تقرير مصير الشعوب شرط لبناء الدولة الحديثة

   صلاح بدرالدين

   تتوجه الأنظار منذ الآن نحو ما سيتمخض عن الاستفتاء العام المزمع اجراؤه في اقليم جنوب السودان بعد أكثر من شهرين بقليل ليقرر شعبه مصيره بارادته الحرة في الاستقلال واعلان دولته الخاصة أو البقاء كما كان سابقا في اطار الدولة السودانية وليس سرا أن الخيار الأول هو المرجح حسب كل التقديرات وذلك اعتمادا على المواقف المعلنة للنخب السياسية والثقافية الجنوبية ورغبة الأوساط الشعبية عموما في الخلاص من اضطهاد الأنظمة السودانية المتعاقبة الاستبدادية والتيوقراطية ذات اللون الواحد الحاكمة في الخرطوم بنزعاتها الأصولية الاسلاموية والقوموية معا
وانعدام حظوظ – الوحدة الجاذبة – حسب تعبير الجنوبيين مضافا اليه البيئة الدولية الحاضنة لارادة استقلال الجنوب وترسيم الحدود ومعالجة قضايا  دارفور ومنطقة أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق والتمهيد بخطوات متلاحقة منذ حين في توفير المستلزمات الاقتصادية والدبلوماسية والتنموية والأمنية وكان آخر تجلياته اللقاء الأربعيني حول جنوب السودان على هامش الاجتماع الدوري للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بحضور مميز ومعبر  للرئيس أوباما.
 العلاقة الوثيقة بين عملية التغيير الديموقراطي وانجاز حق تقرير المصيرواعادة بناء الدولة العصرية في مشهد السودان تكاد تكون عضوية غير قابلة للانفصام وهي تدفع مجتمعة نحو محاولة حل الأزمة العامة في العلاقات القومية في مجتمع متعدد الأقوام والأعراق والمعتقدات وفي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبنيوية والثقافية والادارية لكل السودانيين في الشمال والجنوب والأطراف بمختلف مكوناتهم القومية والأثنية والدينية واذا تعذر ذلك فامام الجنوب والأقاليم الأخرى فرصة بناء كياناتها – الديموقراطية الجديدة – الواعدة التي ستشكل تراكمات معاناتها الطويلة من الظلم والحرمان والقمع خميرة لولادة الجديد الأفضل بكثير مما هو سائد الآن في أسوأ الأحوال واذا كانت القوى الوطنية السودانية المعارضة بشكل أساس قد حسمت موقفها من خلال اعلان جوبا للحوار قبل أشهربشأن تنفيذ اتفاقية السلام واحترام ارادة شعوب الجنوب ودارفور والمناطق الأخرى في تقرير مصيرها عبر الاستفتاء الحر وكذلك الأمر حول التحول الديموقراطي والمصالحة الوطنية فان النخب السياسية والثقافية في الجنوب متمثلة في قيادة الحركة الشعبية التزمت ومازالت تسعى من أجل ” سودان جديد لأن القديم قائم على التناحر والحروب وأن مستقبل السودان في اتجاه الوحدة كامن في أن يتحول الى دولة تتسع لكل أهلها على أساس الحرية والمساواة واذا لم يتحقق ذلك فسينهار السودان بسبب العوامل الداخلية وغياب أسس الوحدة ” .
       نعم تطورات السودان القادمة عموما والجنوب على وجه الخصوص تشكل – زلزالا – حسب تعبير الكاتب جهاد الزين ليس بالمعنى الكارثي ولكن على المفاهيم والتوجهات القديمة السلبية حول حق الشعوب في تقرير المصير وهي الى جانب تطورات كوسوفا وموقف محكمة العدل الدولية المتفهم بلاهاي من خطوتها الاستقلالية تشكلان سابقة تاريخية غير معهودة ببداية القرن في احترام مبدأ تقرير المصير وتطبيقاته على الأرض مجسدة ارادة المجتمع الدولي ومضامين ميثاق الأمم المتحدة الحريصة على تطبيق الحق والعدل والمساواة وعدم تعارض ارادة تقسيم الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة  مع مبادىء الشرعية الدولية وجواز الانفصال بضمانات دولية – الذي هو أبغض الحلال – اذا لم تتوفر أسباب وشروط  العيش المشترك بين الشعوب والقوميات والأجناس في سلام ووئام ومساواة وشراكة عادلة .
     هناك مشتركات عامة بين قضايا الشعوب المناضلة وحركاتها التحررية القومية وخاصة بمايتعلق بمبدأ حق تقرير المصير ومشروعية وعدالة الكفاح ضد الاحتلال والاضطهاد وفي سبيل الخلاص والتغيير بمختلف الأشكال كما تتوفر أوجه التشابه بين تجارب التحرر الوطني في مختلف القارات والمناطق وفي تناول سريع لمدى تأثيرات المشهد السوداني عموما والسابقة الجنوبية بوجه الخصوص على الحالة الكردية كمكون قومي رابع بالمنطقة لم ينجز بعد حقه بتقرير المصير الى جانب  شركائه الآخرين المتمتعين بدولهم القومية من عرب وترك وفرس نقول أن الأهداف العامة للمشروع الكردي تكاد تنحصر في السعي لتحقيق السلام والتغيير الديموقراطي والتعايش السلمي والشراكة العادلة في السلطة والثروة واعادة بناء الدولة الحديثة على قاعدة التعددية القومية والثقافية والسياسية واعتماد أحد أشكال تقرير المصير التي تتوزع بين ( الادارة الذاتية واللامركزية والمناطق القومية والحكم الذاتي والفدرالية والكونفدرالية والاستقلال ) وذلك بالاستناد الى نتائج الاستفتاءات الحرة النزيهة في تحديد الخيارات التي يمكن أن تجري باشراف دولي وبتوفر عوامل الالتقاء والتوافق بين الفرقاء المعنيين ومن هذا المنظور فان تجربة الجنوب السوداني ستلقي بظلالها على جميع قضايا الشعوب والقوميات وحركاتها السياسية المناضلة من أجل رفع الاضطهاد وانتزاع الحقوق وفي المقدمة القضية الكردية وخاصة في مجال امكانية حل المسألة القومية الكردية عبر المسار السلمي وفي اطار الشرعية الدولية وضمانات المجتمع الدولي ومن خلال المسعى العام المشترك مع الشعوب الأخرى لتحقيق التغيير الديموقراطي والاصلاح الدستوري والتنمية وبناء الدولة الحديثة  .
   انعكس التقسيم الاستعماري لميراث الامبراطورية العثمانية وترتيبات سايكس – بيكو سلبا على الكرد وحركتهم القومية التي بدأت تندمج موضوعيا مع الاحتفاظ بخصوصيتها في المشهد السياسي العام في الدول الوطنية الأربعة ( تركيا – ايران – العراق – سوريا ) التي يتوزع فيها الكرد مما استدعى ذلك عمليا ظهور برامج خاصة بكل جزء متضمنة رؤا وصيغ وخطط في الاطار العام لحق تقرير تقرير المصير مقتصرة على الحدود الوطنية القطرية لتلك الدول وذلك حسب مفهوم واقعي يأخذ بنظر الاعتبار الحدود المرسومة المقسمة والموزعة للشعب الكردي بين عدة مجتمعات متفاوتة في درجات التطور الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والنظم السياسية والوعي الثقافي .
       ” زلزال ” جنوب السودان الذي سيعيد الحرية لشعبه ويبدأ بتعريفه وبنائه من جديد يعد انتصارا لكل قوى التغيير في المنطقة من شعوب وحركات تبحث عن الحرية وتواجه الأصولية بوجهيها الديني والقومي وبنوازعها الارهابية ومظاهرها الشعاراتية الممانعة التي كانت السبب في أزمة الجنوب يجب أن لايخيف كل من يعمل من أجل مصالح الشعوب من قوى وتيارات وعلى الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في البلدان المقسمة للشعب الكردي أن لاتندفع لاتخاذ خطوات ثنائية أو ثلاثية أو أكثر تحت ضغط ردود الأفعال تحت ذريعة الوقاية من تأثيرات الحدث جنوب سوداني باللجوء مرة أخرى وكما عودتنا الى الوسائل العسكرية والاتفاقيات الأمنية ضد الكرد وحركاتهم القومية التي تمارس وتعاد انتاجها منذ أكثر من سبعين عاما بكل تكاليفها البشرية والمادية وتبعاتها من دون أي تقدم نحو تحقيق الهدف المرسوم وهو القضاء على الشعب الكردي وتطويع ارادته وتذويبه في بوتقات القوميات السائدة والسبيل الأفضل اتباعه هو الحوار والتفاهم في ظل التغيير الديموقراطي والتوافق بين المكونات وايجاد الصيغ الدستورية الضامنة لحق الكرد في تقرير المصير حسب ارادتهم الحرة وعبر عمليات الاستفتاء النزيهة .

   منذ نحو عقدين تنبه الرئيس التركي الراحل توركوت أوزال الى خطورة ما يجري تجاه الكرد فأعلن مشروعه في فدرالية تركية – كردية عراقية وأغلب الظن لو بقي على قيد الحياة لوسع مشروعه الفدرالي ليشمل دول الجوار بمكوناتها القومية الرئيسية الأربعة ( العرب والترك والفرس والكرد ) في منطقة ” قوس الأزمات ” حسب توصيف المستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي بريجنسكي والتي من الممكن تحويلها الى ” قوس الخير والبركات ” .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…