هيثم حسين
الجهة: الشمال، المكان: بضع قرىً هنا، الزمان: الآن وهنا، حيث نكون، حيث سنبقى..
“موسم الهجرة إلى الشمال”، رواية للكاتب السودانيّ “الطيّب صالح” كتبها في الستّينات، دُرِّست في جامعات بلاده عقوداً من الزمن، ثمّ منعت بعد ذلك، لأنّ السلطات انتبهت إلى أنّه يعرض مشاكل، هم يقترفونها، ولا يريدون للمواطنين أن يستدلّوا عليها، أو يقرؤوا واقعهم المأسويّ المعاش مكتوباً، مشرّحاً، إذ يدفع بكلّ الطاقات ويلقى بها، إلى أحضان من سيبتزّون تلك الطاقات، لتكون الغربة ملاصقة للبطل واصمة إيّاه بجرح في الروح لا يندمل
الجهة: الشمال، المكان: بضع قرىً هنا، الزمان: الآن وهنا، حيث نكون، حيث سنبقى..
“موسم الهجرة إلى الشمال”، رواية للكاتب السودانيّ “الطيّب صالح” كتبها في الستّينات، دُرِّست في جامعات بلاده عقوداً من الزمن، ثمّ منعت بعد ذلك، لأنّ السلطات انتبهت إلى أنّه يعرض مشاكل، هم يقترفونها، ولا يريدون للمواطنين أن يستدلّوا عليها، أو يقرؤوا واقعهم المأسويّ المعاش مكتوباً، مشرّحاً، إذ يدفع بكلّ الطاقات ويلقى بها، إلى أحضان من سيبتزّون تلك الطاقات، لتكون الغربة ملاصقة للبطل واصمة إيّاه بجرح في الروح لا يندمل
ولا يستطيع ذلك مهما تَدووي على أيدي غير المداوين الذين يزيدون في الالتهاب دون أيّ بارقة أمل قد تبرق في صحراء دفع إليها، ألقي إليها، لينتقم من ماضٍ سيبقى يلاحقه إلى أبده، إلى حين غرقه، ليبقى في منتصف النهر مستنجداً، منبّهاً، مستغيثاً ليتمّ إنقاذ غيره من الغرق في الهوّة التاريخيّة التي شرطت في جغرافيّته بمشرط جرّاح غير متمرّس، يستغيث لأنّ العلم والتقدّم والوعي يغرَّق..
هكذا بين الحياة والنجاة، يبقى البطل معلَّقاً، تبقى الآمال معلَّقة معه، بين آملٍ غرقه، وبين متأمّل إنقاذه..
أمّا الرواية الجاري كتابتها، هنا والآن، هي: موسم التهجير إلى الشمال، موسم التهجير من الشمال، موسم نزع الشمال من الجهات، ووضعه في جهة غير معلومة، ليصبح الجنوبَ بساكنيه رغماً عنه، لينقلب على نفسه، ويتبرّأ من شماليّته التي يباهي بها، ليستغفر لصفاته التي منحته إيّاها الطبيعة، أو منحه إيّاها الله، لتبدّل السنن، بسنّ شرائع جديدة، تقول بحذف الشمال، هذا الشمال اللاّ جهة، من قائمة الجهات، لأنّه يجب أن يتطوّع لإسكان غير أهليه بين جنباته، ليضرب بالجهات كلّها في مضاربه، أو بيادره، ليكون اللاّ جهة حتّى يرضى غير المنتمين إلاّ إلى جهة عمياء البصيرة..
جهة تتغافل عن أخواتها، تدّعي الإحاطة بكلّ الجهات، ضماناً لها، لكنّها لا تعرف من كلّها إلاّ جهة تضع يداً منمّلة على فم الشمال، لتبكمه، لتنثره، لتبعده عن نفسه، ليرسل الجبليّ إلى الصحراء، ويؤتى بالصحراويّ إلى الجبل، لتغيَّر السنن، مرّة أخرى، دون أن تتغيّر، وتفرض شعائر مستحدثة لا تليق بأحد، ولا ترضي أحداً، وستنقلب، لاشكّ، على المتسلّين بهذه الجهات، لأنّ القانون الطبيعيّ، لا تبديل له، مهما أوتي القيّمون على اللا قانون البراعة، الطلاقة، الدعم، حيث الخريطة عند نزع الشمال منه تتشوّه، تغدو ناقصة الجهات، مستباحاً لمن يدّعون أنّهم يريدون لها المنعة والتحصين..
أستغرب كيف تكون المنعَة، مع شلّ القسم المهمّ، كيف يبعَّض الكلّ، كيف تقطع الأعضاء السليمة للإبقاء على الفاسدة، كيف بكبسة زرّ من غير مؤهَّل تحذف جهة من الخريطة التي لا تستقيم بدونها، ويستحيل أن تستقرّ في محلّها، أو يقرّ لها قرار من دونها، لأنّ مؤشّر البوصلة سيسهو عن جهته، فما له بين الجهات هو الجهة التي يدلّ عليها، لن يستدلّ المؤشّر إلى غير الشمال، ولا على غيره، سيبقى تائهاً باحثاً عن شماله، حتّى وإن اضطرّه الأمر أن يلوذ بحضنٍ لا يرتضيه، لكنّه يستشفع من نفسه، لأنّه ألقي إلى هذا المصير الذي لم يكن ليناسبه لولا هذا النزع الإجباريّ له من تاريخه وجغرافيّته…
كيف يُقتلع الكرديّ من شماله، ليحلّ محلّه، في هذا السهل الذي هو همزة وصل بين الجهات كلّها، نقطة تلاقٍ والتقاء، نقطة اتّفاق وتحابب، ذاك المستقدَم من جنوبٍ قد سرّ لاستيطانه فيه، لكنّه لم يُسِرّ الرؤوس الكبيرة التي يختلف تفكيرها عن تفكير المسرورين حيث هم..
باعتبارهم الأقدر على بعد النظر، والأشمل في الرؤى، والأكثر حساباً وتحسّباً من كلّ أولئك الظانّين أنّهم يحسبون للقادم ما يحسبون له، من عدّة وعتاد، من تفكيك للمفكّك، وتجزيء لهذا المجبور من تجزُّئه..
لم تفد في الماضي بشيء ما يعمل به الآن، صحيح أنّه قد هُجِّر الآلاف من الشمال إلى شمالٍ أبعد، لكنّهم يعودون إلى شمالهم أكثر علماً وغنىً وقوّة..
صحيح أيضاً أنّه قد هُجِّر إلى الشمال مَن يعودون إلى جنوبهم كما جاؤوا منه، أو باختلافات أخرى، إلاّ أنّهم لم يفصحوا في اللغة الكرديّة كأهليها، الذين فصحوا في اللغتين على السواء، أتقنوا العربيّة، وتفوّقوا فيها، أحيوا الكرديّة وأبدعوا بها وفيها كذلك..
هذا الشمال اللاّ جهة، ماذا يدبَّر له، ماذا يراد له، هل يتخلّى عن جهته..؟! وهذا مخالف لسنن الطبيعة..
هل يبدَّل اسمه مستعرباً ليرضي هواة تغيير الأنساب، على الورق والآرمات، لا في الواقع والقلب..
الشمال يسكن القلب، هو جهة القلب من الجهات، مركز الاستقرار، لا مماسّ الدسائس، إنّه جهة نفسه، امتداد نفسه، سهل لمن يعزّه، صعب لا يروَّض لمن لا يقدّره حقَّ قدره، الشمال سيّد الجهات، الأعلى في الخريطة، الأغنى في الواقع، لماذا يفقَّر من جهته..؟! لماذا يُدفع إلى الهاوية..؟! الشمال شماله، شمال شرقه، غربه، شرقه، جنوبه، كلّ الجهات تتبرّك به، لا تكون إلاّ به، لا يكون إلاّ بها..
الشمال يبقى الشمال مهمّا عُرِّب..
مهما فُرِّغ..
إذا ما تخلّى عن شماليّته فاعرف أنّ الجهات قد اغتيلت..
في ليلة ليلاء..
يغنّي فيها كلّ على ليلاه، ليغنّي هو أيضاً ليله وليلاه..
هذا الشمال اللاّ جهة؛ المعنَّى، المغنَّى، المستغنَى عنه، المغتنَى به، اللا شمال عند من لا يرونه، القلب عند مَن يقدّسونه، هو الشمال الجهة التي لن تغيَّر..
نصبح في الشمال عليه..
نصبّح منه على إخوتنا، نقول للجميع تصبحون في أماكنكم على خير، ونصبح في شمالنا على خيرٍ..
هنيئاً لكلّ منّا جهته..
وهنيئاً لنا بالوطن الذي يتّسع الكلّ، دون أن يتساهى عن بنيه في أيّ جهة كانت..
جهاتكم قلوبكم..
جهاتنا قلوبنا..
هل تستقيم الأجساد دون القلوب..؟!
هكذا بين الحياة والنجاة، يبقى البطل معلَّقاً، تبقى الآمال معلَّقة معه، بين آملٍ غرقه، وبين متأمّل إنقاذه..
أمّا الرواية الجاري كتابتها، هنا والآن، هي: موسم التهجير إلى الشمال، موسم التهجير من الشمال، موسم نزع الشمال من الجهات، ووضعه في جهة غير معلومة، ليصبح الجنوبَ بساكنيه رغماً عنه، لينقلب على نفسه، ويتبرّأ من شماليّته التي يباهي بها، ليستغفر لصفاته التي منحته إيّاها الطبيعة، أو منحه إيّاها الله، لتبدّل السنن، بسنّ شرائع جديدة، تقول بحذف الشمال، هذا الشمال اللاّ جهة، من قائمة الجهات، لأنّه يجب أن يتطوّع لإسكان غير أهليه بين جنباته، ليضرب بالجهات كلّها في مضاربه، أو بيادره، ليكون اللاّ جهة حتّى يرضى غير المنتمين إلاّ إلى جهة عمياء البصيرة..
جهة تتغافل عن أخواتها، تدّعي الإحاطة بكلّ الجهات، ضماناً لها، لكنّها لا تعرف من كلّها إلاّ جهة تضع يداً منمّلة على فم الشمال، لتبكمه، لتنثره، لتبعده عن نفسه، ليرسل الجبليّ إلى الصحراء، ويؤتى بالصحراويّ إلى الجبل، لتغيَّر السنن، مرّة أخرى، دون أن تتغيّر، وتفرض شعائر مستحدثة لا تليق بأحد، ولا ترضي أحداً، وستنقلب، لاشكّ، على المتسلّين بهذه الجهات، لأنّ القانون الطبيعيّ، لا تبديل له، مهما أوتي القيّمون على اللا قانون البراعة، الطلاقة، الدعم، حيث الخريطة عند نزع الشمال منه تتشوّه، تغدو ناقصة الجهات، مستباحاً لمن يدّعون أنّهم يريدون لها المنعة والتحصين..
أستغرب كيف تكون المنعَة، مع شلّ القسم المهمّ، كيف يبعَّض الكلّ، كيف تقطع الأعضاء السليمة للإبقاء على الفاسدة، كيف بكبسة زرّ من غير مؤهَّل تحذف جهة من الخريطة التي لا تستقيم بدونها، ويستحيل أن تستقرّ في محلّها، أو يقرّ لها قرار من دونها، لأنّ مؤشّر البوصلة سيسهو عن جهته، فما له بين الجهات هو الجهة التي يدلّ عليها، لن يستدلّ المؤشّر إلى غير الشمال، ولا على غيره، سيبقى تائهاً باحثاً عن شماله، حتّى وإن اضطرّه الأمر أن يلوذ بحضنٍ لا يرتضيه، لكنّه يستشفع من نفسه، لأنّه ألقي إلى هذا المصير الذي لم يكن ليناسبه لولا هذا النزع الإجباريّ له من تاريخه وجغرافيّته…
كيف يُقتلع الكرديّ من شماله، ليحلّ محلّه، في هذا السهل الذي هو همزة وصل بين الجهات كلّها، نقطة تلاقٍ والتقاء، نقطة اتّفاق وتحابب، ذاك المستقدَم من جنوبٍ قد سرّ لاستيطانه فيه، لكنّه لم يُسِرّ الرؤوس الكبيرة التي يختلف تفكيرها عن تفكير المسرورين حيث هم..
باعتبارهم الأقدر على بعد النظر، والأشمل في الرؤى، والأكثر حساباً وتحسّباً من كلّ أولئك الظانّين أنّهم يحسبون للقادم ما يحسبون له، من عدّة وعتاد، من تفكيك للمفكّك، وتجزيء لهذا المجبور من تجزُّئه..
لم تفد في الماضي بشيء ما يعمل به الآن، صحيح أنّه قد هُجِّر الآلاف من الشمال إلى شمالٍ أبعد، لكنّهم يعودون إلى شمالهم أكثر علماً وغنىً وقوّة..
صحيح أيضاً أنّه قد هُجِّر إلى الشمال مَن يعودون إلى جنوبهم كما جاؤوا منه، أو باختلافات أخرى، إلاّ أنّهم لم يفصحوا في اللغة الكرديّة كأهليها، الذين فصحوا في اللغتين على السواء، أتقنوا العربيّة، وتفوّقوا فيها، أحيوا الكرديّة وأبدعوا بها وفيها كذلك..
هذا الشمال اللاّ جهة، ماذا يدبَّر له، ماذا يراد له، هل يتخلّى عن جهته..؟! وهذا مخالف لسنن الطبيعة..
هل يبدَّل اسمه مستعرباً ليرضي هواة تغيير الأنساب، على الورق والآرمات، لا في الواقع والقلب..
الشمال يسكن القلب، هو جهة القلب من الجهات، مركز الاستقرار، لا مماسّ الدسائس، إنّه جهة نفسه، امتداد نفسه، سهل لمن يعزّه، صعب لا يروَّض لمن لا يقدّره حقَّ قدره، الشمال سيّد الجهات، الأعلى في الخريطة، الأغنى في الواقع، لماذا يفقَّر من جهته..؟! لماذا يُدفع إلى الهاوية..؟! الشمال شماله، شمال شرقه، غربه، شرقه، جنوبه، كلّ الجهات تتبرّك به، لا تكون إلاّ به، لا يكون إلاّ بها..
الشمال يبقى الشمال مهمّا عُرِّب..
مهما فُرِّغ..
إذا ما تخلّى عن شماليّته فاعرف أنّ الجهات قد اغتيلت..
في ليلة ليلاء..
يغنّي فيها كلّ على ليلاه، ليغنّي هو أيضاً ليله وليلاه..
هذا الشمال اللاّ جهة؛ المعنَّى، المغنَّى، المستغنَى عنه، المغتنَى به، اللا شمال عند من لا يرونه، القلب عند مَن يقدّسونه، هو الشمال الجهة التي لن تغيَّر..
نصبح في الشمال عليه..
نصبّح منه على إخوتنا، نقول للجميع تصبحون في أماكنكم على خير، ونصبح في شمالنا على خيرٍ..
هنيئاً لكلّ منّا جهته..
وهنيئاً لنا بالوطن الذي يتّسع الكلّ، دون أن يتساهى عن بنيه في أيّ جهة كانت..
جهاتكم قلوبكم..
جهاتنا قلوبنا..
هل تستقيم الأجساد دون القلوب..؟!
أتركها لفطنتكم، لقلوبكم..
لجهاتكم..!!!
لجهاتكم..!!!