النقد في حراكنا السياسي – الثقافي

جان كورد

إن عقوبة “الاقصاء” للناقد السياسي الكردي الذي يملك ضميراً حياً لاتقل تعذيباً وألماً له عن عقوبة “السجن الانفرادي” في غوانتانامو أو عدرا،  والعزلة تدفع أحياناً إلى الجنون….


قرأت مؤخراً في موقع آفستا كورد مقالاً نقدياً جريئاً للكاتب الكردي الساخر قادو شيرين لجملة لفظها الشاعر الكردي المعروف أحمد الحسيني، قالها في ظروف ذاتية وموضوعية لامجال للتطرّق إليها الآن، حيث يخاطب زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل، السيد عبد الله أوجلان على هذا الشكل: “أوجلاناوس، فلتكن الكلمات والأشعار قرباناً  لحذائك!”.

ولا أدري كيف سيكون رد فعل الشاعر صاحب هذا التصريح على الناقد قادو شيرين ومقاله الممتع حقاً، وكيف ستكون ردود الأفعال المتشنجة من قبل أنصار الزعيم “أوجلانوس!” الذي جعل شاعرنا الكريم الكلمات والأشعار قرباناً له، كما هي العادة في حراكنا السياسي، حيث المعارك ساخنة باستمرار بين الذي يجهر بالنقد والذين لا يقبلونه…
ولكني واثق من أن الناقد الجريء قد وضع اصبعه على موضع الألم في جسد حراكنا السياسي – الثقافي، ألا وهو ارتكاب جريمة التضحية بالثقافة في خدمة الزعامة السياسية، بل النزول بها إلى مستوى أدنى من الحذاء، مما يذكّرنا بتعامل الصحافي العراقي (منتظرالزبيدي) بالحذاء عوضاً عن القلم الذي هو سلاحه كصحافي، أثناء آخر زيارة للرئيس الأمريكي السابق لبلاده العراق قبيل مغادرته البيت الأبيض نهائياً…مهيناً بذلك مهنته الهامة… فقد قالت الناس:”الصحافة هي السلطة الرابعة” وقالوا أيضا:”الصحافيون عيون الله في الأرض!”… ولم يتوقع أحد أن يهبط هؤلاء إلى مستوى قذف الحذاء بدل استخدام اللسان والقلم…
أنا شخصياً لم أقرأ ماكتبه شاعرنا العريق صاحب هذا التصريح الناري بهذا الصدد، ولكني أعلم عنه أنه يرى قلمه ولسانه كشمعتين وضاءتين في دجى الليل الكردي، ولا أجد الفرصة للبحث عن مثل هذه الأقوال التي تسقط من وزن ومكانة وقيمة “الكلمة” إلى هذا الحضيض، ففي البدء كانت الكلمة، كما تقول الحضارة البشرية ويحكيها لنا تاريخ الثقافة، والزعيم “أوجلانوس” نفسه لم يمتهن سوى حرفة “الكلمة” في حياته، فهو لم يحمل السلاح يوماً إلا في معسكر تدريب قواته أثناء تصويره من قبل الصحافيين، وهو من دافع عن أفكاره ومبادئه بالكلمة فقط، و يعلم ذلك جيداً هذا الشاعر أيضاً، فكيف يضع  “الكلمة” و”القصيدة الشعرية” التي ظلت محور حياته الأدبية ومصدر رزقه أحياناً، وسبب شهرته كمقدّم للبرامج الأدبية في قناة (روﮊ) التلفزيونية، قرباناً لحذاء زعيمه…ألم يضع السيد “أوجلانوس” ذاته “الكلمة” باستمرار في مكان أعلى بكثير من السلاح؟ ألم تكن تلك الجملة العظيمة (المقاومة حياة) التي أطلقها الشاب الكردي المناضل مظلوم دوغان أثاء تعذيبه حتى الموت أقوى من كل أسلحة العسكريتاريا التركية، ألم تمنحنا نحن الكورد جميعاً قوة تدفع بنا على طريق الحرية محطات متتالية؟
وقديماً قال الامبراطور الفرنسي الكبير نابليون بونابرت جملته الشهيرة: “أنا أخاف من صريرالأٌقلام أكثر من دوي المدافع”، وقد يجد شاعرنا المذكور صعوبة في الإجابة عن سؤالنا هذا:
“- ما أهمية الكلمة الأوجلانية في تاريخ حركته؟ أو كيف سيكون مصير حزب العمال ذاته  دون “الكلمة” التي تصدر عن زعيمه؟”
وليكن واضحاً تماماً أنني لا أتفق مع هؤلاء المثقفين في كثير مما يقوله ويكتبه السيد أوجلان أوينشر باسمه، وبخاصة منذ اعتقاله، والمجال هنا لا يتسع للتوسّع في ذلك…
المهم هنا ليس هذا الحادث المثير الذي أضافه الشاعر الكردي إلى صفحات تاريخ ارتماء المثقف الكردي في أحضان السياسة، وانما جرأة المثقف الكردي الناقد، وفي هذه الحالة (قادو شيرين) في الكشف عن الحقيقة والذود عنها كماهي، والاعلان عن وجود من لم تحتله السياسة احتلالاً تاماً، وبالتالي ساهم في وضع أساس متين لتكوين بذرة حية ونشيطة ومنتجة في تربة الثقافة السياسية لشعبنا الكردي…
أقول هذا، متوجهاً في الوقت ذاته بالتحية والتقدير إلى كل الذين استخدموا “الكلمة” في مستوى حضاري وثقافي عالٍ، في عموم كوردستان، وفي خارجها أيضاً، من إعلاميين وفنانين وشعراء ومتكلمين وسياسيين للكشف عن عيوب مجتمعنا الكردي، والبحث الجاد عن الحقائق والافصاح عنها، وتقديمها للشعب بموضوعية واتزان، مضحين بعملهم الذي يرونه واجباً وطنياً يقع على أكتافهم، ويخسرون في نضالهم ذاك الكثيرين من الفرص الممنوحة لهم، ويجلبون لأنفسهم وعوائلهم ألواناً مختلفة من المشاكل والآلام والعزلة والاهانات والتهديدات والاقصاء، لدرجة أن بعض هؤلاء الذين يسعون لخدمة شعبهم وقضيتهم بطريقة يرونها مجدية وضرورية يصبحون أهدافاً مباشرة لحملات التجريح والتقزيم والتعتيم الاعلامي، بل ويتهمون أحياناً بالخيانة الوطنية، فمنهم من يتم اغتياله ومنهم من يتعرّض للضرب وتكسير العظام، ومنهم من يذّل ويهان من قبل من هم أدنى من الحشرات أحياناً، بايعاز من أسيادهم ومن يقف وراء أسيادهم من أعداء الشعب الكردي…
إن مقولة الطفل الروماني الذي صرخ بأعلى صوته:” القيصر عارٍ!” لاتزال ترّن في أذن البشرية، وأصبحت موضع اعجاب الفلاسفة في الماضي والنقاد عبرالعصور…فالقيصر كان عارياً فعلاً ولم ير الطفل أي مصلحة له في اخفاء تلك الحقيقة أو التستّر عليها أو النظر برياء ونفاق إلى أخطر وأهم وأعظم رجل رآه في حياته…
الثقافة النقدية التي كانت وراء خروج أوروبا من ظلمات القرون الوسطى ومن مسلسل الحروب الطاحنة غير متوافرة في مجتمعنا، الذي لا تزال تسوده الأفكار الصوفية  منذ قرونٍ طويلةٍ ومعتمةٍ من الزمن، الصوفية التي تمنح الشيخ كل الصلاحيات القيادية للأتباع، وتسلبهم حرية الرأي والنقد، فتجعلهم (مريدين)، و”مريد”(*) في الكردية، هو “الميت”، حيث كان على التابع أن يجد نفسه لدى شيخه كالميت بين يدي الغسّال…فالشيخ يفكر بالنيابة عنه، ويقلّبه كما يشاء ليطهّره من الدرن بحكمته وفطنته وفهمه للدين والدنيا….


ولم يتمكن النظام التعليمي في بلادنا على الرغم من تأكيده على العلمانية والاشتراكية وغيرهما من بناء العقلية النقدية، لأن كل شيء حوله مقدّس أومعصوم…ليس دينياً فحسب، وانما سياسياً أيضاً…حتى بدت البلاد مع الأيام كحظيرة للغنم يقاد سكانها إلى المسلخ السياسي أفراداً وجماعات، والذي يتذمّر ولو بلفظة واحدة مصيره جهنم وبئس المصير أو “تدمر والمزّة وعدرا والشيخ حسن والأقبية السرية في مختلف المدن”…
وفشل النظام التعليمي السوري، أدّى إلى هذا الهزال الصارخ في ثقافتنا السورية النقدية على مستوى الأدب والفن أيضاً… رغم ظهور أصوات عظيمة أقلقت السلاطين منذ الحلاج وأبي نواس إلى نزار قباني وعلي فرزات …وغيرهم… واستمرّت الصوفية سائدة حتى في أحزابنا الشيوعية والحداثوية، ناهيك عن القومية والدينية…ويتباهى بعضهم بأن النظام لا يعتدي على تلك الحركات الدينية الصوفية، ويعتبرون ذلك السلوك “منّة” من النظام على الشعب… ولقد رأينا منذ أيام كيف تم توظيف “الجماعات الصوفية” إعلامياً، في مصر، تلك التي “لا تتدخل في السياسة!” وهي كثيرة حقاً، من قبل الحكومة وأتباع الرئيس المصري الحالي السيد حسني مبارك للدعاية له انتخابياً وسياسياً…لتقع في تناقض صارخ مع مبادئها اللاسياسية…
هذه الحياة الصوفية عرقلت نمو الشعر الهجائي والرسم الكاريكاتوري والأغنية الناقدة في المجتمع الكردي أيضاً، في حين أن المدائح الشعرية الدينية في شعرنا الكلاسيكي كبيرة وكثيرة مثلاً…
المشكلة في الحراك السياسي الكردي (السوري) تكمن في أن ليس لديها تاريخ طويل من ثقافة النقد الذاتي، لا في مؤتمرات الأحزاب، التي لا تعقد إلا بعد تأكّد القائمين على تلك التنظيمات من أنها لن تتمخّض عن تصفيتهم بصورة ديموقراطية نقدية، ولا في تربية العضوالحزبي، سياسياً وثقافياً…نعم هناك فقرة في جدول أعمال الاجتماع الحزبي عن (النقد والنقد الذاتي!) وهي توضع عادةً كآخر بند في جدول العمل قبل تحديد موعد الاجتماع القادم، ويتم المرور عليها مرور الكرام، وإذا كان هناك نقد جاد فإنه يعرّض الاجتماع للفشل أو تتم لفلفة الموضوع وتأجيله إلى اجتماع قادم “حرصاً على وحدة التنظيم” و”درءاً للانشقاق أوالاستقالة…!”
أما اليوم، بعد نشوء ثورة التكنولوجيا الالكترونية، ودخولنا عالم الانترنت المذهل، فإننا نرى ولو في حدود ضيّقة ومجالات محددة، تحركاً نقدياً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً لدى الكرد،  فنجد الشاعر الثائر على مجتمعه، والكاتب اللاذع في مقالاته، والكاريكاتوريست المؤثر، وآخر رسالة بريدية وصلتني اليوم كانت صورة كاريكاتورية جريئة لأخينا المثقف الناشط يحيى السلو، الذي يعبّر بصدق وجودة عما يختلج في صدور شعبنا من نقد يجب البوح به…
المشكلة الأخرى هنا هو أن المثقفين، وبخاصة الذين عاشوا فترة طويلة في العالم الحر الديموقراطي، مترددون بأنفسهم في الكشف عن عيوب الحركة السياسية الكردية لأسباب عديدة، ويدعو بعضهم إلى “تخفيف لهجة النقد السياسي” بذرائع يتم التقاطها من خارج عالم الحرية التي لاحدود لآفاقها الرحبة، وثمنها غالٍ فعلاً بالنسبة للذين يصونونها، في النظام السياسي وفي الحياة الثقافية…
إنّ استعداد رئيس الوزراء السابق طوني بلير للادلاء بافادته أمام لجنة تقصي الحقائق حول غزو العراق في عام 2003 وأداءه ذلك رغم كل ما ينجم له عن ذلك من النقد والتجريح ورغم الحملات العنيفة التي سبقت أعمال اللجنة عليه في الشارعاللندني، واعتباره مجرم حرب، هو حرص من قبله على استمرار الحياة في الحرية رغم كل مثالبها وأضرارها الشخصية له، بغض النظر عن صحة الاتهامات الموجهة إليه وإلى حكومته أو عدم صحتها… مثل هذا الاستعداد لقبول النقد الذي قلنا بأنه وراء انقاذ أوروبا لنفسها من سيطرة الكنيسة وجهل الملوك وطغيانهم لانجده في مجتمعنا الكردي، ومع الأسف يقف قطاع كبير من المثقفين المفترض فيهم أن يساندوا النقد السياسي والثقافي بقوة إلى جانب الشريحة السياسية القائدة بين الكرد…وبخاصة أولئك الذين لم يمارسوا العمل السياسي الكردي في حياتهم، فأصبحوا أطباء ومهندسين ورجال أعمال يهمهم قبولهم لدى الشريحة القائدة كمستشارين ورجال ثقة ويتم استقبالهم بحفاوة سياسية عندما يزورون الوطن في عطلاتهم الصيفية…
كما أن تشجيع النقد داخل الحركة السياسية الكردية “السورية” من قبل المسؤولين والزعماء ضعيف جداً، وغالباً ما تجد الرئيس يطرد من قيادته أقرب الرفاق إليه بتهم الخيانة الوطنية أو الحزبية أو بخروجه عن النهج الصحيح، والنهج غير الصحيح هو كل ما يدخل في خانة النقد له ولسياسته، حتى دون السماح بالاستماع إلى ذلك الرفيق ضمن حلقة حزبية أودون تقديمه للجنة محاسبة تفهم القوانين والحقوق بشكل جيد…
لذا نجد الناقد السياسي أو الأدبي أو الفني يعيش في معظم الأحيان حالة العزلة والقطيعة والاقصاء، كالجمل الأجرب يتم ابعاده عن القطيع حتى لايعدي غيره…إن عقوبة “الاقصاء” للناقد السياسي الكردي الذي يملك ضميراً حياً لاتقل تعذيباً وألماً له عن عقوبة “السجن الانفرادي” في غوانتانامو أو عدرا،  والعزلة تدفع أحياناً إلى الجنون….
وأخيراً، لا بد من التفريق بين النقد والاستهتار او الاهانة والطعن في شخصية الإنسان، بدلاً عن اظهار مواطن الخطأ في السياسة والممارسة السياسية، في النص الأدبي أو الأداء الفني…ولكن لا حرية لمجتمع يهان ويبتذل فيه النقد والناقد مثلما هو الحال في مجتمعنا الكردي مع الأسف…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…