فرمان بونجق
أيّاً كانت التسميات التي يطلقها ب ك ك على نفسه، تنظيماً، حزباً، منظومةً، وأيّاً كانت السِمات التي يطلقها على مجموعة أفكاره المستوردة من هنا وهناك، والمجترأة ليل نهار، ولسنوات وسنوات، فهو لايغدو أكثر من تنظيم مسلح يمارس نشاطات أقلّها تلك التي يمكن تسميتها بأنهاغير أخلاقية، وترقى معظمها إلى درجة الجرائم، وإن كان الكثير منها مقنّعاً، سواء على المستوى البيني أي الداخلي، عبر التخوين والاعتقالات والتصفيات لقياداته وكوادره قبل قواعده، وأحياناً قد تطال مناصريه أيضاً، ناهيك عن المختلفين معه فكرياً أو سياسياً في مناطق سيطرته، أو حتى المتاخمة لها. أمّا فيما يتعلق بنفي صفة الحزب السياسي عنه، وتكريس صفة تنظيم أو منظمة، فيكمنُ وببساطة في تركيبة قياداته، والتي لاتُخفى على أحد، أكان هذا الأحد قاصيا أو دانياً. موالياً أو معارضاً أو معادياً للتنظيم.
والأسئلة الأكثر جرأة في هذا السياق، والتي قد تكشف الجزء الهام من معضلة هذا التنظيم مع ذاته، ومع محيطه الكوردستاني، تلك التي تتعلق ببداياته الأولى، من حيث تأسيسهِ،استراتيجياته، تسليحه، والأهم من هذا وذاك، داعميه ورُعاتهِ الحصريين، منذ نشأته وحتى اللحظة الراهنة. لقد نشأ التنظيم في كنف أعتى الديكتاتوريات الشمولية في الشرق الأوسط، والمتمثلة بشخصية حافظ الأسد ونظام حكمه الوحشي، والذي كان معنيّاً وبشكل مباشر بكبح تطلعات الكورد، وفي مقدمتهم حركته السياسية،واستناداً إلى براغماتيةٍ كان يتمتع بها النظام السياسي آنذاك، استطاع أن يُدجًن شخص عبدالله أوجلان والمحيطين به، ولاحقاً ضخ الأموال والأسلحة وكافة أشكال الدعم اللوجستي ، بما فيها بناء معسكرات التدريب، وكل ذلك كان يتم تحت إشراف مؤسسات النظام الاستخبارية، وبمتابعة حثيثة لأدق التفاصيل من قبل ضباط من ذوي الرتب الرفيعة، وأيضاً ذوي الخبرة في التعامل مع قضية الأمة الكوردية في أجزائها الأربعة. وكان تنظيم ب ك ك آنذاك حصان طروادة للالتفاف على القضية ومحاولة نسفها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التنظيم عَمِل تحت شعارات وهمية ، كان هدفها استقطاب الشباب الكوردي المتحمس لخدمة قضيته، إذ وسَمَ نفسه بأنه حزب كوردستاني، وأنه سيحرر وسيوحد كوردستان، محاكاةً لفلسفة حزب البعث الذي كان سيحرر ويوحد الأمة العربية، وهذا يعيد إلى ذاكرتي المقالة المهمّة للروائي الكوردي الكبير سليم بركات، حيث نعتَ “حزب العمال الكوردستاني” بـ حزب البعث الكوردستاني.
مخطئٌ من يظن أن تأسيس ب ك ك في دمشق، وبرعاية مخابراتية على أعلى المستويات، وبتنسيق كامل مع الأنظمة الصديقة لنظام حافظ الأسد، كان بهدف تحرير شبر واحد من تراب كوردستان، وإنما كانت الغاية ضرب المشروع القومي الكوردستاني، المتمثل بقيادة وجماهير وأنصار ومؤيدو الحزب الديمقراطي الكوردستاني، والذي كان ـ أي المشروع ـ على الدوام منارةً للثوريين الكورد الطامحين للتحرر والانعتاق. وبالعودة إلى البدايات، تستطيع ذاكرة الكورد استعادة مشهد تسلل مقاتلي التنظيم منذ البدايات إلى أراضي الإقليم تحت ظروف تراجع زخم الثورة الكوردستانية آنذاك. وهذا أفضى بدوره إلى اندلاع العمليات القتالية التي شنها هؤلاء المقاتلون، والتي اتسعت دائرتها، ثم اتخذت شكل صراع إقليمي مسلح على أرض كوردستان، دفع الكورد ثمنها غالياً. وفي منتصف التسعينات، وفي سياق تبريره لتواجد مقاتليه على أرض إقليم كوردستان، قال أوجلان: “إن قوات البيشمركة تحت قيادة الملا مصطفى ذهبت إلى جمهورية مهاباد”. وقد ردّ عليه الكاتب والباحث الكوردي هوشنك أوسى: “الملا مصطفى لم يذهب محتلاّ، رافعاً سلاحه في وجه بيشمركة الجمهورية، الملا مصطفىقاتل الجيش الإيراني وقتذاك، ولم يقتل بيشمركة كوردستان إيران”.
ويُخطئ من لايظن أن مشروع تأسيس تنظيم ب ك ك، الغاية القصوى منه محاولة القضاء على البارزانية كمدرسة استطاعت أن تسوّق نفسها محلياً وإقليمياً ودوليأً، على أنها حركة تحرر وطني كوردستانية توازِنُ بين البعدين الوطني والقومي، كل ذلك تحت ظروف غاية في التعقيد،ولم يستطع أحد في هذا الكون وسمَ هذه الحركة بأنها حركة إرهابية ، بما فيهم الأعداء، بينما استطاع تنظيم ب ك ك أن يدفع الآخرين بوسمه بالتنظيم الإرهابي على نطاق دولي واسع. مما يشهد التاريخ على أن هذا التنظيم كان سبّاقاً وكحالة تاريخية نادرة،أن يُسبِغَ على جزء من الكرد هذه الصفة المقيتة.
مؤخراً ارتفعت وتيرة العنف على جزء من أراضي إقليم كوردستان، بسبب اشتداد المعارك بين الدولة التركية من جهة، ومقاتلي التنظيم من جهة أخرى، والذي تسبب في مآسي عظيمة لسكان المنطقة، إلاّ أنه من الملفت للنظر، والمؤسف في ذات الوقت، أن مقاتلي التنظيم أداروا بندقيتهم ـ والتي يزعمون أنها كوردية ـ صوب قوات البيشمركة، مما تسبب في استشهاد وجرح العديد منهم، في محاولة لتصوير النزاع على أنه صراع بين قوات التنظيم وبيشمركة الديمقراطي الكوردستاني، وبالتالي إظهار البشمركة وكأنها قوات حليفة للجيش التركي، وفي هذا السياق كان لابد من توافق سياسي على مستوى الحركة السياسية الكوردستانية ، وبالتالي على مستوى مؤسسات الإقليم القيادية أن تتبنى موقفاً موحدا إزاء مايجري من اعتداءات متكررة على السكان الآمنين وعلى قوات البشمركة على حد سواء. إلاّ أنه وفي الآونة الأخيرة، بدأت بعض أصوات المحللين السياسيين والمقربين من تنظيم ب ك ك، العزف على وتر مكتسبات ب ك ك في روجآفا، وضرورة الحفاظ عليها!!. في محاولات يائسة لتبرئة ممن يرتكبون جرائمهم، تحت حجج الحفاظ على المكتسبات، ولكنهم ينأون بأنفسهم عن ذكر هذه المكتسبات، إن كانت هناك مكتسبات. ولكن الوقائع ومنذ عشر سنوات كماضٍ قريب، تؤكد على الترابط العضوي بين نظام دمشق وتنظيم ب ك ك، ولازالت الاستراتيجية المشتركة قائمة منذ ولادتها مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وإن مشروع تأسيس التنظيم بدأ يأخذ أبعاداً أكثر اتساعاً، وغرف العمليات المشتركة للتنسيق وقيادة العمليات، هي التي ترسم سياسات ب ك ك في عمق المنطقة.
خلاصة القول.. لقد آن الأوان للقوى الديمقراطية الإقليمية والدولية كبح جماح هذا التنظيم القمعي الشمولي الذي تضرر أكثر ما تضرر منه المحيط الكوردستاني، ويجب أن يدرك القاصي قبل الداني الوظيفة البنيوية لهذا التنظيم المسلح، الذي يختبئ خلف أصبعه، والمتمثل ببعض الشعارت كمثل أخوة الشعوب، والديمقراطية المباشرة، وحرية المرأة، وغيرها وغيرها من الترّهات.
المصدر: صحيفة كوردستان