تركيا واسرائيل وموسم المفرقعات والخدع السينمائيّة

هوشنك أوسي 
   

بالنظر إلى “التوتُّر” الناشب بين أنقرة وتل أبيب، والتهليل العربي، والايحاء بأنّه “بداية النهاية” في التحالف الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل، وإنّ حكومة “حزب العدالة والتنمية”، بزعامة رجب طيّب أردوغان، على وشك إطلاق رصاصة الرحمة على هذا التحالف، تضامناً مع القضايا العربيّة، وفي مقدِّمها؛ القضيّة الفلسطينيّة، بالنظر لما سلف، يتبادر للذهن السؤال التالي: إذا كانت السياسة الخارجيّة التركيّة، قائمة على “تصفير المشاكل” مع دول الجوار، وتخفيض مستوى التوتُّر ومنسوب الخصومة بين تركيا وأرمنيا واليونان وبلغاريا وقبرص، وتعزيز علاقاتها مع سورية والعراق وإيران، والعالم العربي والإسلامي عموماً، هل من الجائز الافتراض، إنّ السياسة الخارجيّة التركيّة، تسعى لتحويل الحليف الاسرائيلي الى عدو لتركيا؟!.
 وعليه، أوليس التلميح الى إنّ قطار تركيا، بدأ ينحرف عن الغرب وأميركا وإسرائيل نحو الشرق العربي والإسلامي، مبالغ فيه!.

والايحاء الى إنّ حبل الودّ التركي _ الإسرائيلي على شفير الانقطاع، فيه نوع من التغافل عن حقائق وعمق العلاقة التركيّة _ الاسرائيليّة!.

اعتقد أنّه لا زال باكراً، وباكراً جدّاً، أخذ هذه الفرضيّة، على محمل الجدّ، واخذ “الأزمة” الحاليّة بين تركيا واسرائيل، والتراشق بالتصريحات والاهانات، كقرينة كافية، للتكهُّن بأنّ التحالف الاستراتيجي، بين الاتراك واليهود، الذي تمتدّ جذوره لحقبة السلطنة العثمانيّة، على وشك أن يفقد صلاحيّته، وأن تركيا عازمة على التضحية بهذا التحالف، كـ”كرم أخلاق” منها، تضامناً مع العرب!.

اصرار عربي
إنْ لم يكن الكلّ، فإن نسبة 99 بالمئة من المراقبين والمحللين السياسيين العرب، لا زالوا يصرّون على أنّ خروج رئيس الوزراء التركي من مؤتمر دافوس، كان “تضامناً مع أهل غزّة”، واحتجاجاً على الحرب الإسرائيليّة عليها، وليس احتجاجاً على الوقت غبر الكافي الممنوح له للكلام، أسوة بشمعون بيريز!.

ويصرّ هؤلاء المحللون على أن إلغاء تركيا إشراك إسرائيل، في مناورات “نسر الاناضول” الجويّة، كان تضامناً مع محنة أهل غزّة، وليس أن موعد تلك المناورات كان متزامناً مع التوقيع على المجلس الاستراتيجي التركي _ السوري، الذي تمّ في مدينة حلب السوريّة، بحضور وزيري خارجيّة البلدين أحمد داوود أوغلو ووليد المعلم!.

ويصرّ المحللون العرب، على تفسير المواقف التركيّة من إسرائيل على انّه تضامن مع القضايا العربيّة، وفي مقدّمها، القضيّة الفلسطينيّة، ومعاناة أهل غزّة!.

ولا يعتبرون المواقف التركيّة، نوعاً من استثمار القضيّة الفلسطينيّة، لتصفيّة حسابات خفيّة بين الحليفين التركي والاسرائيلي.

شأن أنقرة في استثمار محنة الفلسطينيين، شأن طهران، التي لا تدّخر وسعاً لاستثمار هذه القضيّة، وغيرها من القضايا العربيّة، لتعزيز مواقعها في مواجهتها لـ”الشيطان الاكبر” و”قوى الاستكبار العالمي”، على حساب المصالح العربيّة!.

ناهيكم عن حجم المديونيّة الكبيرة لأنقرة تجاه تل أبيب، بخاصّة في القضايا الأمنيّة والعسكريّة، والتنسيق المشترك في محاربة حزب العمال الكردستاني منذ 1984، ولغاية الآن، واختطاف “الموساد” لزعيم الحزب الكردي، عبدالله أوجالان، من العاصمة الكينيّة نيروبي يوم 15/2/1999، وتسليمه للاتراك.

فضلاً عن اللوبي الصهيوني في واشنطن، الذي كان يعاضد الأتراك في الكونغرس الاميركي، ضد مساعي اللوبي الأرمني واللوبي اليوناني، في قضيّة المذابح الارمنيّة، والقضيّة القبرصيّة.

وهذا ما يمكن استشفافه من تصريح الخارجيّة الاسرائيليّة على تصريحات أردوغان، في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وقول الخارجيّة الاسرائيليّة في بيانها لتركيا: “الأتراك، هم آخر من يوجّه النصائح الاخلاقيّة لاسرائيل”.

بالاضافة الى إهانة نائب وزير الخارجيّة الاسرائيلي داني إيالون للسفير التركي في تل أبيب، اثناء استدعائه لمبنى الخارجيّة، وتوبيخه، وبلده، بطريقة مهينة، خالفت حتّى العُرف الدبلوماسي!.

غزّة

إذن، هي غزّة، والعدوان الوحشي الإسرائيلي عليها، ما دفع تركيا لوضع تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل على بساط القلق والتأزّم، ولا يوجد أيّة خلفيّات أخرى!.

هذا ما يمكن استشفافه من القراءات العربيّة لخفيّات الأزمة الناشبة بين أنقرة وتل أبيب.

وكان لكاتب هذه السطور، مقال، يتناول العلاقات التركيّة _ الإسرائيليّة، حمل عنوان: “تركيا واسرائيل: تحالف أقوى من الازمات العبارة”، نشرته جريدة “المستقبل” في عددها 2845، الصادر يوم 13/1/2008.

تناولت فيه تاريخ العلاقات التركيّة _ الاسرائيليّة، والأزمة التي شابتها هذه العلاقات وقتئذ، حيث اختمت المقال بالفكرة التاليّة: (ما يلوح في أفق العلاقات التركية الإسرائيلية، بأنها ثمرة تحالف استراتيجي أقوى من الأزمات والاهتزازات العابرة، لأن تركيا بحاجة إلى إسرائيل أمريكيَّاً وأوروبيَّاً، والأخيرة بأمسِّ الحاجة لتركيا إسلاميَّاً وشرق أوسطيَّاً).

واعتقد أن هذه الفكرة، لا زالت فاعلة ومعقولة، إذما حاولنا قراءة التوتر الحاصل بين أنقرة وتل أبيب مؤخّراً، من زاوية متخلفة.

انتقام واهانة واعتذار!
صار الاتراك ينتقمون من اسرائيل، على أفعالها الوحشيّة ضدّ الفلسطينيين، عبر المسلسلات، والخدع السينمائيّة فقط.

أمّا واقع العلاقات العميقة بين الحليفين، فيقول خلاف ما تقوله مسلسلات الاتراك!.

أحالت تركيا وحكومتها، الاهانة التي تعرّضت لها أنقرة، في شخص سفيرها في تل أبيب، إلى رعونة ووقاحة فريق في الحكومة الاسرائيليّة!.

ثم هددت بسحب السفير، إذا لم تعتذر اسرائيل!.

والشاجعة والكياسة الوطنيّة والقوميّة والسياسيّة تقتضي، وبل تملي على الاتراك، بسحب السفير فوراً، ورفض اعادته، إلاّ بعد الحصول على الاعتذار.

احتفلت النخب الاعلاميّة التركيّة، ومعها، الكثير من النخب العربيّة، بـ”الاعتذار” الاسرائيلي لتركيا، وتناسوا الاهانة.

وسجّلوا ذلك “الاعتذار” ضمن منجزات وانتصارات رجب طيّب اردوغان، شأنها شأن الانتصارات التي يحققها الاتراك على الاسرائيليين في مسلسلهم “وادي الذئاب…”!.

ولم يتساءلوا: ما قيمة الاعتذار، إذا تمّت مقايضته ببقاء السفير والعلاقات الدبلوماسيّة؟!.

وعليه، بتلك الاهانة الاسرائيليّة المفتعلة، والذي عقبه ذلك الاعتذار المشتبه به، تكون اسرائيل قد قدّمت للعرب دليلاً آخر، على صدق نوايا تركيا تجاه العرب وقضاياهم ومصالحهم، وزادت من انغراس وتغلغل تركيا في الجسد العربي، سياسةً واقتصاداً وثقافةً وإعلاماً ومأكلاً وملبساً…الخ!.

صفقات

لا شكّ أن السياسة الخارجيّة التركيّة تمتلك قدراً هامّاً من الذكاء والحنكة.

ولا شكّ أيضاً ان نسبة من هذا الذكاء، يتأتّى من القراءات العربيّة السطحيّة لخفيّات الازمة التي تعتري العلاقات التركيّة _ الإسرائيليّة، دون الغوص في عمق الاستثمار التركي للورقة الفلسطينيّة، على طاولة البازار التركي _ الإسرائيلي.

وإلى ذلك، يمكن لنا الوقوف عند نقطة هامّة على خطّ التوتر بين الحليفين، التركي والاسرائيلي.

وهي، توقيع أنقرة على صفقة شراء 10 طائرات اسرائيليّة، من دون طيّار، من طراز “هيرون”، بقيمة 183 ميلون دولار.

وذلك في سنة 2005.

يعني على عهد الحكومة الأولى لحزب العدالة والتنمية التي بدأت من سنة 2002 ولغاية 2007.

هذا وكانت مؤسسة الصناعات الجويَّة الإسرائيليَّة، لم تسلِّم الطائرات، ضمن المهلة المحددة في أيار 2008، ولم تصل إلى تركيا إلاّ في تشرين الأول 2009.

ولم تستخدم تركيا ذلك النوع من الطائرات ضدّ أيّة دولة، فقط استخدمتها ضدّ مقاتلي حزب العمال الكردستاني المتحصنين في المناطق الجبليّة الوعرة، جنوب شرق تركيا، وعلى الحدود التركيّة _ العراقيّة.

وكان مركز إدارة تلك الطائرات، هو مدينة باطمان، جنوب شرق تركيا.

وبعد الاستخدام، اتضح لدى الاتراك، بأنّ الطائرات مخلّة بالمواصفات.


ولم تجدِ نفعاً والمأمول منها في الصراع ضدّ الكردستاني.

فأعادت تركيا تلك الطائرات لإسرائيل بداعي الصيانة والتدقيق.

ولم تُرجع اسرائيل، لا الطائرات، ولا قيمة العقد للأتراك، بعد انتهاء مهلة الصيانة، وهي مضي 50 يوم على إعادة الاتراك لتلك الطائرات الى اسرائيل.

حتّى أن مسؤولون عسكريّون في وزارة الدفاع التركيّة، وفي لجنة الدفاع في البرلمان التركي، ألمحوا الى احتمال لجوء تركيا للتحكيم الدولي ضدّ اسرائيل، بخصوص هذه الصفقة، التي لم يتمثل لها الاسرائيليون، ولم يعيدوا قيمة العقد.

ما أشعر الاتراك بنوع من الخديعة.

وغالب الظنّ أن الاسرائيليين لم يعيدوا تلك الطائرات للأتراك، خشية أن يسرّب الاتراك تقنيتها لايران وسورية.

وهنا، بدأ التوتر في العلاقة.

ولم يشأ المسؤولون الاتراك التصريح العلني حول حقيقة الخلاف الناشب بين الحليفين، بل غمزوا من ساقية دعم وتأييد القضيّة الفلسطينيّة، والاحتجاج على حرب غزّة.

ولا شكّ أن بيان الخارجيّة الاسرائيليّة، قبيل الاعتذار، يتقاطع مع تصريحات سابقة لقائد سلاح الجو الاسرائيلي التي تنبّه تركيا بأنّها آخر من يوجّه النصائح الاخلاقيّة لاسرائيل.

لكون الأخيرة، مطلّعة تماماً على الأرشيف السرّي للجيش والحكومات التركيّة المتعاقبة، إنْ في تعاطيها مع الداخل التركي، الكردي والارمني، أو على صعيد ما انجزه الاسرائيلون للاتراك، سياسيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً ودبلوماسيّاً، على مستويات حساسة للغاية، ناهيكم عمّا أنجزه “الموساد” في سورية وإيران والعراق وروسيا وأماكن عديدة، عبر تركيا.

دون ان ننسى أن الهجوم الاسرائيلي على موقع “الكبر” السوري، كان بعِلم الجيش والحكومة التركيّة!.

وعليه، فإن الحليفين الاستراتيجيين، التي توتّرت العلاقة بينهما، مكشوفان لبضعهما البعض.

وليس مجازفة القول: إنّ اسرائيل أكثر دراية وإلماماً بمجيرات الامور والاحداث وخفاياها في تركيا، أكثر مما تعلمه تركيا من مجيرات الاحداث والامور في اسرائيل.

وكي تخفف تركيا من حجم المديونيّة والاستعانة بالحليف الاسرائيلي، لجأت الى تطبيع العلاقات مع ارمينيا واليونان والعراق وسورية وروسيا.

ورغم ما سلف: لا زالت تركيا هي المستورد واسرائيل هي المصدّر، أمنيّاً وعسكريّاً، وحتّى اقتصاديّاً وسياسيّاً.

(يبلغ حجم التبادل التجاري 3،5 مليار دولار بين البلدين.

ويبلغ عدد السوّاح الاسرائيليين الذي يزورون تركيا سنويّاً حوال 800 ألف سائح، ينفقون مليارات الدولارات في الكازونوهات ودور القمار التركيّة).

ولا زالت تركيا، تحسب ألف حساب للوبي اليهودي في واشنطن وأوروبا.

ولا زالت تركيا بأمسّ الحاجة لاسرائيل، مع استمرار الصراع مع حزب العمال الكردستاني قائماً وملتهباً.

وربما ليس شططاً اعتبار، ما يجري بين أنقرة و تل أبيب، هي قنابل صوتيّة ومفقرعات، وخدع سينمائيّة، الهدف منها، غرس تركيا اكثر واكثر في الجسد العربي والإسلامي.

ولن يدخل التحالف الاستراتيجي التركي _ الاسرائيلي امتحانه الحقيقي، إلاّ أثناء توجيه ضربة عسكريّة اسرائيليّة أو أميركيّة لطهران.

حينئذ سيظهر للعلن، إذا كان ما يجري حالياً من توتّر بيم الحليفين، ليس نوع من المسرح السياسي الاستعراضي، الذي يخفي وراء الستار الكثير من الانسجام والتآلف والتعاضد الاستراتيجي.

وأنّ فريق أردوغان والاسرائيليين، لا يقومون بتمثيل عمل درامي، جذب إليه العالم العربي والإسلامي شديداً، ولم تتأثر المصالح الاسرائيليّة _ التركيّة، قيد أنملة.

على العكس من ذلك تماماً، ازدادت تلك العلاقات تمتيناً وتعزيزاً.

وغالب الظنّ إن زيارة وزير الدفاع الاسرائيلي لانقرة يوم 17/1/2010، سيكون على جدولها صفقة الطائرات تلك.

فتركيا وجيشها وحكومتها، قد خططت لشنّ هجوم واسع النطاق على معاقل العمال الكردستاني، داخل وخارج تركيا، وعدم وجود طائرات هيرون الاسرائيليّة هو الذي يعرقل هذه الحملة.

هذا هو بيت القصيد التركي، من مجمل الازمة.

والقضيّة الفلسطينيّة، وحرب غزّة، هي قناع، لا أكثر ولا أقلّ.
كاتب وصحفي كردي
Shengo76@hotmail.com

عن موقع إيلاف

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…