سليم عمر *
إذا كانت الحركات السياسية ضرورة ، تفرزها ظروف و عوامل معينة ، تعيشها المجتمعات البشرية ، و إذا كانت هذه الحركات تعبيرا واضحا عن تلك الحالة ، فإن من المفروض أن يأتي الخطاب السياسي لها ، متلائما و منسجما مع أمرين اثنين :
1 – الظروف الموضوعية السائدة .
و المتمثلة بنوعية النظام السياسي القائم ، و ثقافته المعتمدة ، و القيم التي تحكم العلاقات الدولية .
إذا كانت الحركات السياسية ضرورة ، تفرزها ظروف و عوامل معينة ، تعيشها المجتمعات البشرية ، و إذا كانت هذه الحركات تعبيرا واضحا عن تلك الحالة ، فإن من المفروض أن يأتي الخطاب السياسي لها ، متلائما و منسجما مع أمرين اثنين :
1 – الظروف الموضوعية السائدة .
و المتمثلة بنوعية النظام السياسي القائم ، و ثقافته المعتمدة ، و القيم التي تحكم العلاقات الدولية .
2 – الظروف الذاتية لهذه الحركات .
و المتمثلة بمستوى القوة و الوعي و وضوح الرؤية لدى قيادات و جماهير هذه الحركات ، و ما تحظى به من دعم و إسناد في الداخل و من الخارج ، و ما تملكه من أدوات ، و وسائل ، تستطيع بها أن تدافع عن نفسها ، و أن تواجه بها ما يعترض سبيلها من مصاعب .
و المتمثلة بمستوى القوة و الوعي و وضوح الرؤية لدى قيادات و جماهير هذه الحركات ، و ما تحظى به من دعم و إسناد في الداخل و من الخارج ، و ما تملكه من أدوات ، و وسائل ، تستطيع بها أن تدافع عن نفسها ، و أن تواجه بها ما يعترض سبيلها من مصاعب .
و مع أن كوردستان قد تم تقسيمها و استعبادها لقرون خلت ، و أن المجتمع الكوردي قد عايش ظروفا تباينت في هذا القسم عن الآخر ، و أنه كان من الطبيعي أن يختلف الخطاب السياسي في هذا الجزء عن غيره من الأجزاء ، إلا أن أجزاء كوردستان كافة اشتركت في عاملين اثنين :
1 – إذا استثنينا عهود الحكم الاسلامي ، و ما أعقب العهد العباسي من صراع الولاة ، و تناوبهم على الحكم ، فإن كوردستان عاشت خمسة قرون من حكم القهر و الظلام و العبودية ، هي عمر الخلافة العثمانية ، حيث تم فيها استعباد المجتمع الكوردي ، و زرع ثقافة العبودية بين أبنائه .
2 – مع انحسار العهد العثماني ، فإن الوضع الكوردي ، لم يطرأ عليه تغير ملحوظ ، باستثناء أن القبضة العثمانية على المجتمع الكوردي شهدت فترات من التراخي ، في الوقت الذي تم فيه تشديد تلك القبضة ، مع تقسيم كوردستان للمرة الثانية ، و سيطرة أنظمة قومية متخلفة و مستبدة ، على المجتمع الكوردي ، تعاملت بقسوة مع الكورد ، و رسخت ثقافة الخوف و العبودية في نفوسهم ، بشكل منظم ، و ممنهج .
و إذا كان هذان العاملان ، قد أثرا بشكل واضح ، و فعال ، في لهجة ، و نبرة ، و مستوى الخطاب السياسي الكوردي ، و تبدّله تبعا للمستجدات ، و بروز ظاهرة الاستجداء في هذا الخطاب ، و ترسخه ، فإن حديثنا سيقتصر في هذه العجالة من الدراسة على كوردستان سوريا ، و ذلك لأن دراسة سمات هذا الخطاب لدى الحركة القومية الكوردية على مستوى الأجزاء كافة ، تتطلب بحثا أشمل و أوسع ، و إلماما باللغتين التركية و الفارسية من ناحية ، و من ناحية أخرى ، فإنه و على الرغم من القاسم المشترك ، الذي يجمع الحركة القومية الكوردية ، إلا أن كل جزء عايش ظروفا و وقائع و أحداثا ، تباينت مع ما حدث في بقية الأجزاء ، كما أن أساليب النضال أخذ طابعا خاصا في كل جزء ، كان له هو الآخر أثره في بروز هذا الخطاب ، بهذه السمة أو تلك .
إن عودة إلى الوراء ، و بمقدار نصف قرن بالتحديد ، حيث تأسس أول تنظيم سياسي كوردي ، سنرى أن الواقع السياسي لسوريا ، قد انقلب رأسا على عقب ، و لما لم يمض على عملية التأسيس غير عام واحد ، فقد دخلت البلاد مرحلة الوحدة مع مصر ، حيث تم فيها تعطيل البرلمان ، و حل الأحزاب السياسية ، و قمع الحريات الفكرية ، و تأسس نظام سياسي استند على الجيش ، و على الأجهزة الأمنية ، و نالت الحركة الكوردية ، ما نالته التنظيمات السياسية الأخرى ، من قمع و ملاحقة ، و زج في السجون ، و شيوع لثقافة الخوف ، و فيما بعد و مع استلام البعث للسلطة بعد ذلك بسنوات خمس ، بما في ذلك فترة الانفصال ، التي أسست لأفكار و توجهات عنصرية حاقدة بحق الكورد ، فإن الوضع الكوردي ، انحدر نحو الأسوأ ، فبعد أن كان القمع يطال القوى السياسية على حد سواء ، و دون تمييز ، فإنه أخذ طابعا جديدا ، تميز بمحاربة الكورد ، و حركتهم التحررية ، و هدف إلى القضاء على الخصوصية القومية للكورد ، و ذلك بشكل منظم و مستمر ، و وفق برامج و دراسات معدة مسبقا .
و إذا أضفنا إلى الوضع السياسي الذي ساد سوريا خلال هذه العقود ، الموقف الاقليمي من القضية الكوردية ، و السمات التي اتسمت بها العلاقات الدولية خلال الحرب الباردة ، و ما شهدته من سباق بين الكتلتين على كسب الأنظمة ، على حساب معاناة الشعوب ، و القضايا الإنسانية ، فإن الكورد ، و معهم حركتهم القومية ، باتوا معزولين عن أي غطاء من التأييد و الدعم الخارجيين ، لا بل إن تعتيما كاملا جرى بحق هذا الشعب و قضاياه ، و ما تعرض لها من مظالم .
و في هذا الواقع المحبط ، و الظروف الصعبة ، تشكّل الخطاب السياسي الكوردي ، و أخذ سماته الأساسية التي لم يخرج عنها طوال خمسة عقود ، فتميز بالمرونة إلى حد المطاوعة ، و بالحذر إلى حد الفزع ، و بالضبابية إلى حد فقدان الرؤية ، و بالضعف إلى حد الهشاشة ، و بالاستجداء إلى حد التسوُّل و التوسُّل ، و خلال هذه العقود كلها ، فإن هذا الخطاب ظل يدور في دائرة ، شكلت خطوطا حمراء ، رسمتها القيادات الكوردية لنفسها ، و حول نفسها ، بعد أن تعرفت بالتجربة ، و باستقراء مزاج الأنظمة – إذا لم نذهب أبعد من ذلك – على الحدود الفاصلة التي يتوجب عليها التوقف عندها ، فظلت تتقيد بها ، و لم تخرج عنها ، في الوقت الذي يتطلب فيه من أية حركة سياسية أن تراجع مواقفها ، و برامجها ، و أساليب نضالها ، و اللغة التي تخاطب بها جماهيرها ، و المحافل السياسية ، كلما استجد لديها جديد ، و بالنسبة إلى الحركة الكوردية في هذا لجزء ، فإن تطورات مهمة حدثت في الخارج ، و في الوضع الكوردي ، و في الداخل أيضا :
1 – مع انهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، فإن العلاقات الدولية ، شهدت تبدلا لصالح الاهتمام بالقضايا الانسانية ، و مع تأكيد الدول المؤثرة في السياسة العالمية على مصالحها ، فإنها عملت على نشر ثقافة جديدة ، كما أن المرحلة التي أعقبت ذلك شهدت اختفاء الكثير من الأنظمة الدكتاتورية ، و انحسار الدعم عن من تبقى من هذه الأنظمة .
2 – و قد حدثت تطورات مهمة في الشأن الكوردي أيضا .
فقد حقق الكورد في كودستان العراق مكاسب مهمة ، شكلت حافزا كبيرا لبقية الأجزاء ، كما أن القضية الكوردية ، خرجت من العزلة التي حاولت الدول المقتسمة لكوردستان فرضها عليها ، و بات العالم أكثر قربا من هذه القضية ، و اكتسبت المزيد من المتفهمين و المتعاطفين ، و المؤازرين لها .
3 – و جاءت انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004 ، لتشكل منعطفا كبيرا و فرصة حقيقية نحو انتقال هذه الحركة إلى مواقع جديدة .
فقد أظهرت الجماهير الكوردية من الحماس و التوحد و التضحية ، ما يستحق الإعجاب و الثناء ، و كان لذلك أثره البالغ في اكتساب الحركة الكوردية مزيدا من التعاطف و التأييد في الداخل و في الخارج ، إلى جانب أنها اكسبت هذه الحركة ثقلا و وزنا إضافيين في الساحة السياسية .
و قد كان من المفروض أن تقف هذه الحركة عند هذه التطورات ، و أن تستثمرها ، و أن تحدث من التغيير في لهجة و أسلوب و سمة خطابها ، بما يتوافق و هذه المستجدات ، إلا أنها و بدلا من الارتقاء بنفسها إلى مستوى الحدث – و بشكل خاص حدث الانتفاضة – للإمساك بزمام الأمور، و دفع القضية الكوردية في هذا الجزء إلى مواقع جديدة ، و انتزاع مكاسب تتناسب مع حجم الحدث و التضحيات التي قدمتها الجماهير ، إلا أنها حولت نفسها إلى كابح لوقف الاندفاع الكوردي ، و إلى أداة لتفريق الجماهير و تهدئتها و إعادة تدجينها ، تحت غطاء من الذرائع الواهية ، و وعود أمنية كان من المفروض عدم الركون إليها ، و عملت فيما بعد على طيّ هذه الصفحة المشرقة ، للتغطية على دورها المقصر ، و للعودة إلى الروتين الذي دأبت عليه خلال هذه العقود المنصرمة من وجودها ، و من غير أن تبدل من أساليب العمل ، و سمة الخطاب .
لا بل إن هذا الخطاب ظل محافظا على السمات التي أتيت على ذكرها حتى في ذروة الأحداث ، و قد اخترت منه نماذج لمختلف تنظيمات هذه الحركة ، في الجبهة ، و في التحالف ، و في التنسيق ، و لمنظماتها في الخارج ، و هي مقالات ، و بيانات ، و بلاغات ، صدرت بعضها قبل الانتفاضة ، و أخرى بعدها :
– ( استعرض الإجتماع واقع شعبنا الكوردي في سوريا و الذي لا يزال محروما من أبسط حقوقه القومية العادلة بل و طبقت بحقه مشاريع عنصرية و تدابير استثنائية عرقلت تطوره و كبلته عن أداء دوره الوطني بالشكل المطلوب ) .
– ( و في الختام طالب النداء الذي أصدرته منظمة حزبنا في ألمانيا الرأي العام ، و الحكومة الألمانية بممارسة الضغوط على الحكومة السورية لإيجاد حل ديمقراطي سلمي للقضية الكوردية في سوريا )
– ( إننا نأمل منكم يا سيادة الرئيس الإيعاز ، بإلغاء مثل هذه المشاريع )
– ( نرجو أن لا تكون هذه الأساليب هي التي يتم التعامل بها معنا )
– ( إننا نناشد سيادة الرئيس للإيعاز للإفراج عنه ، و إطلاق سراحه )
– ( و من هنا فإننا في الحركة الكوردية قي سوريا في الوقت الذي نثمن فيه عاليا هذه المبادرة الإيجابية من سيادته ، نأمل من سيادته الإيعاز بالإفراج عن كافة المعتقلين ) .
– ( معالجة الأحداث بحكمة و تعقل ، و محاسبة المسؤولين عن قتل العديد من المواطنين حتى يمكن إشاعة الاستقرار بين الجماهير الكوردية بشكل خاص و السورية بشكل عام ).
– ( نناشد السيد رئيس الجمهورية الوفاء بوعده ، و إيجاد حل لهذه المشكلة ، تعزيزا لوحدة الصف الوطني ) .
لا بل إن أحد هذه التنظيمات تأثر بمصطلحات النظام ، فراح يضمنها خطابه :
– ( اللجنة المركزية عقدت اجتماعها بغياب ……….
لسفره إلى خارج القطر ) .
و قد يخرج علينا من يقول إن هذه النماذج منتقاة ، و ما هي إلا غيض من فيض ، و هو محق في ذلك ، و لكن الحقيقة أيضا ، أن هذا الغيض هو من فيض يماثله أو يطابقه ، و أن أشد هذا الخطاب ثورية ، و حدّةً ، ما انتهى بمفردات : نطالب ، نستنكر ، ندين ، ندين بشدة ، و هي عبارات لم تعد تزعج النظام ، طالما أنها لا تحرك ساكنا.
و إذا كانت مستجدات الأوضاع ، و الظروف المختلفة ، لم تُخرج هذا الخطاب السياسي من ركوده ، و دورانه في الفلك الذي ظل يسبح فيه طيلة هذه السنوات ، و لم تستطع أن تمسح عنه سمة الاستجداء ، فأين كان دور الفئات الشابة و المثقفة التي ظلت ترفد هذه الحركة ، و التي وجدت طريقها إلى تنظيماتها في كل مرحلة من عملها ، و ما الذي قدمته و أضافته المجموعات المنسلخة عن أحزابها إلى هذا الخطاب السياسي ، و هي التي تمردت على قياداتها ، و اتهمتها بالانبطاحية ، و التخلف عن الأحداث ، و الاستسلام للواقع .
و في الحقيقة ، فإن الفريقين ، لم يقدما جديدا ، و لم يشكلا بديلا للأطر الكلاسيكية ، و للخطاب المكرر الممل .
فالفئات الشابة المثقفة ، التي اندفعت إلى الانخراط في العمل التنظيمي الكوردي ، انتهى بها المطاف إلى حالتين اثنتين :
1 – قسم اندفع إلى الانخراط في هذا التنظيم أو ذاك ، و كله طموح ، و أمل ، بأن يدفع بالتنظيم إلى موقع ينسجم فيه مع التغيرات على الأرض ، فيبدل في خطابه ، و أساليب عمله ، و ظل مخلصا لتوجهاته ، إلا أنه وجد نفسه غريبا في محيطه ، و تم الدفع به خارجا ، أو أنه آثر السلامة فاندفع إلى الخارج بنفسه .
2 – و قسم آخر لم يكن في الأصل يمتلك رؤية واضحة لواقع الحركة ، و لجوانب الخلل الذي تعاني منه ، و ضرورة معالجة تلك الجوانب ، و الأساليب الكفيلة لذلك ، و لهذا فإن هذا القسم سرعان ما و جد نفسه يندمج في الوضع القائم ، و يتحول إلى جزء من التركة و المشكلة .
أما هذه المجموعات التي انقسمت على قياداتها ، فإنها هي الأخرى ، لم ترسخ لأساليب جديدة في العمل ، و لم تعمل على تأسيس خطاب سياسي جديد ، و مدروس ، و منسجم مع الواقع الكوردي ، و الظروف المحيطة ، لا يتجاوز ذلك ، و لا يتخلف عنه ، و ذلك لأن العناصر الفعالة من هذه المجموعات ، لم تكن تهدف إلى التغيير أصلا ، و إنما ركبت موجة الشعارات ، للوصول إلى مآرب شخصية لا قيمة لها بكل المقاييس ، و لهذا فإن الأمر لم يطل بها حتى أدارت ظهرها لليافطات التي رفعتها ، و عادت إلى القيادات التي تمردت عليها ، فتمترست خلفها ، أما ما تبقى منها ، فقد نكصت على أعقابها ، تبتلع مرارة الحيرة ، و الخيبة.
لقد تكرست ثقافة العبودية في المجتمع الكوردي ، على مدى قرون ، و جاءت الحركة الكوردية لترسخ من هذه الثقافة ، و يبدو لي ، أن وقتا غير قصير سينقضي ، قبل أن تنفض هذه الحركة عن نفسها ظاهرة الاستجداء في خطابها السياسي ، و قبل أن تخرج إلينا بخطاب واقعي ، و موزون ، يتماشى مع الحدث ، لايسبقه ، و لا يتخلف عنه.
——-
* كاتب كوردي .
1 – إذا استثنينا عهود الحكم الاسلامي ، و ما أعقب العهد العباسي من صراع الولاة ، و تناوبهم على الحكم ، فإن كوردستان عاشت خمسة قرون من حكم القهر و الظلام و العبودية ، هي عمر الخلافة العثمانية ، حيث تم فيها استعباد المجتمع الكوردي ، و زرع ثقافة العبودية بين أبنائه .
2 – مع انحسار العهد العثماني ، فإن الوضع الكوردي ، لم يطرأ عليه تغير ملحوظ ، باستثناء أن القبضة العثمانية على المجتمع الكوردي شهدت فترات من التراخي ، في الوقت الذي تم فيه تشديد تلك القبضة ، مع تقسيم كوردستان للمرة الثانية ، و سيطرة أنظمة قومية متخلفة و مستبدة ، على المجتمع الكوردي ، تعاملت بقسوة مع الكورد ، و رسخت ثقافة الخوف و العبودية في نفوسهم ، بشكل منظم ، و ممنهج .
و إذا كان هذان العاملان ، قد أثرا بشكل واضح ، و فعال ، في لهجة ، و نبرة ، و مستوى الخطاب السياسي الكوردي ، و تبدّله تبعا للمستجدات ، و بروز ظاهرة الاستجداء في هذا الخطاب ، و ترسخه ، فإن حديثنا سيقتصر في هذه العجالة من الدراسة على كوردستان سوريا ، و ذلك لأن دراسة سمات هذا الخطاب لدى الحركة القومية الكوردية على مستوى الأجزاء كافة ، تتطلب بحثا أشمل و أوسع ، و إلماما باللغتين التركية و الفارسية من ناحية ، و من ناحية أخرى ، فإنه و على الرغم من القاسم المشترك ، الذي يجمع الحركة القومية الكوردية ، إلا أن كل جزء عايش ظروفا و وقائع و أحداثا ، تباينت مع ما حدث في بقية الأجزاء ، كما أن أساليب النضال أخذ طابعا خاصا في كل جزء ، كان له هو الآخر أثره في بروز هذا الخطاب ، بهذه السمة أو تلك .
إن عودة إلى الوراء ، و بمقدار نصف قرن بالتحديد ، حيث تأسس أول تنظيم سياسي كوردي ، سنرى أن الواقع السياسي لسوريا ، قد انقلب رأسا على عقب ، و لما لم يمض على عملية التأسيس غير عام واحد ، فقد دخلت البلاد مرحلة الوحدة مع مصر ، حيث تم فيها تعطيل البرلمان ، و حل الأحزاب السياسية ، و قمع الحريات الفكرية ، و تأسس نظام سياسي استند على الجيش ، و على الأجهزة الأمنية ، و نالت الحركة الكوردية ، ما نالته التنظيمات السياسية الأخرى ، من قمع و ملاحقة ، و زج في السجون ، و شيوع لثقافة الخوف ، و فيما بعد و مع استلام البعث للسلطة بعد ذلك بسنوات خمس ، بما في ذلك فترة الانفصال ، التي أسست لأفكار و توجهات عنصرية حاقدة بحق الكورد ، فإن الوضع الكوردي ، انحدر نحو الأسوأ ، فبعد أن كان القمع يطال القوى السياسية على حد سواء ، و دون تمييز ، فإنه أخذ طابعا جديدا ، تميز بمحاربة الكورد ، و حركتهم التحررية ، و هدف إلى القضاء على الخصوصية القومية للكورد ، و ذلك بشكل منظم و مستمر ، و وفق برامج و دراسات معدة مسبقا .
و إذا أضفنا إلى الوضع السياسي الذي ساد سوريا خلال هذه العقود ، الموقف الاقليمي من القضية الكوردية ، و السمات التي اتسمت بها العلاقات الدولية خلال الحرب الباردة ، و ما شهدته من سباق بين الكتلتين على كسب الأنظمة ، على حساب معاناة الشعوب ، و القضايا الإنسانية ، فإن الكورد ، و معهم حركتهم القومية ، باتوا معزولين عن أي غطاء من التأييد و الدعم الخارجيين ، لا بل إن تعتيما كاملا جرى بحق هذا الشعب و قضاياه ، و ما تعرض لها من مظالم .
و في هذا الواقع المحبط ، و الظروف الصعبة ، تشكّل الخطاب السياسي الكوردي ، و أخذ سماته الأساسية التي لم يخرج عنها طوال خمسة عقود ، فتميز بالمرونة إلى حد المطاوعة ، و بالحذر إلى حد الفزع ، و بالضبابية إلى حد فقدان الرؤية ، و بالضعف إلى حد الهشاشة ، و بالاستجداء إلى حد التسوُّل و التوسُّل ، و خلال هذه العقود كلها ، فإن هذا الخطاب ظل يدور في دائرة ، شكلت خطوطا حمراء ، رسمتها القيادات الكوردية لنفسها ، و حول نفسها ، بعد أن تعرفت بالتجربة ، و باستقراء مزاج الأنظمة – إذا لم نذهب أبعد من ذلك – على الحدود الفاصلة التي يتوجب عليها التوقف عندها ، فظلت تتقيد بها ، و لم تخرج عنها ، في الوقت الذي يتطلب فيه من أية حركة سياسية أن تراجع مواقفها ، و برامجها ، و أساليب نضالها ، و اللغة التي تخاطب بها جماهيرها ، و المحافل السياسية ، كلما استجد لديها جديد ، و بالنسبة إلى الحركة الكوردية في هذا لجزء ، فإن تطورات مهمة حدثت في الخارج ، و في الوضع الكوردي ، و في الداخل أيضا :
1 – مع انهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، فإن العلاقات الدولية ، شهدت تبدلا لصالح الاهتمام بالقضايا الانسانية ، و مع تأكيد الدول المؤثرة في السياسة العالمية على مصالحها ، فإنها عملت على نشر ثقافة جديدة ، كما أن المرحلة التي أعقبت ذلك شهدت اختفاء الكثير من الأنظمة الدكتاتورية ، و انحسار الدعم عن من تبقى من هذه الأنظمة .
2 – و قد حدثت تطورات مهمة في الشأن الكوردي أيضا .
فقد حقق الكورد في كودستان العراق مكاسب مهمة ، شكلت حافزا كبيرا لبقية الأجزاء ، كما أن القضية الكوردية ، خرجت من العزلة التي حاولت الدول المقتسمة لكوردستان فرضها عليها ، و بات العالم أكثر قربا من هذه القضية ، و اكتسبت المزيد من المتفهمين و المتعاطفين ، و المؤازرين لها .
3 – و جاءت انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004 ، لتشكل منعطفا كبيرا و فرصة حقيقية نحو انتقال هذه الحركة إلى مواقع جديدة .
فقد أظهرت الجماهير الكوردية من الحماس و التوحد و التضحية ، ما يستحق الإعجاب و الثناء ، و كان لذلك أثره البالغ في اكتساب الحركة الكوردية مزيدا من التعاطف و التأييد في الداخل و في الخارج ، إلى جانب أنها اكسبت هذه الحركة ثقلا و وزنا إضافيين في الساحة السياسية .
و قد كان من المفروض أن تقف هذه الحركة عند هذه التطورات ، و أن تستثمرها ، و أن تحدث من التغيير في لهجة و أسلوب و سمة خطابها ، بما يتوافق و هذه المستجدات ، إلا أنها و بدلا من الارتقاء بنفسها إلى مستوى الحدث – و بشكل خاص حدث الانتفاضة – للإمساك بزمام الأمور، و دفع القضية الكوردية في هذا الجزء إلى مواقع جديدة ، و انتزاع مكاسب تتناسب مع حجم الحدث و التضحيات التي قدمتها الجماهير ، إلا أنها حولت نفسها إلى كابح لوقف الاندفاع الكوردي ، و إلى أداة لتفريق الجماهير و تهدئتها و إعادة تدجينها ، تحت غطاء من الذرائع الواهية ، و وعود أمنية كان من المفروض عدم الركون إليها ، و عملت فيما بعد على طيّ هذه الصفحة المشرقة ، للتغطية على دورها المقصر ، و للعودة إلى الروتين الذي دأبت عليه خلال هذه العقود المنصرمة من وجودها ، و من غير أن تبدل من أساليب العمل ، و سمة الخطاب .
لا بل إن هذا الخطاب ظل محافظا على السمات التي أتيت على ذكرها حتى في ذروة الأحداث ، و قد اخترت منه نماذج لمختلف تنظيمات هذه الحركة ، في الجبهة ، و في التحالف ، و في التنسيق ، و لمنظماتها في الخارج ، و هي مقالات ، و بيانات ، و بلاغات ، صدرت بعضها قبل الانتفاضة ، و أخرى بعدها :
– ( استعرض الإجتماع واقع شعبنا الكوردي في سوريا و الذي لا يزال محروما من أبسط حقوقه القومية العادلة بل و طبقت بحقه مشاريع عنصرية و تدابير استثنائية عرقلت تطوره و كبلته عن أداء دوره الوطني بالشكل المطلوب ) .
– ( و في الختام طالب النداء الذي أصدرته منظمة حزبنا في ألمانيا الرأي العام ، و الحكومة الألمانية بممارسة الضغوط على الحكومة السورية لإيجاد حل ديمقراطي سلمي للقضية الكوردية في سوريا )
– ( إننا نأمل منكم يا سيادة الرئيس الإيعاز ، بإلغاء مثل هذه المشاريع )
– ( نرجو أن لا تكون هذه الأساليب هي التي يتم التعامل بها معنا )
– ( إننا نناشد سيادة الرئيس للإيعاز للإفراج عنه ، و إطلاق سراحه )
– ( و من هنا فإننا في الحركة الكوردية قي سوريا في الوقت الذي نثمن فيه عاليا هذه المبادرة الإيجابية من سيادته ، نأمل من سيادته الإيعاز بالإفراج عن كافة المعتقلين ) .
– ( معالجة الأحداث بحكمة و تعقل ، و محاسبة المسؤولين عن قتل العديد من المواطنين حتى يمكن إشاعة الاستقرار بين الجماهير الكوردية بشكل خاص و السورية بشكل عام ).
– ( نناشد السيد رئيس الجمهورية الوفاء بوعده ، و إيجاد حل لهذه المشكلة ، تعزيزا لوحدة الصف الوطني ) .
لا بل إن أحد هذه التنظيمات تأثر بمصطلحات النظام ، فراح يضمنها خطابه :
– ( اللجنة المركزية عقدت اجتماعها بغياب ……….
لسفره إلى خارج القطر ) .
و قد يخرج علينا من يقول إن هذه النماذج منتقاة ، و ما هي إلا غيض من فيض ، و هو محق في ذلك ، و لكن الحقيقة أيضا ، أن هذا الغيض هو من فيض يماثله أو يطابقه ، و أن أشد هذا الخطاب ثورية ، و حدّةً ، ما انتهى بمفردات : نطالب ، نستنكر ، ندين ، ندين بشدة ، و هي عبارات لم تعد تزعج النظام ، طالما أنها لا تحرك ساكنا.
و إذا كانت مستجدات الأوضاع ، و الظروف المختلفة ، لم تُخرج هذا الخطاب السياسي من ركوده ، و دورانه في الفلك الذي ظل يسبح فيه طيلة هذه السنوات ، و لم تستطع أن تمسح عنه سمة الاستجداء ، فأين كان دور الفئات الشابة و المثقفة التي ظلت ترفد هذه الحركة ، و التي وجدت طريقها إلى تنظيماتها في كل مرحلة من عملها ، و ما الذي قدمته و أضافته المجموعات المنسلخة عن أحزابها إلى هذا الخطاب السياسي ، و هي التي تمردت على قياداتها ، و اتهمتها بالانبطاحية ، و التخلف عن الأحداث ، و الاستسلام للواقع .
و في الحقيقة ، فإن الفريقين ، لم يقدما جديدا ، و لم يشكلا بديلا للأطر الكلاسيكية ، و للخطاب المكرر الممل .
فالفئات الشابة المثقفة ، التي اندفعت إلى الانخراط في العمل التنظيمي الكوردي ، انتهى بها المطاف إلى حالتين اثنتين :
1 – قسم اندفع إلى الانخراط في هذا التنظيم أو ذاك ، و كله طموح ، و أمل ، بأن يدفع بالتنظيم إلى موقع ينسجم فيه مع التغيرات على الأرض ، فيبدل في خطابه ، و أساليب عمله ، و ظل مخلصا لتوجهاته ، إلا أنه وجد نفسه غريبا في محيطه ، و تم الدفع به خارجا ، أو أنه آثر السلامة فاندفع إلى الخارج بنفسه .
2 – و قسم آخر لم يكن في الأصل يمتلك رؤية واضحة لواقع الحركة ، و لجوانب الخلل الذي تعاني منه ، و ضرورة معالجة تلك الجوانب ، و الأساليب الكفيلة لذلك ، و لهذا فإن هذا القسم سرعان ما و جد نفسه يندمج في الوضع القائم ، و يتحول إلى جزء من التركة و المشكلة .
أما هذه المجموعات التي انقسمت على قياداتها ، فإنها هي الأخرى ، لم ترسخ لأساليب جديدة في العمل ، و لم تعمل على تأسيس خطاب سياسي جديد ، و مدروس ، و منسجم مع الواقع الكوردي ، و الظروف المحيطة ، لا يتجاوز ذلك ، و لا يتخلف عنه ، و ذلك لأن العناصر الفعالة من هذه المجموعات ، لم تكن تهدف إلى التغيير أصلا ، و إنما ركبت موجة الشعارات ، للوصول إلى مآرب شخصية لا قيمة لها بكل المقاييس ، و لهذا فإن الأمر لم يطل بها حتى أدارت ظهرها لليافطات التي رفعتها ، و عادت إلى القيادات التي تمردت عليها ، فتمترست خلفها ، أما ما تبقى منها ، فقد نكصت على أعقابها ، تبتلع مرارة الحيرة ، و الخيبة.
لقد تكرست ثقافة العبودية في المجتمع الكوردي ، على مدى قرون ، و جاءت الحركة الكوردية لترسخ من هذه الثقافة ، و يبدو لي ، أن وقتا غير قصير سينقضي ، قبل أن تنفض هذه الحركة عن نفسها ظاهرة الاستجداء في خطابها السياسي ، و قبل أن تخرج إلينا بخطاب واقعي ، و موزون ، يتماشى مع الحدث ، لايسبقه ، و لا يتخلف عنه.
——-
* كاتب كوردي .