هذا التساؤل على أهمّيته، يعكس إرادة المراجعة النقديّة لطبيعة المكوّن الكرديّ، أهو قوميّة أم شعب أم أمّة، أم أقليّة قوميّة؟ على الجعرافيا التي يتوزّع عليها هذا المكوّن؟.
وما هي استحقاقاته الوطنيّة والقوميّة، على ضوء معرفة ماهيّته وطبيعته التي يحظها بها وفق الخلاصات والنتائج المتوصّل إليها؟.
وذلك، عبر سلسلة من المقالات النقديّة لأداء وتجربة الحراك السياسي الكرديّ، بدأت بكتابتها منذ 22 آذار 2008 ولغابة نهاية ذلك العام تقريباً.
نلك المقالات، هاجمها البعض واحتقروها وصاحهبا وخوّنوه, وتطاولوا على شرفه وكرامته الاجتماعيّة والأخلاقيّة والثقافيّة والقوميّة والوطنيّة.
واستهجن البعض، بحجّة أنها مطترّفة، ودعوة لليأس والقنوط، ومحاولة لمعاداة الأمّة والقضيّة، وإظهار العيوب والأخطء أمام الأعداء والمتربّصين، إلى آخر هذا الكلام الخشبي.
في حين، حذى حذوها بعض الكتّاب الكرد السوريين، ممن كانوا ينتقدونني.
كما أشاد بها مثقفون ووطنيون آخرون.
وفي الآونة الأخيرة، انتقدني بعض الوطنيين الكرد في المهجر، لكوني توقّفت عن كتابة تلك المقالات.
أيّاً يكن من أمر، فهذا من طبائع الامور، أثناء محاولة تحريك الساكن، ورفع الغطاء عن العيوب والقبائح في السياسة والثقافة وبالفعل المجتمعي.
ولعلّ سؤال: من نحن، ببعديه الفلسفي، الوجودي، والسياسي _ الاجتماعي، الذي طرحه الدكتور عبّاس، يعكس أيضاً أزمة أو محنة العقل الكردي، في معرفة الذات الكرديّة، ومستويات حضورها على الصعد كافّة، ومحلّها من الإعراب الحضاري والثقافي والسياسي، راهناً، لاستشفاف ما سيكون عليه مآل هذه الذات، مستقبلاً.
وكإجابة سريعة على تساؤلات الدكتور عبّاس في مقاله المذكور أعلاه، أزعم أنها منسجمة مع الحال الكرديّة، وتوزّعها على وجه المعمورة، يمكن قول التالي: الكرد في سورية، أو تركيا أو العراق أو إيران، هم شعب، ارتكازاً على المعطى المشترك العرقي، والانتماء الإثني، والوجود التاريخي، والجغرافيا الطبيعيّة والبشريّة.
والكرد في لبنان وأرمينيا هم أقليّة، أعتماداً على الحضور السكّاني والوجود الزمني وحسب.
والكرد في ألمانيا والدول الأوروبيّة هم جاليات، ارتكازاً على التعداد والحضور الزمني.
والكرد في العالم كلّه، هم أمّة، لها كل خصائص الأمّة، من حيث العمق التاريخي الحضاري، والخصوصيّة الإثنيّة والعرقيّة، والهويّة اللغويّة، مع تنوّع اللجهات، والتوزّع على جغرافيا شرق أوسطيّة، كانت في يوم ما تحت حكم أجداد الكرد، سواء أكان قبل الميلاد، وتحت حكم الكرد، في الحقبة الإسلاميّة، وبخاصّة العثمانيّة، عبر الولايات والسناجق والإمارات…،.
والكرد، قوميّة مستقلّة بحدّ ذاتها، كاصطلاح سياسي، اجتماعي، ثقافي، يمكن إطلاقه على هذه المجموعة البشريّة، إذ لها قضاياها وحقوقها ومميّزاتها.
وبالتالي، تنطبق على الظاهرة الكرديّة، وصف الشعب والأمّة والقوميّة والأقليّة القوميّة، بناء على ما تمّ ذكره.
وفي كل هذه الحالات، يحقّ للمكوّن الكرديّ، وفق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والقوانين والأعراف والعهود الدوليّة، تقرير مصيره، سواء أكان في الانفصال، أو الفيدراليّة أو الحكم الذاتي الموسّع، أو الإدارة الذاتيّة الموسّعة، أو الاندماج ضمن الصيغ السياسيّة للدول التي تتوزّع عليها الجغرافيّة الطبيعيّة والبشريّة الكرديّة.
ولا يحقّ للمكوّن الكرديّ حقّ تقرير مصيره، إلاّ في حال كونه جاليّة، في البلدان الأوروبيّة، بل المطالبة بكامل حقوق المواطنة، والتعليم باللغة الأم، والضمان الصحّي والاجتماعي، وحقّ التظاهر والاجتماع وتشكيل الأنديّة والجمعيّات الإنسانيّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
وبالتالي، حين تسعى بعض قوى ما يسمّى بـ”المعارضة” السوريّة، أو بعض المعارضين، إلى حصر حقوق الشعب الكرديّ السوري في حقوق المواطنة المحضة، فهذا يعكس رؤيتهم الضحلة والمتدنّيّة، للمكوّن الكرديّ السوري، على أنه جالية، وليس شعب أو قوميّة أصيلة، لها كامل الحقوق التي تتمتّع بها القوميّة العربيّة.
إذ لا يستقيم ما يراه بعض هؤلاء للكرد من حقوق، إلاّ مع كون الكرد جالية وليس شعب، حتّى لو كانوا يطلقون وصف الشعب أو القوميّة على الكرد السوريين في بياناتهم وتصريحاتهم!.
وحين تطرح بعض الأحزاب الكرديّة في سورية رؤيتها؛ أن القضيّة الكرديّة هي “قضيّة أرض وشعب” لا يُعتبر هذا تطرّفاً أو راديكاليّة، بقدر ما أن عكس ذلك هو التفريط والميوعة وهدر وهضم الحقوق، بعينه، وعدم الانسجام مع متطلّبات الواقع وحقائقه، وبل التعارض معها!.
وللأسف، هذا ما حصل في “إعلان دمشق” حين فرض الأخوة المعارضون العرب، رؤيتهم للحقوق الكرديّة للكرد السوريين، وحصرها في حقوق المواطنة المحضة، على الجانب الكردي.
وموافقة ثمانية أحزاب كرديّة على ذلك، جعل السيّد عكلة، وغيره، يعيدون تذكير النخب الكرديّة بالتزاماتها حيال “إعلان دمشق” الذي يعاني إصلاً، من موت سريري.
أثناء تواجدي في دمشق، كان الجانب الكردي، دوماً هو المبادر بالتواصل مع الجانب العربي في المعارضة.
والجانب العربي، على هزاله وضعفه ووهنه وفقره الجماهيري، لم يكن المبادر مع الشريك الكردي.
لا في حقبة السبعينات ولا الثمانيات ولا التسعينات.وحين كانت تحدث تماسات بين الطرفين، تعاطى المعارضون العرب، مع الجانب الكردي، بشيء من الاستعلاء، على اعتبار أن الكرد، هم “المعارضون الجدد”، والقوى العربيّة، هم “المحاربون القدامى” الذين مضى على مقارعتهم للنظام عقود، ودفعوا أكلافاً باهظة، لم يدفعها الكرد.
وأن القوى العربيّة يمتلكون مهارات سياسيّة وثقافيّة، يفتقدها الأكراد.
وبل كان بعض المعارضين العرب، يتّهمون الكرد بأنهم كانوا، فيما مضى، حلفاء النظام، حين كانت المعارضة في سجنون النظام!.
بمعنى، لا يمكن للكثير من تيّارت المعارضة السوريّة أن تبرّئ نفسها من النزوع الشوفيني، ببساطة!.
مع وجود بعض الاستثناءات النادرة جدّاً.
ويمكن القول: إن بواكير التواصل الكرديّ، فرديّاً وحزبيّاً، مع المعارضين العرب السوريين، وأحزابهم، كانت مع بداية الألفيّة الثانيّة، وتسلّم بشّار الأسد للسلطة، وما سمّي وقتها بـ”ربيع دمشق”.
وتكلل هذا التواصل، بـ”إعلان دمشق” للتغيير الديمقراطي.
ولئن الكرديّ، كان متعطّش للتواصل مع الشريك العربي، لدرجة التهافت، كان هذا التواصل الإيجابي طبعاً، ينمّ عن عقدة نقص، مفادها: ضرورة ملأ الفراغ الحاصل بين الحركة الكرديّة والمعارضة العربيّة، على مدى أربعة عقود من عمر الحركة السياسيّة الكرديّة.
والجانب الكرديّ، حين كان يسعى لإقناع الجانب العربي المعارض بشرعيّة حقوقه وعدالة قضيّته، كان يسيطر عليه هاجس،وكأنه على وشك أن ينجح في إقناع السلطة الحاكمة أيضاً، بعدالة القضيّة الكرديّة!.
وأثناء نقاشي مع أحد الأصدقاء والزملاء الكتّاب المعارضين العرب في أحد مقاهي دمشق، تحضرني جملة قلتها له، بما معناه: أنتم، أيّها المعارضون السورييون العرب، رؤوس بدون جسد.
وأحزابنا الكرديّة، هي جسد بمئة رأس.
أو الأصوب، جسد بدون رأس!.
فوافقني الرأي.
ورغم تواصلي مع طيف لا بأس به من الزملاء والأصدقاء العرب المعارضين، وبخاصّة، الكتّاب والمثقّفين، لا يحضرني، ولو مرّة واحدة، اتصل بيّ أحدهم، مهنّئاً على عيد أو مشاركاً في فرحة أو ترحة.
بينما كنت دوماً، المبادر في التواصل معهم، والخوض في نقاشات وتشكيل صداقات.
وأعتقد أن أمثالي من الكرد كُثر.
طبعاً، لا يُفسّرنَّ أحدهم هذا الكلام في سياق الندم على البدء في مبادرة التواصل، وإنه لم يجدِ نفعاً.
بل مناسبة الكلام، هو التوقّف والتأمّل والمراجعة، وصولاً لطرح التساؤل التالي: هل كان علينا، بالضرورة، ككرد سوريين، حين نسعى إلى كسب أصدقاء لقضيّتنا وحقوقنا، أن نتنازل عن الكثير من حقائقنا وحقوقنا أمام أحزاب المعارضة السوريّة، أثناء تشكيل أيّ إئتلاف وطني معارض، كأنّ يكون اسمه؛ “إعلان دمشق”؟!.
في حين أنّه ينبغي ويفترض على القوّي والنشط والأكثر تنظيماً وممتلكاً لقواعد جماهيريّة، أن يكون ممتلك زمام المبادرة في أيّة عملية تفاوض!.
وإذا كانت أحزابنا الكرديّة، بهذه الهشاشة والهزال، رغم موقفها التفاوضي القويّ، أمام المعارضة العربيّة المشلولة، فكيف لها، والحال هذه، أن تدخل في أيّة مفاوضات مفترضة مع النظام السوري، مستقبلاً!.
وبالتالي، لقد كان “إعلان دمشق”التعبير الأصدق عن تفريط وتهافت وتمييع الأحزاب الكرديّة، ذات الجماهيريّة، إمام حنكة ودهاء، المعارضين العرب السوريين!.
وعليه، إذا كنّا فاشلين في المفاوضات مع “المعارضة” في أيّ أمل يرتجى منّا في أيّة مفاوضات مع السلطة، إذن؟!.
دون أن أنسى أنني كنت مؤيّداً لـ”إعلان دمشق” سابقاً، مع تسجيل التحفّظات عليه، والانتقادات له.
إلاّ أنّه تبيّن لي، أن تأييدي ذاك، لم تكن إلاّ محض أمل حيال وهمٍ مدغدغ، عنوانه: التغيير من الداخل.
قصارى القول: أحزابنا الكرديّة، هي فاشلة في المفاوضات مع بعضها.
ولا تتنازل لبعضها، عن أمور شكليّة وتافهة، حرصاً على المصلحة العليا للشعب الكردي في سورية.
في حين أنّها مستعدّة، وقد أثبتت التجارب على ذلك، للتفريط بأمور هامّة، وبحقائق أهمّ، تمسّ جوهر وحقيقة القضيّة والمطالب الكرديّة في سورية.
وهذا العيب، لا يحتاج للكثير من الأدّلة والبراهين.
أحزابنا الكرديّة في سورية، لا تتملك أيّة خبرة تفاوضيّة حقيقيّة، بعد مضي أكثر من نصف قرن.
رغم أنها لم تكن مشغولة بإعلان ثورات أو كفاح مسلّح، أو أيّ عمل عنفي, حتّى نبرر ضحالة الخبرة السياسيّة لديها.
أحزابنا الكرديّة، لا تستلهم من التجربة النضاليّة الكرديّة في كردستان العراق وكردستان تركيا، على صعيد العمل التفاوضي، السياسي والدبلوماسي.
فأحزاب كردستان العراق، ورغم الكثير من عللها ومثالبها، أجبرت الأحزاب العربيّة على التفاوض معها، قبل سقوط نظام صدّام، والقبول بشروطها.
وهي الآن، أيّ الأحزاب الكرديّة العراقيّة، بيضة القبّان في أيّة عمليّة تفاوضيّة بين الكتل العربيّة الشيعيّة والسنيّة العربيّة العراقيّة.
قد تكون الأحزاب الكرديّة فشلت في تطبيق المادّة 140 من الدستور العراقي، إلاّ نجاحها في تأكيدها وتوثيقها وإقرارها في الدستور، فضلاً على فرض الخيار الفيدرالي، والعلم الكردي، إلى جانب العلم العراقي، واللغة الكرديّة الكرديّة كلغة رسميّة ثانيّة في البلاد، هي مكاسب ونجاحات مهمّة واستراتيجيّة.
حزب العمال الكردستاني، بدوره، أجبر أنقرة وحكومتها للدخول في مفاوضات مع زعيمه الأسير.
ونشّطت حركة التواصل الدبلوماسي على محور قنديل _ إمرالي.
وبصرف النظر عن نجاح أو فشل هذه الجولة من المفاوضات بين الجانب الكردي والدولة التركيّة، إلاّ أن مجرّد حدوثها بحدّ ذاته، ينمّ عن خبرة ومراس سياسي في إدارة عمليّة التفاوض، والخروج منها بأقل خسائر ممكنة.
وحين ننظر إلى التجربة الكرديّة في العراق وتركيا وايران، حيال التفاوض مع قوى المعارضة في هذه البلدان، ومع حكوماتها أيضاً، ونقارنها مع تجربة أحزابنا الكرديّة في سورية، نشعر بالأسف والمرارة والشفقة على ما لدينا من بؤس وجهل وفقر مزمن.
وليس شركاؤنا الآخرون في العمل الوطني المعارض، بأذكياء، بقدر ما نحن الأغبياء.
والمفارقة الأكبر، أن في المشهد السياسي الكردي السوري، كبير وشيخ سياسيينا وعقلانيينا الكرد السوريين، هو أكثرنا تطرّفاً في الميوعة والإفراط في الحقائق والحقوق.
إلى جانب أن كبير وشيخ متطرّفينا، هو أكثرنا تمييعاً للشعارات الطنانة والرنانة، وذلك، بألاّ تكون أقواله متصالحة ومنسجة مع أفعاله.
وأن تكون الأخيرة هي الترجمة العمليّة للأقوال.
وحالنا هذه، هي التي تجعلنا من الهشاشة والتهافت على ما يسمّى بالمعارضة العربيّة، وقبول أن تكون حقوقنا لا تتجاوز حدود المواطنة، وفق مفهومهم للممواطنة، على أنها الانسجام مع الهويّة العربيّة الصرفة للوطن والنظام والدستور.
وإذا كان بعض عتاة عقلانيي الأحزاب الكرديّة يعتبرون “إعلان دمشق” مكسباً، وحصر حقوق الشعب الكردي في سورية، بالمواطنة، مكسب استحصلناه من الأحزاب العربيّة المعارضة، المجهريّة، ويسجّلون هذا المكسب باسم هذا الحزب أو ذاك، أو باسم هذا الزعيم _ الشيخ، أو ذاك، فأيّ مكسب يمكن لهذه الأحزاب من أن تستحصل عليه من النظام السوري الاستبدادي الدكتاتوري؟!.
كاتب كردي سوري