لكن الدروب ستأخذه هذه المرة بعيدا عن بيئته الحاضنة، وعن جغرافيته المؤثثة بالجبال والوديان وغابات الجوز والبلوط، إلى بيئة مختلفة تماما، من حيث تضاريسها الجغرافية واللغة والعادات والتقاليد.
سيدخل مرحلة لم يكن قد دشنها من قبل، مرحلة النفي الطوعي..
يقول «اقترح أقاربي على والدي أن يأخذني قربه إلى السماوة لإبعادي عن نشاطي أولا وعن أنظار الأجهزة الأمنية ثانيا، وبالفعل التحقت بوالدي في العطلة الصيفية لعام 1977، وكان هناك جو سياسي من نوع آخر، حيث السياسيون الأكراد المنفيون، وضمنهم السياسي الكبير حمزة عبد الله، وهو من القيادات الشيوعية المهمة، وكان مقربا من الزعيم الملا مصطفى بارزاني، وقد اتهمه صدام حسين بأنه حلقة الوصل بين بارزاني والاتحاد السوفياتي، وتم تعيينه مديرا لغابات السماوة، ولأنه لم تكن هناك أي غابات في السماوة فقد كان يذهب إلى العمل الساعة الثامنة صباحا ويعود بعد ساعتين إلى البيت، وكنت أمضي جل وقتي مستمعا إليه وإلى الأفكار الاشتراكية وتجاربه وأحاديث سياسية مهمة كان لها الأثر البالغ في تربيتي السياسية».
تحول النفي الطوعي الذي جاء ببرهم من السليمانية إلى السماوة إلى فرصة غنية للاطلاع على تجارب السياسيين الأكراد المنفيين مع والده إلى تخوم الصحراء التي تربط العراق بالربع الخالي من شبه الجزيرة العربية، وما كان يفتقده هذا الناشط السياسي الفتي من دروس نظرية مهمة وجده في بيت المنفيين بجنوب غربي العراق..
يقول «كان البيت الذي يقيم فيه والدي هو محل إقامة غالبية السياسيين الأكراد المنفيين، ويضم شخصيات سياسية مهمة تعلمت منهم الكثير، وكانت أجواء البيت غنية بالنقاشات السياسية والفكرية، وقد أحببت هذه الأجواء، إذ كنت أصغرهم سنا.
وفي هذا البيت تعلمت الطبخ».
كانت الروح السياسية التي تسكن برهم تكاد تتفجر مثل بركان لا يقوى أحد على تكميمه، ويصادف أن ينفجر هذا البركان في أول فرصة تسنح له في مدينة السماوة..
يتذكر قائلا «هناك تعرفت على شاب في عمري وكان ابن أحد القضاة من أهالي المدينة وزميل والدي، وذات يوم دخلت مع هذا الشاب في نقاش سياسي حيث تحمست لقضيتي الكردية وتحدثت له عن حقوق الأكراد التي صادرها حزب البعث، وأهمية أن تُمنح لنا حقوقنا، وتهجمت على حزب البعث، إذ كنت شابا ثوريا وكان من الطبيعي أن أتصرف بهذه الطريقة، في اليوم التالي أخبر والد هذا الشاب والدي وقال له إن (ابني بعثي وعضو في الاتحاد الوطني لطلبة العراق، وقد أخبرني بأنه سمع مثل هذا الكلام الخطير من ابنك برهم، وأنا حذرته من أن يذكر ذلك أمام أي أحد، فإذا أنا ضمنت ابني بألا يشي بابنك فكيف سنضمن أن برهم لا يتحدث بنفس المواضيع مع شباب آخرين وهذا خطر عليه وعليك؟!).
حدث هذا في الوقت الذي كنت أعمل فيه مع القيادات المنفية على إنشاء تنظيم للاتحاد الوطني الكردستاني للأكراد المنفيين في الجنوب، فما كان من والدي إلا أن قرر إعادتي إلى السليمانية، وقال لي (نحن هنا مرصودون من قبل الأجهزة الأمنية ولا نستطيع فعل أي شيء، ووجودك هنا خطر على حياتك وأنت تطلق هذه الأحاديث، فعد غدا إلى السليمانية وافعل ما تشاء هناك).
وبالفعل تركت السماوة بعد شهر واحد من وصولي إليها وأنا أحتفظ لها بذكريات طيبة سواء عن أهلها أو عن المدينة وبحيرة ساوة وغيرهما».
شكل قرار والده نقطة سعادة في حياة برهم الذي سيعود إلى أهله ومدينته وناسه وعمله السياسي..
يقول «عدت إلى السليمانية وعاودت نشاطي السياسي، ومن مهد لي الانضمام إلى العمل التنظيمي السري هو محمد حسين (شقيق سكرتير صالح اليوم) وقد استشهد عام 2003 على أيدي أحد الإرهابيين، حيث كان ضابطا في الشرطة.
وتدرجت في العمل السياسي من عضو خلية إلى الخلية الرئيسية في مدينة السليمانية والتي كانت تسمى (لجنة هملت) وهي الخلية المركزية لتنظيمات الاتحاد الوطني، ومن المفارقات أن بيتنا، بيت القاضي، كان قريبا جدا من دائرة الأمن ويقع في منطقة لا يشك بها أمنيا وغير مؤشرة باللون الأحمر في سجلات الدوائر الأمنية وقتذاك، ومع ذلك كان بيتنا يستقبل مقاتلي البيشمركة الجرحى القادمين من (قره داغ) و(جوارتة) حيث يتم إسعافهم في بيتنا، بل الأكثر من هذا أنني كنت أقود سيارة والدي، سيارة الحاكم، من دون علمه، وأنقل فيها البيشمركة والمنشورات الحزبية وبعض رفاقي الذين لا يستطيعون التنقل بسبب المراقبة الأمنية المشددة عليهم».
وإذا كان البعض، أو غالبية من السياسيين الأكراد، يعتبرون أن القتال في صفوف البيشمركة هو بمثابة تعميد للمناضل الكردي واستكمال لتاريخه السياسي، فإن برهم يعترف بقوله «أنا لم أقاتل مع البيشمركة، وهذا لم يكن اختياري بل اختيار الحزب، ففي عام 1979 شددت العناصر الأمنية من مراقبتها لي بسبب حراكي السياسي، لهذا طلبت من المسؤولين أن ينقلوني إلى الجبل حتى لا أتعرض للاعتقال، فجاء الرد بأن الحزب يحتاجك في مدينة السليمانية أكثر من وجودك بالجبل بسبب وضعي الاجتماعي كوني ابن الحاكم وابن عائلة معروفة، ولأنني كنت أوفر خدمات لوجيستية كثيرة من البيت، ثم إنني كنت مسؤولا عن منطقة (جوارتة) والإمدادات في منطقة (قره داغ)، إضافة إلى أدائي لمهمات تتعلق بمراقبة الأوضاع في المدينة».
إلا أن نشاط برهم السياسي لم يتحدد بمدينة السليمانية، بل تعداه إلى العاصمة بغداد، كما يوضح «في عام 1979، وفي عطلة نصف السنة، كنت في الصف السادس علمي، وبعد عودتي من بغداد إذ كنت مكلفا بمهمة حزبية لمتابعة بعض الطلبة الأكراد ولتشكيل خلية حزبية هناك، كما قمت بزيارة بعض زملائنا وأعضاء الحزب المعتقلين في سجن أبو غريب، حيث كان الكثير من رفاقنا معتقلين في قسم الأحكام الثقيلة وآخرون في قسم الأحكام الخفيفة، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة كانت تجلب لي الشبهات فإن الالتزامات الاجتماعية والحزبية دفعتني للقيام بهذه الزيارة..».
مثل هذه النشاطات، الاجتماعات مع الطلبة الأكراد في بغداد، وزيارة السجناء السياسيين الأكراد الذين كانوا مودعين في سجن أبو غريب لم تكن خافية عن أعين السلطات الأمنية، إذ كان اسم برهم متداولا بين الأجهزة الأمنية في السليمانية وبغداد وبقية المدن الكردية، وكان أن وضع في دوائر الرصد الأمنية التي لم تكن تغفل حتى التحركات البسيطة فكيف الحال في فعاليات تشمل زيارة سجناء تصنفهم السلطات الأمنية وقتذاك بالخطرين على أمن الدولة؟ وكان متوقعا بالنسبة لبرهم وعائلته أن يتعرض للاعتقال في أي لحظة بعد عودته إلى السليمانية..
يقول «بعد عودتي من العاصمة تم اعتقالي في السليمانية، وكنا في البيت نتوقع هذا الاعتقال، إذ كان هناك أحد أقاربنا محكوما بالإعدام وينتظر التنفيذ في سجن الموصل، وقد زارته والدتي، وهمس أحد السجناء في أذنها بأن الأجهزة الأمنية عذبته وحققت معه للحصول على اعترافات عني وتدينني، وكان هذا مؤشرا مهما بأنني سأعتقل».
لكن هذا الإنذار لم يؤخر من نشاط برهم السياسي، أو حتى في أقل الاحتمالات يدفعه للدخول في هدنة بينه وبين نفسه لإبعاد أنظار الأجهزة الأمنية عن تحركاته، أو التفكير في الاختفاء المؤقت، لكنه على العكس من ذلك تماما..
يقول «في اليوم الأخير من العطلة كنت قد أخذت سيارة والدي ونقلت مع أحد الرفاق منشورات حزبية وأسلحة من أحد الأوكار لإيصالها إلى مكان آخر، فلاحظت أن هناك سيارة معروفة من قبلنا بأنها تابعة لدائرة الأمن تتابعنا، فحاولت الإفلات من المراقبة والعودة إلى البيت، وبسرعة أخفينا المنشورات والأسلحة، ولو كانوا قد ألقوا القبض علينا ونحن ننقل هذه الأسلحة والمنشورات لكانت العقوبة خطرة وقد تصل إلى الإعدام».
ترى هل كان الفتى برهم على موعد مع يوم اعتقاله؟ هل كان ينتظره؟ هل كان يريد تعميد نضاله السياسي السري الذي بات مرصودا ومعروفا من قبل الأجهزة الأمنية البعثية باعتقال يبارك فيه تاريخه أو استهلال تاريخه السياسي؟ لكنه لم ينتظر طويلا موعد اعتقاله الذي «تم في أول يوم لدوامي في المدرسة بعد نهاية العطلة الربيعية، وبالضبط في شهر فبراير (شباط) عام 1979، وكنت في الصف الدراسي عندما جاء ساعي المدرسة وقال لي إن المدير يطلبك، فذهبت إلى مكتب المدير، الأستاذ شوكت، وكان يبدو عليه القلق بوجود ثلاثة أشخاص في مكتبه، استطعت أن أميزهم بأنهم من منتسبي دائرة الأمن، فقال لي أحدهم (لدينا استفسار بسيط، ستأتي معنا لنصف ساعة فقط وتعود إلى مدرستك)، وطلبوا أن يأتي الساعي بحقيبتي المدرسية، كنت قلقا لأنني كنت أخبئ في جيب سروالي رسالة حزبية لففتها لتبدو مثل قطعة حلوى مغلفة، إذ كنت أفكر في طريقة للتخلص منها.
وصلنا إلى دائرة الأمن ووضعوني في زنزانة وحدي قبل أن يتم تفتيشي بدقة، لأنهم لم يتوقعوا أنني أحمل أي شيء مهم أو خطير، لا سيما أنهم اقتادوني من الصف، وهناك تخلصت من الرسالة بطريقة ما».
ويؤيد أستاذه عزيز هذه الحادثة، قائلا «اعتقل برهم سنة 1979 بعد نهاية عطلة نصف السنة، وقد أحزننا ذلك من جهتين، الأولى أن أحد أبناء شعبنا والذي كان ضمن تنظيمات السليمانية للاتحاد الوطني الكردستاني معتقل، ومن الممكن ألا نراه مرة أخرى، والثانية أننا سنفقد طالبا ذكيا كان محل فخر واعتزاز لكردستان».
كان هذا التعارف الأول بين برهم والأجهزة الأمنية، اللقاء الأول عن قرب، وهو أيضا الاختبار الأول لقابليات صمود الشاب أمام وسائل القمع النفسي والجسدي على حد سواء..
يقول «بدأوا يحققون معي وقالوا لي إن لديهم معلومات دقيقة عن تحركاتي ونشاطي، وإن هناك اعترافات من سجناء هم رفاق لي وتدينني، ثم نقلوني إلى الهيئة التحقيقية الخاصة في كركوك، وكنا نعرف مدى الرعب الذي تشكله هذه الهيئة وهذا المكان الرهيب، وهو المكان الخاص بالتحقيق مع من يشكون في انتمائهم للثورة الكردية، حيث يضم أعتى أجهزة التعذيب وأكثرها قسوة».
ترى أي أفكار وصور خامرت الروح الغضة للفتى الذي يدشن خطواته نحو أقبية التعذيب في باستيل كركوك، والمعروف من قبل الأكراد بوحشية القائمين على وسائل التعذيب فيه، هؤلاء الذين لا تأخذهم أي رقة أو رحمة بالمعتقلين خاصة إذا كانوا من الأكراد ومهما كانت أعمارهم..
يتذكر بمرارة، قائلا «تعرضت للتعذيب القاسي.
كانت تجربة مرعبة بالنسبة لفتى في الـ18 من عمره، تعلمت من هذه التجربة أن الشعور بالحرية أرقى ما في الوجود، وأنه لا أحد يشعر بهذه الحرية إلا من سلبت منه، وأن السجن يجعل الإنسان المعتقل لأسباب سياسية خاصة، أمام امتحان صعب وقاس، فإما أن يبقى محافظا على صلابته وقيمه ومبادئه ويرفض الاعتراف والوشاية بالآخرين، أو ينهار ويتخلى عن كل مبادئه»، خاصة إذا عرفنا أن هناك سياسيين كبارا انهار بعضهم أمام وسائل التعذيب وممارساتها، لكن برهم استجمع قواه الفتية، واستذكر معاناة أهله من الأكراد، وكان لا بد من صموده كي يخرج مفاخرا بنفسه، رافعا رأس والده ووالدته، ومحتفظا ببداية ناصعة لتاريخه السياسي..
يقول «استطعت أن أعرف إمكانياتي في التأقلم والتحمل، فعندما وصلت إلى بناية هيئة التحقيق الخاصة سألت نفسي: كيف سأتحمل التعذيب والإهانات والحرمان والوساخة والروائح القذرة المنبعثة من أقبية تتعفن بها الدماء والأجساد، وأنا ابن عائلة مترفة ومدلل ومتعود على نمط مترف من الحياة، لكنني تحملتها وتحديت الصعوبات والحمد لله، وهذه التجربة تعيش معي حتى اليوم إذ تعلمت منها كيف يجب أن أتعامل مع ملفات المعتقلين والسجناء سواء في بغداد أو كردستان، وأن أتابعهم وأضمن حقوقهم ولا أظلم أحدا».
والى جانب ذلك اكتشف برهم «أن هناك من يستمتع بتعذيب الآخرين بقسوة، إذ كانوا يضربون شيخا في الخامسة والسبعين من عمره أمامي، كانوا يضربوه بقسوة كل يوم ويستمتعون بالأنين الخافت المنبعث من روحه المتعبة».
ويشهد خبات الشيخ جناب، وهو أحد بيشمركة كردستان القدامى، على فترة اعتقال برهم صالح في معتقل الهيئة التحقيقية في كركوك.
وتعود معرفة الشيخ جناب ببرهم إلى عام 1976 ويقول «كنا في مدرسة الخالدية عام 1976، وأتذكر أنه كان هناك عرض مسرحي بعد أيام من إعدام خاله شهاب، وكان برهم شابا وسيما يرتدي ملابس أنيقة ويجلس هناك، وفجأة نهض واقفا وردد شعارات حماسية، وسرعان ما هجم عليه المتنفذون وألغيت المسرحية، وخرجنا أنا وشوان (شوان رؤوف نوري الذي قتل فيما بعد) وحمة حسين (هو الآخر قتل على أيدي سلطات النظام السابق) من القاعة، وفي الطريق قال حمة حسين الذي كان يحب برهم كثيرا (لا أعرف لماذا يتصرف هذا الرجل – برهم – هكذا؟ لماذا يتسبب في سجنه؟) وبعد ذلك بأيام التحقت بالبيشمركة ولم أر برهم حتى عام 1978، ومن ثم في عام 1979 عندما كنت معتقلا في هيئة كركوك».
ويتحدث الشيخ جناب بكثير من التأثر عن هذه الفترة، قائلا «في هيئة كركوك كنا مع آزاد (قتل لاحقا) وكاك خالد (ابن أخت صلاح جاوشين) في زنزانة واحدة، ولم يكن عندنا من مشاغل أو أمل سوى أن ننظر من خلال بعض تشققات الجدار لنرى ما يحدث، أو من هو الزائر الجديد من المعتقلين.
فجأة شاهدنا عناصر الأمن وهم يقتادون معتقلا جديدا وقد عصبوا عينيه بعد أن أذاقوه الضرب والتعذيب، وهم في طريقهم إلى باب زنزانته، وحين أمعنت النظر عرفت أن ذلك المعتقل ليس سوى ذلك الشاب الوسيم برهم صالح».
ويستطرد قائلا «كانت زنزانتنا قريبة من غرفة التعذيب لذلك كنت أسمع بوضوح صرخات الذين كانوا يُعذبون.
على ما أتذكر فإنهم قد أخذوا برهم إلى غرفة التعذيب بين 6 إلى 7 مرات، وعذبوه كثيرا».
وأضاف الشيخ جناب قائلا «بعد فترة طويلة من بقائي في الزنزانة الانفرادية نقلوني إلى جانب السجناء الآخرين، ورأيت برهم صالح مرة أخرى فهو لم يعترف بشيء على الرغم من التعذيب الذي تعرض له، لذلك أعادوه إلى السليمانية».
ومن المواقف الطريفة التي ما زالت عالقة في ذاكرة شيخ جناب، رغم مرارتها، والتي حدثت خلال التحقيق معه في هيئة كركوك، يروي قائلا «في إحدى المرات جلبونا أنا والملا علي (قتل فيما بعد)، وبعد ضرب مبرح، إلى التحقيق، قلت للحاكم (سيدي أنا من أسرة شريفة ولم نقم في وقت من الأوقات بعمل سيئ)، فشتمني الحاكم وقال (ها هو ابن الحاكم أحمد – ويعني برهم أحمد صالح – يقوم بأعمال سيئة، وأنت تقول أنا شريف؟».
ويذكّر خبات الشيخ جناب بالدور المهم الذي كان يلعبه برهم، فيقول «لم يكن الدور الدبلوماسي الذي كان، ولا يزال يلعبه صالح، أقل من نضال البيشمركة في الجبال، لأنه استطاع أن يحصل للكرد على العشرات من الأصدقاء الذين كنا متلهفين إلى صداقتهم منذ سنين».
بدوره، يروي جمال محمد رشيد، المعروف بـ«جمال ديمقراط»، الذي كان منذ عام 1972 عضوا ناشطا في الكوملة (الكوملة تعني العصبة أو عصبة الماركسية اللينينية، ثم صارت عصبة كادحي كردستان)، ذكرياته مع برهم صالح قائلا «تعرفت إلى برهم عن طريق (خسرو عبه رش) الذي كان اسمه السري (جوتيار).
كان برهم وقتذاك شابا نشيطا ومحبوبا.
كنت خائفا عليه خلال تعرفي عليه، فقد ثقف نفسه جيدا من حيث الفكر، وكان مخلصا إلى أبعد حد بحيث كانت السيارات آنذاك قليلة وكان برهم ينقل بسيارة والده البيشمركة الذين يقومون بعمليات داخل المدينة في وقت كان فيه منزل عائلته بجوار دائرة أمن السليمانية».
ويضيف قائلا «كان لأسرة برهم دور رئيسي في تطور عمليات القطاعات داخل المدينة.
أتذكر أنني ذهبت مرة إلى منزل عائلته ولم أكن أعرف أنه كان معتقلا، طرقت الباب ففتحت والدته، وقالت لي من دون أن يبدو عليها أي تأثر لحادث اعتقال ولدها (لماذا أتيت؟) قلت: أريد أن أرى برهم فقالت (لقد اعتقلوه.
أما أنت فاذهب بسرعة واختف قبل أن يعتقلوك)»، منوها بصمود برهم في السجن، بقوله «على الرغم من كل ذلك التعذيب تحمل برهم بشجاعة ولم يعترف بشيء وبعد أن عرفوا أنهم لن يحصلوا منه على شيء، أطلقوا سراحه».
هذا أول الأحداث القاسية التي وشمت ذاكرة برهم وشما لم تستطع سنوات الحرية فيما بعد أن تمحوه..
يقول «كانت بناية الهيئة وسجنها يقعان ضمن معسكر خالد في كركوك، وقد زرتها في الأيام الأولى لتغيير النظام، وكانت قد تحولت إلى قاعدة للقوات الأميركية، لكنني لم أستطع تحديد موقع الزنزانة التي كنت فيها لأنهم كانوا يعصبون عيني.
هناك يوم كنت نزيلا قسريا في هذا المكان سابقا».
يتحدث جمال علي أحمد عن تجربته مع برهم صالح في معتقل الهيئة التحقيقية في كركوك، قائلا «في الحقيقة لم أكن أعرف برهم عن قرب، لكنني كنت أعرف أسرته، حيث كان ابن الحاكم أحمد والسيدة روناك، وقد كانوا مهتمين بالثورة الكردية.
وعندما اعتقلت عام 1979 وبعد التحقيقات الأولية في السليمانية نقلوني إلى هيئة كركوك، وعند وصولي عصبوا عيني وأدخلوني إلى غرفة، أتذكر جيدا أننا كنا في شهر مارس (آذار) وكان الجو باردا، وعندما دخلت الغرفة أحسست بهواء دافئ، سألوني باللغة العربية: ما اسمك وأين تسكن؟ فقلت، اسمي جمال، وقد أتيت بنفسي إلى هنا فضربوني على جبيني فوقعت، وعندما نهضت كان أول أسئلتهم لي هو: هل تعرف برهم؟ فقلت، لا أعرفه.
وكنت لا أعرف أنه معتقل».
يستطرد قائلا «بعد ذلك نقلوني إلى زنزانة لم أكن أعرف فيها أحدا.
وبعد أيام جاءوا وأخذوني إلى غرفة التعذيب وهناك علقوني وصعقوني بالكهرباء، فتبين لي أنهم إذا كرهوا شخصا يربطون قناني الغاز برجليه.
سألوني مرة أخرى: هل تعرف برهم؟ قلت لا أعرفه.
وبعد فترة غيروا غرفتي وتبين لي هناك أن برهم معتقل في الغرفة المجاورة».
يقول «في المرة الثالثة التي أخذوني فيها للتعذيب كنت مع برهم وكانت تلك المرة الأولى التي أراه فيها.
في الحقيقة كان يتمتع ببنية جسمانية صلبة لذلك فقد كانوا يعلقونه ويضربونه أكثر مني، وحين يغمى علينا كانوا ينزلوننا ويعلقون رجلينا بعمود ويضربوننا بالكابلات بحيث لم نكن قادرين على النهوض فتتم إعادتنا إلى غرفنا سحبا.
وقد ذقنا أنا وبرهم هذه الضربات لمرات كثيرة».
ويروي جمال قائلا «أتذكر أنني في إحدى المرات كنت أغسل وجهي فأشار إلي أحدهم من الغرفة المجاورة بيده من تحت الباب، فأشرت إليه أنا أيضا، فانهال علي الحراس بالضرب في ساحة السجن، وعندما أطلق سراحنا قال لي برهم صالح (كنت الشخص الذي يشير إليك بيده لأنني كنت أريد أن أعرف من هو هذا الشخص الذي يغسل وجهه بيد واحدة».
التجربة الثانية، المواجهة الثانية بين صالح والسلطات الأمنية ستأتي لاحقا، فحادثة اعتقاله والتحقيق معه في كركوك لم تكن الأخيرة، بل ستتبعها حادثة أخرى كادت تودي بمستقبله الدراسي والحياتي..
يقول «بعد أشهر قليلة من إطلاق سراحي من معتقل كركوك وعندما لم يجدوا عندي ما يريدونه من اعترافات، اعتقلت مرة أخرى حيث قضيت 43 يوما في ضيافة الأجهزة الأمنية وقتذاك، وعندما أطلق سراحي كان أمامي شهر واحد للتحضير لامتحانات البكالوريا النهائية وأنا في الصف السادس علمي، وقبيل الامتحان بأسبوع اعتقلت مرة ثالثة في الاستخبارات العسكرية، وكان اسم ضابط الاستخبارات الذي حقق معي هو النقيب عبد».
امش معنا)، ثم قيدوني وأخذوني معهم إلى خارج البيت، وعندما صرنا في الشارع فوجئت بأن المنطقة كلها محتلة من قبل القوات الخاصة، وعندما أقول القوات الخاصة فاعني القوات الخاصة في عهد صدام حسين وهي معروفة بقوتها وببطشها، حيث باشروا يضربونني ويوجهون لكماتهم إلى وجهي، ولن أنسى ما حييت منظر أمي عندما شاهدتها تركض حافية القدمين باتجاهنا، كنت قد أجبرت على الصعود إلى إحدى سياراتهم (بيك آب)، وعندما وصلت أمي قالت لي (برهم ابني أتمنى ألا تخذلني)».
ويتحدث برهم عن والديه، مستهلا بوالدته، قائلا «والدتي لم تكن محجبة بل سافرة وناشطة نسائية وتعمل في السياسة، وساندتني على الرغم من قلقها علي.
أما والدي فقد كان قلقا جدا ويتابعني باستمرار، لكن وضعه كان حرجا للغاية، فهو قاض، وابنه تعرض للاعتقال والتحقيق بسبب انتمائه للثورة الكردية، ومنفي، حيث بقي والدي منفيا خارج مدينة السليمانية وكردستان لأربع سنوات (1975 حتى 1979)».
الشرق الأوسط