن بديل للإطار الكوردي المعبر عن وجود وحقوق الشعب الكوردي، والمتمثل في المجلس الوطني الكوردي ENKS ، وبين ترديد نفس الاسطوانة المشروخة المليئة بترسبات ثقافة الأنظمة القوموية الشمولية، وبالتالي الدوران في نفس المساحة التي رسمتها الحكومات المتعاقبة لنظام البعث!. وبقاء المعارضة أسيرةً لمنطق الاستعلاء، والتعصب القومي، والتشكيك ، وإطلاق التهم ،ورفضها للفدرالية تحت نفس الحجج التي يسوقها النظام دون مبررات واقعية ، والتردد والارتباك في مناقشة القضايا الوطنية، والتمسك برؤية فرض الدين الإسلامي على السوريين جميعاً بمن فيهم معتنقي الأديان والمذاهب الأخرى، وطرح صيغ كشكل مستقبلي للدولة لاتتناسب أبداً مع تركيبة المجتمع السوري ، مثل ” دولة المواطنة ” الذي يعتبر شكل متقدم ولكنه لايتناسب ووضعنا السوري ، نظراً لغياب كامل لشروط ومقومات بناء هذا النموذج النبيل، كون المجتمع السوري هو مزيج من المجتمع الأهلي القبلي – العشائري ، وضعف المجتمع المدني وثقافته، وغياب تام لثقافة المجتمع الوطني نظراً لشمولية البعث الذي يحكم سوريا منذ ستة عقود ومارافقه من تشويه وتزوير للإنسان السوري .
7 – هذه المنهجية في التفكير أدت بالمعارضة التي تسيطر عليها الأسلمة السياسية إلى السقوط في المستنقع الفكري – السياسي لمنظومة البعث، وحرفت الثورة عن سكتها، وتحول الصراع من صراع بين الشعب والنظام ، إلى صراع بين معارضة إسلامية متطرفة ونظام بعثي قوموي شوفيني على السلطة !. وتحولت الأحداث إلى مايشبه الحرب الأهلية، وحصل تطهير طائفي وعرقي في الكثير من المناطق والمواقع .
خلاصة الحديث
لكل ماسبق نلاحظ أن منظومتا البعث والأسلمة السياسية تسببتا معاً في خلق شرخ مجتمعي وانقسام حاد بين مكونات الشعب السوري المختلفة ،وعلى مختلف الأصعدة القومية والدينية والمذهبية وحتى الجغرافية والمناطقية والعشائرية ، وجعلت مكونات الشعب السوري تتخوف بصورةٍ جدية في مدى إمكانية التعايش معاً وفي دولةٍ واحدة مستقبلاً ، لأنه بمنتهى الصراحة لا العربي السني يقبل بعد اليوم بحكم العلوي ، ولا العلوي يثق بأن يستلم العربي السني الحكم لأنه يعرف ماينتظره من مذابح ، ولا المسيحي قادر على العيش تحت الحكم الإسلامي الراديكالي ، ولا الدرزي سيقبل أن يكون ملحقاً ، ولا الكوردي يقبل أن يكون مواطناً من الدرجة الثانية وهكذا بالنسبة للتركماني والآشوري …إلخ . وبالتالي الانقسام أصبح واقعاً يعيشه السوري . وسوريا التي خرجت الملايين من أجلها إلى الساحات والميادين هي سوريا مختلفة عن سوريا التي حاول البعث يائساً وخلال ستة عقود تجريدها من ركائزها الأساسية ، وتهميش مكوناتها الأصيلة والمتنوعة ، وجعلها عرجاء ضعيفة ، وإلباسها لوناً قومياً يتيماً !. هي سوريا الرافضة للون يتيم ، سواءً كان هذا اللون قومياً أو دينيناً أو مذهبياً . وهي نفس سوريا التي يحاول تحالف الشوفينيين من النظام وبعض متصدري المشهد المعارض سرقتها مرةً أخرى وإدخالها من جديد في نفق أكثر سواداً وحلكةً ، نفق التزاوج بين البعث الشوفيني والأسلمة السياسية المتطرفة . نقولها بكل وضوح إذا أراد السوريون الذين ضحوا بالغالي والنفيس التخلص من اللونية اليتيمة ، والخروج من الجحيم، والحفاظ على سوريا موحدة وللجميع ، عليهم أن يقطعوا الطريق أمام المولود المشوه الناتج عن التزاوج بين البعث الشوفيني والأسلمة السياسية المتطرفة ، والعمل على إنتاج جمهورية سورية اتحادية ، بنظام ديمقراطي مدني على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب السوري .
ويبقى السؤال: ماهي الخيارات الواقعية المتاحة أمام السوريين لإعادة إنتاج سوريا مختلفة وموحدة ومستقرة للجميع وبالجميع ؟… بإنتظار الإجابة من النخب السورية المخلصة .