الشيخ محمد عيسى والدور المحوري في تأسيس البارتي

محمود سيدا
ولد الشيخ محمد عيسى سيدا في قرية ( قره كوى ) من قضاء ( فارتو ) التابعه لولاية ( موش ). وحسب دائرة النفوس في سوريا فهو من مواليد 1924 . لكن الأصح هو من مواليد 1923 لأن عمره خلال ثورة الشيخ سعيد كان يبلغ العامين او اكثر قليلا .
والده الشيخ محمود القره كوى واجداده من كبار علماء ومشايخ الطريقه النقشبنديه في ( سرختى ) ووالدته داغستانية الاصل من قرية ( زرنكى )
اثر احداث ثورة الشيخ سعيد علم الشيخ محمود بوجود اسمه في قائمة المطلوبين للقبض عليهم من قبل السلطات الكماليه فقد كان على صلة بالشيخ سعيد ( وفيما بعد تم اعدام ملا عبيد الله وهو زوج شقيقة الشيخ محمود ومن عائلة نقشبندية معروفه واخرين مع الشيخ سعيد ) اختفى الشيخ محمود عن الانظار . وكوسيلة ضغط ولكي يسلم نفسه قامت السلطات بالقبض على زوجته وابنه محمد عيسى الطفل ذو العامين .

تدخل ضابط داغستاني على صلة قربى بالوالده واطلق سراحهم بعد ايام من الحجز والتحقوا بالشيخ محمود الذي غادر المنطقه و توجه الى القرى الحدوديه في ولاية ماردين وسكنوا في قرية ( تل فيض ) وقرية ( عوينى ) دون ان يكشف عن شخصيته مدعيا بأنه ملا يريد تدريس الطلاب ( فقه )
في اوائل الثلاثينيات من القرن الماضي هاجرت الاسرة الى ( بنختى ) واستقرت في قرية تليلون بجانب بلدة الدرباسية  وكانت شهرة الشيخ محمود قد سبقته كونه خليفة من خلفاء الشيخ حضرت ( من نورشين ) الذائع الصيت . توافد طلاب العلم ( فقه ) على الشيخ محمود من ( سرختى ) و ( بنختى ) بعد ان تعرفوا على شخصيته .
كان الشيخ محمد عيسى وهو بعمر التسع سنوات يمضي معظم وقته مع طلاب ابيه ومع الضيوف الزائرين لتليلون ومن هؤلاء ممن فروا بعد احداث ثورة الشيخ سعيد . يستمع لأحاديثهم حول الانتهاكات التي مورست من قبل الكماليين بحق الشعب الكردي مما ترك ابلغ الاثر في نفسه ونمو الشعور القومي لديه . اذكر من هؤلاء الزوار السيد امين بروسك ( 1896 – 1974 ) المحكوم بالاعدام  فقد كان ضابطا في الجيش التركي وانضم الى قوات الشيخ سعيد حيث طالبت السطات التركيه من الفرنسيين تسليمه لهم لكن تدخل الشيخ محمود لدى الفرنسيين حال دون ذلك . وتم تسفيره الى دمشق ومن هناك الى الاردن حيث استقر في عمان . ويذكر السيد امين بروسك هذه الحادثه في مذكراته التي نشرها في الاردن .
بحث الشيخ محمد عيسى عن اناس لتعليمه الكتابه باللغة الكرديه وسمع عن اشخاص لديهم قدرة التعليم في مدينة عامودا فاستأذن والده ان يكمل تعليمه الشرعي لدى الملا عبدالحليم وهو من علماء عامودا لكنه كان يمضي معظم وقته عند حسن هشيار ليتعلم الكتابة باللغة الكردية وانضم مع رشيد كرد واوسى حرسان وحسن هشيار واخرين الى جمعية ( خويبون ) التي تم حلها بعام 1946 وكان اصغر الاعضاء سنآ . وتعرف فيها على اوصمان صبري ومع مرور الزمن  نشأت علاقة قوية بينهما خاصة بعد قدوم اوصمان الى الدرباسيه كرئيس لمركز الميرا ( استلام وتخزين الحبوب ) فأسكنه الشيخ دارا كان يملكها في البلده . 
تعرف الشيخ على الامير جلادت بدرخان في مطبعة ( سبات ) بدمشق حيث كان الامير يطبع المجلات فيها مثل ( هاوار – روناهي ) وغيرهما من المطبوعات . اعجب الامير بشخصية الشيخ ونشر حوارا دار بينهما في مجلة روناهي بالعدد رقم 7 لعام 1942 والمحفوظة نسخة منها في المعهد الكردي في باريس . وفي الحوار يعرف الشيخ نفسه باسم ( جنكبازى جبري ) وهو الاسم الحركي للشيخ .
قام الشيخ وبمساعدة احد وجهاء عشيرة ( ساروخان ) وهو الحاج حسين برو ببناء مدرسة دينية بالاضافة لمنزل وجامع في قرية ( كركند ) وتم تدريس الطلبه ( فقه ) العلوم الشرعيه بالاضافة الى تعريفهم بقضية الشعب الكردي والتغني باشعار جكرخوين خاصة ( الديوان الاول والثاني ) الذي اهتم بهذه القضيه . تخرج الكثير من الطلبه من ( سرختى و بنختى ) وقد توسعت افاقهم وحسهم الوطني اتجاه شعبهم . ورأينا لاحقا ان الكثير من الرعيل الاول في البارتي كانوا من الملالي واتذكر منهم ( ملا داود زينى وملا عبد الفريد ملا ابراهيم ) وغيرهم .
بعد وفاة الشيخ محمود في ( تشرين الثاني عام 1952 ) استلم الشيخ مهام والده ونظرا لصفاته الشخصيه وعلمه وثقافته العصريه انتشر صيته وحاز على احترام وطاعة المجتمع .
تكثفت اللقاءات مع اوصمان صبري وتوصل الاثنان الى ضرورة تأسيس تنظيم يعنى بالقضيه الكرديه في سوريا . وهنا توفر عاملان مساعدان للتأسيس : الاول الخبره السياسيه لدى اوصمان صبري الذي كان يكبر الشيخ بحدود 18 عاما والثاني توفر القاعده الشعبيه الواسعه للشيخ بالاضافه الى الامكانيات الماديه لديه .
اتصل الشيخ بالسيد عبد الحميد درويش الذي كان طالبا وابن عائلة معروفة من عشيرة ( ازيزان ) من قرية ( قرمانيه ) وعرض عليه موضوع التنظيم وذلك رغبة من الشيخ برفد التنظيم بعناصر تستطيع التحرك ضمن شريحة الطلاب ( وهناك رسائل من السيد عبد الحميد الى الشيخ يشكره فيها على ثقته ) بالاضافه الى السيد حمزه نويران وهو من مواليد قرية ( قرمانيه) الذي سبق واستقال من الحزب الشيوعي السوري .
في عام 1956 تم الاتفاق بين الاشخاص الاربعه المذكورين اعلاه على تأسيس البارتي وهم ( السيد اوصمان صبري الشيخ محمد عيسى السيد عبدالحميد درويش والسيد حمزه نويران ) وفي نفس العام غادر الشيخ الى القاهره للقاء البعض من الاسره البدرخانيه للاستشاره حول الحزب الوليد بالاضافه الى اصدقاء الشيخ مثل الشيخ ( عمر وجدي ) المدرس في جامعة الازهر وهو من اكراد ( سرختى) . تأخر الشيخ بالعوده بسبب الاعمال العسكريه التي جرت بين مصر وكل من فرنسا وانكلترا واسرائيل والتي عرفت بالعدوان الثلاثي .
بعد العوده بدأ النشاط يدب في جسم البارتي والانتشار بين الفئات الاجتماعيه و سخر الشيخ امكانياته الماديه لخدمة البارتي وساهم بشكل فعال في تغطية النفقات واشترى دارا في مدينة القامشلي ليكون بمثابة بيت للبارتي . بالاضافة الى داره الكائنه في حي الاكراد بدمشق التي كانت محطة للتواصل مع الساسة الكرد امثال ( المام جلال ) وغيره .
لتوسيع نشاط البارتي اتصل السيد اوصمان صبري مع اربعة من الشخصيات الكرديه من عفرين الذين استقالوا من الحزب الشيوعي السوري احتجاجا على عدم نشر مطبوعات الحزب الشيوعي باللغة الكرديه في المناطق الكرديه وهم الساده ( رشيد حمو – محمد علي خوجه – خليل محمد – شوكت حنان ) وعرض عليهم الانضمام للبارتي وتمت الموافقه من قبلهم على ان يعتبر اول اجتماع بعد انضمامهم  بمثابة الاجتماع التأسيسي واعتبارهم من المؤسسين . وقد حدد هذا الاجتماع بتاريخ 14- 6 – 1957 واعتبر هذا التاريخ في ادبيات البارتي هو تاريخ التأسيس ( هنا لابد من الرد على من تجاهلوا اعتبار الشيخ من المؤسسين لعدم حضوره هذا الاجتماع ووجوده في السعوديه لاداء فريضة الحج فقائمة المؤسسين تم اعتمادها قبل الاجتماع وهم كما ذكرت اسماؤهم اعلاه اربعة من الجزيره واربعة من عفرين )  
في البدايه لم يتخذ من عرفوا بمجموعة البكوات موقفا ايجابيا من البارتي الذي انتشربين مختلف شرائح المجتمع . وقام وفد منهم بزيارة للسروك البارزاني العائد من الاتحاد السوفيتي بعام 1958 في بغداد واجراء حوار معه . بعد عودتهم الى سوريا بفترة طلبوا اللقاء مع قيادة البارتي ( وهنا اعتقد ان السروك بارزاني قد حثهم على التعاون مع البارتي ) وعقد اجتماع بين الطرفين حضره من قبل البارتي كل من اوصمان صبري والشيخ محمد عيسى وسمي هذا الاجتماع في ادبيات البارتي ( اجتماع حلب ) . فيما بعد انضم الدكتور نورالدين ظاظا الى البارتي في ايلول عام 1958 وتم تسميته رئيسا للبارتي والسيد اوصمان صبري سكرتيرا 
تم ايفاد الشيخ في مهمة للبارتي خارج سوريا للقاء السروك بارزاني وظل في ضيافته مدة شهرين في بغداد ( الشهر 12 من عام 1958 والشهر 1 من عام 1959 ) وتعرف خلالها على قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وزار برفقتهم مدن هولير والسليمانيه . هذه الزياره رسخت علاقة قوية بين السروك بارزاني والشيخ وظلت مستمره كما انها اثرت ايجابيا على انتشار البارتي بعد مباركة السروك . 
وفي وقت سابق من نفس العام ( 1958 ) تم ايفاد السيد محمد باقي الشيخ ( وهو شقيق الشيخ محمد عيسى ) من قبل البارتي الى ( سرختى ) للاستطلاع والنظر بامكانية تأسيس حزب كردي هناك .
في عهد ما عرف بالانفصال في سوريا اثر الانقلاب على الوحده بين مصر وسوريه وفي عام 1961 جرت انتخابات نيابيه شارك فيها البارتي بمرشحين هما الشيخ محمد عيسى والدكتور نورالدين ظاظا . وعند مجيء المرشحين الى مدينة عامودا استقبلهم جمع غفير وحملوا سيارتهم على الاكتاف وهناك القى الشيخ كلمة باللغة الكرديه الامر الذي ادى الى اعتقالهم وتوقيفهم بحجة انتهاء مدة الدعايه الانتخابيه ولم يطلق سراحهم الا بعد صدور النتائج ( المزوره )  وتقدم الشيخ بطعن للنتائج الى مجلس الدوله – ديوان القسم القضائي بدمشق تحت رقم 25 تاريخ 14- 12- 1961
بعام 1962 وبعد ظهور التكتلات وبوادر الانشقاق في البارتي تقدم الشيخ باستقالته ولم توافق القياده واعطته مدة 6 اشهر للتراجع نظرا للثقل الشعبي الذي كان يمثله وكلف السيد رشيد حمو بالتواصل مع الشيخ ومحاولة اقناعه للعدول عن الاستقاله لكن الشيخ كان قد اتخذ قراره بعدم العوده .
بعد انقلاب البعث واستلامه السلطه في سوريا بعام 1963 تمت ملاحقة الشيخ قضائيا وامنيا واستدعي للمثول امام المحكمه العسكريه في دير الزور ( القاضي الفرد العسكري ) فلجأ الى لبنان تهريبا عن طريق الجبال الفاصله بين سوريا ولبنان . ظل اكثر من عامين ومن ثم عاد لسوريا بعد صدور العفو . خلال تواجده في لبنان كان يلتقي السيد جميل محو رئيس الحزب الديمقراطي الكردي في لبنان كما التقى بعض الشخصيات السياسيه والدينيه من المنطقه وخارجها اذكر منهم الكاتب والصحفي الامريكي دانا شميدت مؤلف كتاب ( رحلة الى رجال شجعان في كردستان ) والتقى مع احد ممثلي الفاتيكان في بيروت وهو ( الأب فوكا ) .
بعد اتفاقية 11 اذار بين قيادة الثورة الكرديه والحكومة العراقيه راسل الشيخ السروك بارزاني مبديا رغبته القدوم لكردستان جاءه الجواب عبر رسالة من السروك مرحبا به . غادر الشيخ سوريا في حزيران 1970 ومكث في ضيافة السروك الى ان التحقت به عائلته واستقرت في هولير . 
بمبادرة من السروك بارزاني تم التحضير لعقد مؤتمر لتوحيد جناحي البارتي ( اليمين واليسار وفق الاصطلاح الدارج ) في قيادة موحده وكانت الدعوة لحضور المؤتمر توجه باسم الشيخ . عقد المؤتمر في ناوبردان بتاريخ 21 اب 1970 حضر السروك الجلسه الافتتاحيه ومن ثم انتخبت القياده الجديده وسميت (القياده المرحليه ) وكان الشيخ من هذه القياده . كان اسم الشيخ مطروحا ليكون سكرتيرا ولكن اعتراض البعض من اليمين واليسار كل لأسبابه وتمتع الشيخ بقوة الشخصيه ادت الى تعيين الحاج دهام ميرو سكرتيرا للحزب .
بعد الاقامه في هولير حوالي العامين او اقل تخللتها زيارات عده قام بها الشيخ الى سوريا بمهام حزبيه عادت العائله واستقرت في تليلون . وفي ايلول من عام 1972 عقد مؤتمر اخر للحزب في الداوديه بكردستان تقدم الشيخ فيه باستقالته . في البدايه لم يوافق المؤتمر وبالحاح منه تم قبول الاستقاله ومنح العضويه الفخريه مدى الحياة .
انتهت الحياة الحزبيه للشيخ واستمر نشاطه الاجتماعي وظل متابعا وفيا لقضية شعبه . توفي الشيخ يوم الخميس تاريخ 31 ايار عام 2001 في مدينة الحسكه ووري الثرى بمقبرة العائله بدمشق .  
صورة لمجلة روناهي العدد رقم 7 عام 1942 وفيها الحوار الذي تم بين الامير جلادت و الشيخ محمد عيسى 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…