فالرأسمالية كنظام اقتصادي، يستوجب إقامة دول قومية في العالم المتمدن؛ وهنا علينا أن نميز بين طورين للرأسمالية، في الطور الأول: برزت البرجوازية كقوى فتية مناضلة ضد الإقطاعية، وضد النظم الثيوقراطية، وطرحت شعارات ــ الحرية، الإخاء، الديمقراطية، المساواة ــ استقطبت المشاعر القومية، ودفعت الحركات الجماهيرية الواسعة باتجاه السياسة، وبالتالي الالتفاف حول البرجوازية ضد عهود القهر والظلام؛
لقد أحست الأمم الصغيرة، أنها تتعرض للقهر والاضطهاد من قبل الأمم الكبيرة التي تتنكر لحقوقها، وأحيانا لوجودها، وخشيت على شخصيتها من الإذابة والانصهار، فرفعت بالتالي شعار حقها في تقرير مصيرها؛ فماذا عنى هذا الشعار.؟ لاشك أن التفسيرات لهذا الشعار، شابها كثير من الخلط ؛ بتأثير ضغط العقلية القومية، وضيق الأفق القومي، لدى الأمم الكبيرة، وعدم وضوح الرؤية، بل العمى النظري عند كثير من أصحاب الذهنيات المؤدلجة…
إن حق الأمم المضطهدة في تقرير مصيرها، يعني بكل وضوح ودقة شيئا واحدا ووحيدا، إذا ما توخينا الدقة والوضوح والصراحة، ودون الركون إلى مفاهيم نظرية مجردة، أو التلاعب بمسائل قانونية، إنها يعني، حق الأمم المضطهدة في الانفصال، حقها في تقرير مصيرها بنفسها، بما فيه تكوين كيان قومي مستقل قائم بذاته، وخاص بها، هذا الحق يعني حرية الانفصال السياسي، وهنا يمكن أن نجتهد مع المجتهدين ونقول: إن هذا الحق لا يعني بالضرورة أن يتم الانفصال، لكن بالمقابل لا ينفي هذا الحق، حق الانفصال أيضا؛ أما المزاعم، حول تسويق دعوة الاتحاد الفدرالي بين الأمم، بذريعة أهميتها وأفضليتها على شعوب البلد المعني، وإن صحت هذه المزاعم فهي لا تخرج عن إطار الدعوى فحسب، وتكون بالتالي من باب مخادعة الذات، ومخادعة الآخرين، طالما لا تقر أية سلطة، أية ثورة، بحق الأمم المظلومة في تكوين كيانها المستقل؛ إن حرية الاتحاد الفدرالي، تأتي، وتبدأ بعد الإقرار بحق الأمم في حرية تقرير المصير، لتقوم بعدها الكيانات القومية الصغيرة، في علاقات ندية مع الأمم الكبيرة، وتتفق بالتالي على صيغة الفيدرالية، أو حتى الوحدة، مع وجوب ترك المجال مفتوحا بالتالي للانفصال، فلا تكتب لأي وحدة أو أي اتحاد ديمومة، إذا لم تترك أبواب الانفصال مشرعة، كحق من حقوق الأمم الصغيرة… والحقيقة، لا يمكن لأحد أن يقف إلى جانب تجزؤ الأمم الكبيرة، أو انشطارها وتشظيها إلى دويلات وكيانات صغيرة، دويلات منعزلة ومنكمشة، ومنكفئة على ذاتها، بل لا بد له، من أن يكون من أنصار تدامج الأمم، لكن هذا التدامج ينبغي ألاّ يكون قسريا، أي يرغم عليه الأمم الصغيرة، وأيضا، فلن يكون هذا التدامج، بالتالي، عمليا، إلا إذا تمتعت الأمم الصغيرة، بحق حرية الانفصال، لهذا فلا بد للأمم الكبيرة من إرساء أسس ثابتة لبرنامج سياسي، واضح الصيغة، تقر فيه الحقوق، كما قلنا بوضوح، لا بتعابير عامة غامضة، لهذا فقد وجدنا ماركس بعد تطور موقفه في المسألة الأيرلندية، وجدناه يطالب في عام 1869 بانفصال أيرلندا عن إنكلترا: ( ولو أدى الأمر بعد الانفصال إلى الاتحاد ) حسب تعبيره، كما لا يبرر ربط هذه الحق بالمسألة الوطنية، أي أننا في حالة حرب، ويستوجب منا الدفاع عن الوطن، فأمامنا عدو شرس يقتضي منا صرف النظر، أو علينا أن لا ننشغل بشعار (حق الأمم في تقرير مصيرها ) لنتفرغ لمواجهة هذا العدو أولا، كل هذه ذرائع لا تنطلي على الشعوب المقهورة، وهنا لا بد من التأكيد، من أن النضال من أجل حقوق الأمم المضطهدة، ينبغي ألا يحجب عنا النضال في سبيل مبادئ، مثل الديمقراطية السياسية، والنضال الجماهيري ضد الاستبداد، وضد القمع، وفي سبيل التقدم والعدالة والمساواة..
ولنأخذ المسألة بطريقة أخرى، ففي الحروب الامبريالية، أو الحروب اللصوصية لا يمكن لك، إلا أن تقف ضد أمتك الظالمة في حروبها لنهب المستعمرات وتقاسم النفوذ، وأن تتمنى هزيمتها في حروبها العدوانية، ضد الشعوب المظلومة؛ كما يمكن لنا أن نستمد من التاريخ أمثلة أخرى،مثلا، استقلت بلجيكا عن هولندا في عام 1830 ، وإيمانا بهذا المبدأ وافق لينين ـ دون تردد ــ على انفصال فنلندا عن جسم الاتحاد السوفييتي، بخلاف كثيرين من رفاقه…
من جانب آخر، لا يجوز لأي سياسي أن يمهل هذا الحق، حق الأمم في تقرير مصيرها، ويربطها بقيام الاشتراكية، بدعوى أن الأمم الصغيرة لا يمكن لها أن تحصل على حقوقها القومية إلا في ظل الاشتراكية؛ أو أنها غير قابل التحقيق في ظل الرأسمالية، ويدحض لينين هذه المزاعم، فيسوق لنا مثال انفصال النروج عن أسوج في عام 1905 وفي فترة عدم وجود أي نظام اشتراكي على وجه الكرة الأرضية، وفي ظل سيادة الرأسمالية المطلقة…
إن حق الأمم في تقرير مصيرها، لا تخول الأمم الكبيرة في المشاركة في الاستفتاء على هذا الحق، سواء كان عن طريق شعوب البلد المعني، أو عن طريق البرلمانات، فهو حق يحصر في الأمم المضطهدة وحدها في تقرير مصيرها بنفسها، وهذا الحق يتضمن معنى المساواة التامة في الحقوق بين الأمم، بغض النظر عن موقعها وحجمها…
كما لا يمكن لنا إلا أن نقف ضد الإلحاق، الذي يعني ضم أراضي الغير بالقوة، فمفهوم الإلحاق يفترض العنف أولا، والاضطهاد القومي ثانيا، وهو خرق لمبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها، وبالتالي، هو تلاعب بحدود الدولة، دون رغبة وإرادة السكان، وهنا يقتضي وجوب تحديد حدود الدولة، وهذا الأمر يسبب إشكالية أخرى أيضا في طريق حق تقرير المصير للأمم، لكنها في المحصلة لا بد أن تتعين الحدود، بتوجه ديمقراطي وفقا لمشاعر السكان وإرادتهم؛ وعندما يتحقق ذلك، تخف الاحتكاكات القومية وتزول، ويتلاشى الحذر القومي، وربما دفع ذلك إلى التقارب والتدامج بين الأمم وبخطوات أسرع..
ومن نافلة القول أن نتحدث قليلا عن تجربة المقاطعة الألمانية ( الإلزاس ) التي آثر شعبها تقرير مصيره، بالانفصال عن ألمانيا، فمن حق الإلزاسيين التعبير عن رغبتهم في هذا الحق ، أي تقرير مصيرهم بنفسهم، بما فيه حق الانفصال عن ألمانيا كما قلنا، أما الانضمام إلى فرنسا، كما تم، فهذا لا يتوقف على رغبة سكان المقاطعة وحدهم، فلا بد أيضا أن تتلاقى مع رغبة الشعب الفرنسي وموافقتهم، حتى لو عارض نفر قليل من سكان المقاطعة، أو عدد قليل من الشعب الفرنسي…
وفي ضوء كل ذلك، لا بد لي من التعبير عن موقفي تجاه شعبي، الشعب الكردي، الرابض على أرضه التاريخية، منذ الأزمنة السحيقة، فأبادر إلى القول: أنا مع حق هذا الشعب في تقرير مصيره بنفسه، أنا مع إقامة كردستان الكبرى، هذا من حيث المبدأ، لكن.! .ينبغي أخذ المعطيات والظروف بالحسبان وأسارع إلى القول أن تحقيق ذلك لا يتم برغبة القول، أو بالكتابة، وهنا أكرر مجددا ما قلته في الأسطر السابقة، من أن حق تقرير المصير لا يعني بالضرورة حق الانفصال، ولكن دون نفي لهذا الحق أيضا، فالشعب الكردي في سوريا مثلا، هو نسيج من الشعب السوري العام، وهو لا يتطلع إلى الانفصال، وبالتالي ليس من مصلحته الوطنية ولا القومية الانفصال، ثم هناك اعتراضات موضوعية، من حيث التوزع الديمغرافي للسكان، ثم بالتالي، هي عاجزة أن تعيش منعزلة ومنفردة، ناهيك عن الأقيانوس السياسي المعارض الذي يحف به، ومن جانب آخر، إذا أصرت على هذا المبدأ، مبدأ حق تقرير المصير، ومع تعذر إمكانية العيش في كيان منفرد، فإذن مع من تتحد.؟ وبالتالي فشكل نضاله لا بد أن يختلف عن أشكال النضال في تركيا، وإيران، والعراق، وكل شعب في أي بلد هو الذي يرسم طرائق النضال التي يرتئيها، وإن ّتعاطف أبناء القومية الكردية مع قضايا شعبهم أنّى كانوا، شيء طبيعي،وتلك من الطبيعة البشرية منذ عصر القوميات، بيد أن تدخل الشعب الكردي في بلد ما، في شؤون أبناء قوميته في بلد آخر، ربما عقّد المسألة أكثر، فالشعب الكردي في سوريا، ينشد المساواة التامة في الحقوق والواجبات، بين مكونات الشعب السوري، كما يطالب بالحياة السياسية والمساواة ، ليعيش ناسه أحرارا مع أخوتهم العرب في السراء والضراء، ومع سائر أبناء القوميات الأخرى، في سلام ووئام، وليشكلوا بالتالي بثقافاتهم المتنوعة حقول أزاهير، مزركشة زاهية، تضفي على الوطن نضارة وبهاء….!