والمناضل الحقيقي هو الذي يحسن إدراك طموحه النضالي , كما يحسن رصد هدفه ووسائله إلى تحقيق رؤيته واستراتيجيته النضالية , كما يجيد عملية التلاؤم والتواؤم بين ما يدعو إليه , وما يتلمسه من أدوات وتكتيكات وتنظيم للطاقات والمفاهيم , من شأنها أن تقرب إلى الهدف , وتوصل إلى الغاية التي نذر لها أدواته ووسائله والمنهج النضالي الذي ارتآه , وطريق الوصول المعبدة والممهدة , من خلال آلية ضبط تنظيمية متطورة وقابلة للتبدل والتلاؤم مع مختلف الظروف والملابسات والحالات.
ويبقى تحديد الإطار النضالي والعقيدة الكفاحية من أهم وأخطر الخطوات النضالية , والتي تحدد آفاق العمل لتبقى الوسيلة المتطورة والأداة النضالية التي يتلمس بها المناضل منهجه الحياتي خطوة تالية لها , ومعبرة عمليا عنها , مما ينبغي إدراك دورها , كما يفترض عدم الخلط بينها كأداة منهجية من أي تجمع أو هيئة أو حزب سياسي أو جمعية او ناد ثقافي , واستراتيجية الرؤية النضالية التي تشكل الخطوة الأولى الرائدة كما أسلفنا , ليكون البرنامج واضح المعالم ,دقيقا في شفافيته ونضجه واكتماله , وكونه منطلق البناء ومحور عقيدة المناضل , مما ينبغي الوقوف عليه ورفده ببيان محتوى هذه العقيدة وأسسها ومنطلقاتها وخطوطها العريضة.
ولقد وجدنا أنفسنا وكوادرنا في البارتي خاصة وفي الحركة الكردية في سوريا بشكل عام مع الاستثناءات التي لا يمكن إغفالها أو تجاهلها , لقد وجدنا أنفسنا وكل ما نملك من طاقات نضالية في غمرة حياتنا النضالية في سوريا ملتزمين بجملة ركائز ومنطلقات نضالية مصقولة ومنصهرة في غمرة تجاربنا المتعددة والمتنوعة , وعصارة حياتية سياسية وفكرية مديدة ومتطاولة على مدى عقود من الزمن , تشكل الحاضن الزمني للتاريخ النضالي في بلدنا لتصوغ هذه التجارب وتلك التراكمات رؤية نضالية متماسكة وصلبة , تجلت في أسس وقناعات , كان من أكبرها وأكثرها بروزا وتوضحا الرؤية الوطنية الشاملة والجامعة لأسس العلاقات بين أطياف واتجاهات ومكونات المجتمع السوري عربا وكردا ومن مختلف الفئات والقوى والشرائح والتوجهات , في التركيبة المجتمعية وخصوصيتها التكوينية , بما يحقق ويدعو إلى العدل والمساواة والتكافؤ ومنع التمييز والتفريق بأي سبب من الأسباب , وبما ينجز حقوق المواطنة الحقة , وما يستوجب كل ذلك من صيانة وحماية المواطن السوري من كل أشكال الاضطهاد والتهميش والإقصاء, وضرورة إشراكه وفق كفاءته وقدراته في القرار السياسي دون حكر أو إنكار أو تنكر , ووفق مؤهلاته دون حاجز من لون أو مذهب أو اتجاه أو ممارسة لأي نشاط يقع في إطار قناعته ورؤيته ومنهج عمله في الإطار الوطني العام, والمصالح الوطنية العليا في الاجتهاد نحو تحقيق الأمن والرفاه والاستقرار والازدهار والعمران , بما يتيح الفرصة لتعبر هذه الطاقات وتلك الإبداعات عن نفسها تعبيرا سلسا غير مرهق ولا مقيد بحدود قناعات وتصورات موضوعة مسبقا في إطار هيمنة جماعة أو فئة أو تيار سياسي ومن خلال مواقف مرسومة لا يمكن تجاوزها وتخطيها وفق تلك التصورات والمعايير الجاهزة والمتجلية في الواقع العملي , حيث لا يمكن أن يتحقق التناغم والتواصل إلا في إطار تشاوري ديمقراطي مؤمن بالرأي الآخر , ليحدد أفق العملية السياسية , من خلال حوار بناء وهادف لا يستثني مكونا أو اتجاها أو رؤية بما يحفظ ويؤسس للمعايير والموازين والقيم الوطنية والأخلاقية والقيمية الجامعة , وبما يعزز الوحدة الوطنية ويرسخ قواعدها من خلال ممارسة مسؤولة ومدركة , وقادرة على الإحاطة والوعي بهذه العملية السياسية وظروفها وملابساتها ومقتضياتها.
ويأتي المرتكز الرئيس الثاني بعد الركيزة الوطنية في العقيدة النضالية الموقف القومي ذو البعد الإنساني , هذا المرتكز الذي يمس شخصية الإنسان بشكل مباشر والذي يعد لازمة لصيقة بوجود الإنسان على غير إرادة منه لأنه لم يختر بنفسه شكله و لونه وقومه ومحيطه الاجتماعي ولغته وانتماءه بل حاول – بعد أن وجد نفسه – مسوقا بإرادته إلى الدفاع عن هذا الوجود .
وتعزيز هذا الكيان , تطويره والبحث عن مقومات بقائه وامتداده , مما يفترض ألا يكون موقفه في التعبير عن ذاته وكيانه المتحقق ووجوده المتميز في لغته وعاداته وتقاليده وإرثه الثقافي تعصبا وانكفاءا باتجاه العنصرية والعرقية , ونفي وإنكار الآخرين , واستغلال قدراتهم وإمكاناتهم واضطهادهم والاستعلاء عليهم , ونهب مقدراتهم وخيراتهم , ومحاولة النيل من هذا الوجود بالتنكر وعدم الاعتراف , بل ممارسة شتى الوسائل والطرق والإجراءات للحد من تطور و تنامي وجود مكون آخر مواز ووطني متعارف على خصوصيته وتميزه ومتعايش مع المكون الرئيسي والمكونات والأطياف الأخرى كالكرد , دون أن يعني ذلك فصاما ونكدا وتدابرا وقطيعة مع المحيط الوطني , بل إسهاما مؤثرا فيه وإغناء له , وهو الوجه الحقيقي للبعد القومي ذي الصبغة الإنسانية , وما تعنيه من تواصل وجداني وتكامل مع الآخرين , وهنا يتلازم البعدان الوطني والقومي كركيزتين أساسيتين من ركائز العقيدة النضالية , والتي لا تكتمل , ولا تغني وتثمر دون قيم رفيعة أخلاقية وروحية , تعمر هذه العقيدة وتمدها بطاقة منشئة ومبدعة , لا تزال تعطيها قوة دفق وحيوية وحركة وأملاً في عطاء لا ينفد , وفعل متقد بدوافع من شأنها أن تمد العمل النضالي بقدرة حركية فائقة , تتصل بعمق بعمل رقابي داخلي , ووازع أخلاقي عميق الجذور يعطي للحركة معناها وقيمها السامية , وانعطافها الدقيق وهي تخوض تجربة البناء بدوافع قوية , وحركة عامرة بالحياة , وإيمان عميق بجديتها وجدواها , وقدرتها على التلاؤم مع مختلف المحن والتجارب المريرة والقاسية , التي تخرج المناضلين , الجادين في بناء الحياة , ورفدها بطاقة لا تنقطع وصقل وتهذيب متواصلين , وقوة تأثير لا تخمد ولا تتعطل , بل تزداد تألقا وإشراقا ونماء وحيوية , بحيث يغدو للهدف النضالي نبله وسموه ورفعته وقوة تحريك , وصلابة غير معهودة في الاستمرار والتدفق , ودخول الميدان النضالي أفواجا وجماعات, وهوما شهدناه عيانا – ومن خلال ممارستنا العملية على مدى عقود- دون أن يعني ذلك ادعاء ما لم يكن مما خبره المراقب المنصف , في حين ينحسر الآخرون ممن لا يملكون تلك الطاقة النافذة من القيم والدوافع الرفيعة , والآفاق النضالية الحقيقية, وخوض المعاناة وألام المخاض العسير , واليقين المنصهر في أعماق النفس , والحس الوطني المتيقظ , والذي يضغط على الفكر , ويحيله قوة أصيلة عميقة تشربت بها النفس , وغذت الضمير , وأيقظت من سبات كان متحكما لولا هذه الطاقة اليقينية من المثل السامية والرؤى الفاضلة والقيم العالية التي تحيي الفكر وتمده بقوة دفع لا نظير لها , مما دفع كبار المناضلين والدعاة إلى النبل والخير والعافية الإنسانية, ليمنحهم سر الخلود في سفر الزمن , واستمرار ذكرهم مع كر الدهور وتوالي السنين , وهو سر عظيم من أسرار العقيدة النضالية الحقة والسليمة والمعافاة من كل زيف ودجل ومداهنة ومواربة وانتهازية بغيضة, وكبرياء نافج فج ومقيت .ومن أجل ذلك كانت العقيدة النضالية عمقا فكريا لنا , وتراثا تاريخيا متألقا نعتز بركائزه وخطوطه وخيوطه ومعاييره , بما يحيل خصوصيتنا النضالية إلى حجر أساس ومحور عمل نتحرك من خلاله , ونتحرى أسسه ومعاييره ومقوماته ليكون قوة دفع ومنطقة أمان , ومعلما يضيء بيقين درب كل كادر ومناضل يحترم مقاييس نضاله ويسعى إلى تقويمها وتطويرها وتجديدها , وبناء أكثر العلاقات متانة وسلاسة وعمقا , رغم العراقيل والعثرات والمحن والصعوبات البالغة التي اعترضت هذه المسيرة الشاقة والقاسية , ليهون كل ذلك في سبيل إرساء ركائز عقيدة نضالية صائبة وعميقة الجذر.
الجريدة المكزية للبارتي الديمقراطي الكوردي – سوريا / العدد (349) ايار 2010