تطرقنا في العدد الماضي من هذه الجريدة ، إلى مقومات الخطاب السياسي الكردي المعاصر في سوريا ، والى ضرورة الاهتمام به وبأسلوبه التخاطبي المناسب الرامي إلى تهيئة المستقبلين والمستمعين للرسالة الكردية الموجهة .
يبقى الآن أن نتناول ما يتوجب على هذا الذي يتوجه إليه الخطاب السياسي الكردي في سوريا من استجابة أخلاقية لهذه الرسالة
وإلى ما يميله عليه من واجب وطني مقدس تجاه هذا الشعب المسالم الأمين على المصلحة الوطنية ، وعلى كرامة الوطن والمواطن وعزته ، وإزاء قضيته القومية العادلة وضرورة المشاركة الوجدانية ومساهمته في إيجاد حل ديمقراطي مناسب لها على أساس علمي ، وعلى قاعدة تعايش سلمية ثابتة تحفظ للكرد والعرب وبقية الأقليات القومية والأثنية المتواجدة على الساحة السورية خصوصياتها القومية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية ، دون أن تأخذ هذه الخصوصيات عن تلك أو أن تتنازل هذه الخصوصية عن بعض ما هو من حقها الطبيعي للقومية السائدة أو للقوميات الأخرى ، تحت أي نوع من أنواع الضغط أو الإكراه أو الحجج والبراهين الباطلة التي غالباً ما تكون من صنع واختلاق التيارات الشوفينية في السلطة الحاكمة أو من تدابير أجهزتها الأمنية .
إن سوريا كما هو معلوم من قبل الجميع تتألف من قوميات ومذاهب وأقليات متعددة وطوائف عرقية وأثنية متنوعة، وقد دلت التجارب السابقة التي طبقت على الكثير من الشعوب والشعوب التواقة إلى الحرية داخل سوريا وخارجها ، وعلى الأخص على الشعب الكردي الذي تعرض خلال تاريخه الطويل في هذه البلدان إلى التهجير والقتل والتنكيل والظلم والإبادة الجماعية ، والحرمان من أبسط الحقوق القومية والإنسانية ومحاولة الصهر والذوبان في بوتقة القوميات السائدة ، بأنه لا يموت شعب إلا بقناعاته وأنه لا يمكن المراهنة على الاستقرار الداخلي في أية دولة من تلك الدول دون أن يكون هناك استقرار تام وطمأنينة مطلقة في تأمين الحقوق القومية المشروعة للقوميات والأقليات المنضوية تحت لوائها .
ودون أن تتحقق للجميع دون استثناء أسباب بناء واقع منظم وحكومة ديمقراطية يحكمها الدستور والقانون ، وتنتفي فيها كافة أشكال وعوامل الاضطراب والفوضى وروح العداوة والبغضاء والتمييز العنصري …
لما تقدم يتضح بأنه بات من المؤكد بأنه لم تعد من المصلحة الوطنية، وخاصة أمام هذه الظروف والمستجدات والحقائق الماثلة أمام الأنظار إقدام القائمين على دست الحكم وإدارة البلاد وأصحاب الأفكار الشمولية فيها، فرض إرادتها الفردية على الجميع وإكراه الغير على الاعتقاد بها دون قناعة .وأنَّ تعيينها لاعتقادات خاطئة من قبلها والسماح لها بالتغلغل في حياتنا المشتركة، والتي من شأنها أن تسممها، وتقتل فينا روح الوطنية العالية والمخلصة الذي بإمكانه أن يعيننا على أن نخطي الكثير من العوائق والحواجز المختلفة القائمة فيما بيننا إلى بلوغ أسس حية ومتحضرة تجمع بين إطلاق الحريات الأساسية في البلاد وتعزيز الوحدة الوطنية ، وبين الحفاظ على خصوصية الشعوب والقوميات والأطياف التي لا يمكن بأي شكل من الأشكال صهر فلسفتها ووضعها عنوةً في قالب لا يحمل بين طياته شيئاً من طباعها الحقيقية الأصلية وتوجهاتها القومية وأمنياتها المنشودة …
إن الشعب الكردي الذي كان على الدوام حريصاً على الوحدة الوطنية وساعياً إلى تكريس الأخوة العربية الكردية وتجسيدها على أرض الواقع ، ولا يزال متمسكاً بهذا المبدأ السامي يكن الاحترام العميق لكل رأي منطقي ومقترح واقعي يبديه الوسط الداخلي والعربي مدرج ضمن لائحة المسميات الإنسانية التي فرضتها الإنسانية ذاتها لتلافي هضم حقوق الشعوب ، ويرحب بكل رحابة الصدر بكل طرح موضوعي منصف يقدمه الآخر الذي يتعايش معه ويقاسمه المصير .
يهدف إلى حل قضيته القومية العادلة التي غيبتها التاريخ كثيراً وطويلاً وشوهت المفاهيم الخاطئة التي تكونت على الأغلب اعتباطاً ملامحها الحقيقة ولم تنصفها بل نسيت وتناست عبثاً حق الشعوب في العيش والاستقرار والكرامة.
بل شرعت تحتفظ لنفسها دون غيرها بكل ما يناسبها ويناسب وضعها الخاص ومصلحتها وديمومة أنظمتها الاستبدادية ، وباتت تخنق فيها أنفاساً تعطلت بموجبها كل أسباب الحياة والحرية فلاذت بالفرار نهاراً جهاراً من الحياة إلى الحياة لتفرض واقعاً ثابتاً لا يقبل الجدل والعبث بمقدراته وعناصر بقائه وإقامته .
إن ما يؤلم الشعب الكردي في سوريا وحركته الوطنية بامتياز ماضياً وحاضراً أن يصفها بعض التيارات الشوفينية والعنصرية المقيتة المعادية للقومية الكردية وطموحاتها النبيلة داخل البلاد أو خارجها وفق مزاجياتها الضيقة واعتبارها حركة انفصالية تسعى لاقتطاع جزء من أراضي البلاد وبأنها ستشكل كياناً خطراً في المستقبل ..
في الوقت الذي أثبتت فيه كافة الوقائع التاريخية الدامغة بأن الكرد لم يكونوا يوماً من الأيام مجرد فرض مطلوب حسب رغبات مؤقتة من قبل الغير لتدارك ظرف ما .
بل وأكدت الدلائل الساطعة الدور النضالي والحضاري والتاريخي البارز والمساهم من قبل هذا الشعب على مدى القرون والأزمان التي مضت في إغناء الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية في المنطقة والعالم ، بالعديد من العلماء والمفكرين والمثقفين والأدباء والشعراء والمؤرخين والفلاسفة والفاتحين ، والتي تدحض الادعاءات الزائفة الزاعمة بأن الشعب الكردي سيشكل كياناً مفروضاً ، وبالتالي يؤكد بأن تمسك المعادين للقومية الكردية بهذه الذريعة الواهية ليس عدلاً ولا إنصافاً ، وإنما خوفاً من مواجهة الحقيقة الجلية ، والاعتراف بوجود قومية هامدة منذ الأزل تعيش على أرضها وتأمل أن تعيش حياة مستقرة باختيارها الحر ، وأن تنظيم حياتها وفق مقاييسها الكردية الخالصة وأن تبقى في حالة سلام ووئام وأمان مع الجميع ، وأنها بحاجة ماسة إلى هذا الغير الذي يشاطرها الحياة وعلى الأخص بحاجة إلى إنسان عربي نموذجي يتمتع بالفهم العميق لمسألته القومية ويحمل مفاهيم متحضرة ترقى به إلى المستوى الذي يجعله أميناً صادقاً شفافاً في تفسيره لواقع الشعب الكردي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ..
وأخيراً وليس آخراً ينبغي من اللذين تتوجه إليهم الرسالة الكردية الهادفة عبر خطابها السياسي المعاصر، بناء جسور المحبة والتفاهم مع الشعب الكردي وحركته النضالية ، والحوار معه حول ما يمكن أن يكون حلاً مناسباً وواقعاً سليماً لكلا الشعبين في البلاد وذلك وفق الأساليب والوسائل الديمقراطية التي يجب أن تتمتع بها الدولة السورية وتدرك سلطتها الحاكمة وتياراتها العنصرية بأن زمن الرضوخ للمبادئ الجافة وفرض الإرادة والقناعات والاعتقادات قسراً وهضم حقوق القوميات دون وجه حق قد ذهب وولى إلى غير رجعة ، وأنه بات عليها وعلى هذا الذي تربطه مع الكردي علاقات تاريخية ومصالح متبادلة ويتوجه إليه الخطاب السياسي الكردي الموضوعي المعاصر أن يؤدي واجبه تجاه نفسه وتجاه شعبه وتجاه القضية الكردية ، وعليه الالتفات إلى التطور والتقدم والحضارة والديمقراطية وحل هذه القضية الحساسة من خلال التفهم العميق لتوجهات الشعوب نحو الاستقرار والحرية ومن خلال التفسير الصحيح والسليم لكافة المسائل العالقة بمنطق موضوعي .
—