لاشك أن لكل مرحلة من مراحل التاريخ خصائصها وصفاتها، وفرسانها، قادتها، حكماؤها وعلماؤها، هؤلاء القادة والعلماء هم المثقفون العضويون للمجتمعات في كل مرحلة، والقادرون عند توفر ونضج الظروف الذاتية والموضوعية حسب معظم الفلسفات المادية وغير المادية، على تسريع التغيير في مجرى التاريخ والاقتصاد والمجتمعات الإنسانية. وقد أفسحت نظرية آينشتان النسبية المجال واسعاً لتغير مفاهيم العلم والعالم بشكل مستمر بعدما أخرجتهما من قمقم النظرية النيوتينية ذات المفاهيم الثابتة الحتمية والمطلقة. أي أن آنشتاين رفع الحصانة عن العلم والنظريات المعرفية الميتافيزيقية التوجه وذات السمة المعرفية الحتمية والمثبتة باطلاق، ولم يعد هناك علم أو نظرية علمية بمنآى عن القابلية للتطوير والنقد والتغيير.وماركس نفسه يرى أن لاشيء ثابت في هذا العالم وأن كل شيء نسبي وفي تغير مستمر، ولكل عصر مفاهيمه ومحدداته التي اكتسبها من خلال إنضاج ظروفه الذاتية والموضوعية، لكن – وبدون إطالة – سنستعرض هنا بعضاً من حالات الإختلاف بين الفلسفتين الماركسية والأوجلانية – إن صح التعبير – وهما يساريان في الفكر والمذهب.
وبخلاف ذلك فإن أوجلان يرى أن ليس هناك شيء يمكننا القيام به سواء تغييراً كان أم غيره دون مراجعة التاريخ وفهمه وتفسيره أولاً بدءاً من الرهبان السومريين تحديداً وحتى اليوم. فما فعله الرهبان السومريون وما رسخوا من كاريزمات دينية وميثولوجية في أذهان الشعب ومجتمعات دول المدن السومرية آنذاك لاتزال تشكل القاعدة البنيوية لما يجري الآن ضمن مجتمعات الحداثة الرأسمالية وخاصة في الغرب المتطور، وفي كل الدول السائرة في ركبها بل في العالم كله. فالرهبان السومريون هم الذين أوجدوا الآلهة المقنعة والملوك العراة حسب تعبير أوجلان، كما أوجدوا المجتمع المديني الدولتي والطبقي والذي هو الآن سبب كل البلاء والشرور في العالم. يقول أوجلان: (وبالفعل فولادة مجتمع المدينة الدولتية قد نمت في احشاء رحم معابد الربان السومريين) مانيفيستو الحضارة- – ص-145. هذا المجتمع المديني- العبودي والذي تمثله بناء الزقورات في العراق أصدق تمثيل، يقول أوجلان: ( يلوح أنه من المؤكد أيضا أن أول نموذج ملموس ومجسد على أرض الواقع لمجتمع المدينة والذي أثر في سياق نظامنا المديني برمته يرجع في أصوله إلى زقورات السومريين) المصدر نفسه – ص-145. حيث كان تصميم بناء الزقورة تحاكي الإنقسام الإجتماعي على أرض الواقع، وقد قسم الرهبان الزقورة إلى ثلاث طبقات خصصت الطبقة الأولى للآلهة السماويين وممثلهم الملك، والثانية لنبلاء القوم، والثالثة لطبقة الخدم والعبيد. وحتى اليوم نرى في مجتمعات الحداثة الرأسمالية سكان الطوابق السفلى وهم العمل والكادحون وسكان الطوابق العليا وهم البرجوازيون والرأسماليون. ومن هنا – وكحل لهذا التفاوت الطبقي- لابد من العودة إلى المجتمع الطبيعي الذي كان سائداً في العصر النيوليتي حينما كان الناس سواسية كأسنان المشط وبناء الحضارة العصرانية والأمة الديموقراطية الحرة. هكذا – وبخلاف مقولة ماركس هذه – يمكننا ومن خلال تفسير التاريخ، فهم ما يجري اليوم في النواحي الإقتصادية والمجتمعية في عصر الحداثة الرأسمالية، والإنطلاق منها نحو تغيير المجتمع والتاريخ أيضاً.
2 – الظروف الذاتية والموضوعية: تركز الماركسية على التمييز بين الظروف الذاتية والموضوعية في معالجة تغيير وتطورالمجتمعات أياً كان نوعها وسوياتها، وأن النقطة الأهم في معالجة تغيير المجتمعات هو نضج الظروف الذاتية والموضوعية وأن الأخيرة هي الأهم على الإطلاق، وفي حال انعدام نضج الظروف الموضوعية تعجز القادة والأفراد عن تغيير تلك المجتمعات مهما أوتوا من قوة وإرادة وبأس. يقول بليخانوف الماركسي الشهير: (إن الأفراد مهما عظم شأنهم وقدراتهم ومواهبهم لايستطيعون وحدهم أن يحددوا مجرى التطورات التاريخية والتغيرات الإجتماعية التي تحتكم بالأساس إلى قوى وظروف موضوعية)- بليخانوف- دور الفرد في التاريخ 1898م. أو أن البنية التحتية – بتعبير ماركس- للمجتمعات أي الإقتصاد أو التحليل الإقتصادي هو الأساس في تطور البنى الفوقية من علم، ودين، وفن، وفلسفة، ميثولوجيا، وأخلاق، وحقوق، وعادات وتقاليد…الخ. ويؤكد إنكلز ذلك بالقول:(أن المجتمعات محكومة بضرورات هي في جوهرها اقتصادية). بينما يعقب أوجلان على ذلك بقوله: (لقد ظن ماركس ومدرسته انه بمقدورهم تسليط الضوء على المجتمع، التاريخ، الفن، الحقوق، وحتى الدين عبر التحليل الاقتصادي)-ص-131
وبخلاف ما قيل أيضاً ومن خلال كتابات أوجلان، نرى أن الرجل لا يفرق بين الظروف الذاتية والموضوعية ويراهما وحدة واحدة ويرى أن هذه التعارضات الثنائية بين المفاهيم الفلسفية والاجتماعية هي سبب ظهور التناحرات والصراعات الإجتماعية في التاريخ البشري، وظهور العلموية والمجتمع الطبقي والسادة والعبيد والدولة القوموية. يقول أوجلان: (أن كافة البنى العلمية التي تضفي على التمييز بين الذات والموضوع دوراً أساسياً، هي أسيرة استقلالياتها …..ولربما أن الانحراف الأكبر الحاصل باسم العلم مخفي في هذه المزاعم)- مانيفستو الحضارة المدنية -ص-35. وحسب رأيه فإن مثل هذا التفريق بين المقولتين الذاتية والموضوعية يفتح الطريق – وكما قلنا – نحوالعبودية وانقسام البشر الى نخب وذوات من جهة، وآخرون يشكلون الموضوع لهذه الذوات أي فاعل ومفعول به أي انقسام المجتمع إلى سادة وعبيد. وينتقد أوجلان الدور الماركسي الموكول إلى البروليتاريا على أنها الطبقة الاكثر وعياً وثورية فيقول: (وأحد أهم الأخطاء الجسيمة للإسلوب الماركسي يكمن في انتظاره من البروليتاري القابع تحت وطاة القمع والاضطهاد والاستغلال اليومي أن ينشيء المجتمع الجديد: دون أن يوجه الثورة ويعمقها في الميادين الذهنية. لقد عجز الماركسيون عن رؤية البرولتاري عبد مغزو ومستعبد من جديد. بل وقعوا بأنفسهم في سفسطة العامل الحر)-نفس المصدر-ص-40.
فهذه الطبقة غير مؤهلة لذلك على الإطلاق، فهي طبقة مستعبدة وينعتها ماركس بالكادحين الأحرار. لهذا يقول أوجلان في موضع آخر: (لا وجود لكادحين أحرار تابعين لأصحاب الملكيات العامة منها والخاصة في أي مجتمع طبقي، بما فيه مجتمع المرحلة الرأسمالية، فأي إنسان غير مستعبد بالقمع والشرعنة، لايمكن أن يعمل بحرية في ملكية الآخرين).-140.
أي أن أوجلان يرى هنا أن التغيير الذهني للفرد وليست الظروف الموضوعية، هو الذي يؤدي إلى التغيير الإجتماعي برمته. وفي هذا نضع أوجلان قرب فكر القائد العالمي أرنستو تشي غيفارا مبتعداً مسافة عن الماركسية في هذه النقطة، حيث كان غيفارا يرى بأنه يمكن تغيير الذهنية الفلاحية وبغياب الظروف الموضوعية، عن طريق الضرب على وتر مصالحهم الجوهرية والتواضع والعمل معهم في حقولهم وقراهم ومساعدتهم في بعض المستلزمات الزراعية، كما فعل مع فلاحي بوليفيا الذين احتضنوه وعصابته الثورية، وحينها يمكن إشعال ثورة تحررية وإيجاد موطيء قدم أو قاعدة أرضية بين هؤلاء الفلاحين لمجموعات الثوار، وتلك نقطة خلافية بينه وبين مفهومها في الماركسية- اللينينية أيضاً. حيث كان لينين يرى بأن عدم نضج الظروف الذاتية والموضوعية معاً لا يمكن أن يؤدي إلى تحقيق انطلاقة ثورية مهما كانت الأسباب والمبررات.
فالبنية التحتية أو الاقتصاد المجتمعي أو الظروف الموضوعية لدى ماركس هي أساس تغيير المجتمعات وبناها الفوقية وفق علاقة جدلية بين البنيتين. فتطور وتغيير البنية التحتية يرافقها تطور في البنى الفوقية المرافقة لها، كالعلم، والثقافة، والحقوق، والأدب…الخ. فالبنية التحتية أي ما يسمى بالاقتصاد هو المؤشر الحقيقي والأساسي لتغير التاريخ، لكن يمكن للبنى الفوقية أن تسرع من عملية التغيير ليس إلا. وأوجلان ينكر ذلك تماماً ويقول: (أما الشروع بالقول بأن البنية التحتية تحدد التاريخ أو العكس بأن التاريخ عبارة عن أفعال الدولة وعملياتها، فلن يذهب أبعد من تحريف وتشويه التاريخ الحقيقي بالنسبة إلى علم المعنى). –ص-131
3 – في مجال الرأسمالية: يرى أوجلان بأن الخطيئة الكبرى لماركس هي في اعتباره بأن الرأسمالية هي المرحلة الحتمية الرابعة في التشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية، وأنها مرحلة حتمية تمر بها جميع الشعوب والمجتمعات مع بعض الاستثناءات. بينما يرى أوجلان بأن الرأسمالية ليست مرحلة حتمية تمر بها الشعوب والمجتمعات، بل المرحلة الرأسمالية هي مرحلة دخيلة وطفرة خاطئة في مسيرة الحياة البشرية، وهي التي سلبت المجتمع الطبيعي دوره في رقي الشعوب وتطورها، وأنها أصلاً ليست بنية اقتصادية، بل يمكن أن نسميها بالرأسمالية ضد الاقتصاد، وأن مقولة ماركس في سبيل مرور الشعوب بهذه المرحلة هي إحدى أسباب انهيار الاشتراكية المشيدة.
4 – المماركسية وتعاقب التشكيلات الإقتصادية – الإجتماعية: حسب ماركس فإن العالم أو المجتمعات الإنسانية مرت بخمس مراحل أو تشكيلات اقتصادية-اجتماعية متعاقبة وهي: مرحلة المشاعية البدائية، ثم العبودية، والاقطاعية، والرأسمالية، وأخيراً الاشتراكية أو الشيوعية.
ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية كما أن لها رجالاتها وفنانيها ومثقفيها العضويين، أي أن كل مرحلة تختلف عن الأخرى بعلاقاتها الإنتاجية وبقواها المنتجة ووسائل إنتاحها ومفاهيمها ومعالمها الإقتصادية البارزة. بينما يرى أوجلان بأن الجزم بمرور المجتمعات بهذه المراحل بشكل آلي أوتوماتيكي مبالغ فيه. و يضع بدلاً منها ثلاث مراحل فقط وهي: المرحلة البدائية، ثم المرحلة المدينية، ثم مرحلة الحضارة العصرانية، والأخيرة هي مرحلة نشوء ما يسميه بالمجتمع الديموقراطي أوالأمة الديموقراطية الحرة، فهي وحدها القادرة على نشر جو من العدل والمساواة سواء داخل الشعب الواحد أو بين الشعوب المختلفة. بعكس الحداثة الرأسمالية القائمة اليوم على المال، والصناعوية، والدولتية القوموية القائمة بدورها على الفاشية والعنصرية وإنكار الآخر المختلف.
5 – الدولة القومية أو الدولتية القوموية: يرى أوجلان أن الماركسية تعتمد في التطبيق العملي على الدولة القوموية السلطوية رغم مقولته الشهيرة عن اضمحلال الدولة، ودولة ماركس هنا لاتختلف عن الدولة الرأسمالية في شيء فهي سلطة قمعية وديكتاتورية لاغير. وهذه السلطة الدولتية كانت إحدى الأسباب التي أدت إلى انهيار الاشتراكية المشيدة. يقول أوجلان أن: (الدولة القومية ثمرة من ثمار الحداثة الرأسمالية، وبالتالي فهي غريبة…)- ص-77. ومهما كانت صفاتها فهي ليست سوى جهاز للسلطة والقمع، والحل هو أن يستحوذ الشعب على سلطات الدولة بادارة نفسه بنفسه عن طريق مؤسساته الاجتماعية وسحب سلطات الدولة منها الا في حالات معينة ونشر المجتمع الحر والديموقراطية الحرة.
6 – في فكرة السلعة أو القيمة التبادلية للسلعة: يرى ماركس إن الشيء لاتصبح سلعة الا حينما يدخل في المقايضة أوأصبح لها في التجارة قيمة تبادلية، أي أن ماركس يرى ضرورة وصول الشيء إلى حالة التسليع حتى تدخل التجارة ويتطور بنتيجتها النظام الرأسمالي. غير أن أوجلان يعارض فكرة التبضع أي تحويل السلعة الى بضاعة ذات قيمة تبادلية ويقول:( إني لا أفسر السلعة على غرار ما فعل كارل ماركس.أي أنني أرى ادعاءه بإمكانية قياس القيمة التبادلية للسلعة عبر كدح العامل، بداية لسياق اصطلاحي أسفر عن مخاطر ومهالك هامة. …فقبول تبضع المجتمع على الصعيد الذهني يعني تماما التخلي عن كينونة الانسان كانسان. وهذا ما يعني بدوره تعدي حدود البربرية. نفس الممصدر السابق-ص-171.
7 – الصراع الطبقي: يقول ماركس: (الصراع الطبقي محرك التاريخ). ويقول أيضاً في البيان الشيوعي (إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا ما عدا المشاعية البدائية- حسب إنجلز – لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات). وفي العصر البرجوازي انقسم المجتمع أكثر فأكثر، إلى معسكرين فسيحين متعارضين، إلى طبقتين كبيرتين متعاديتين: هما البرجوازية والبروليتاريا. بينما يرى أوجلان: (أن رؤية التاريخ مجرد حروب طبقية رأي إسقاطي واختزالي مغال فيه…….فالطبقة المناهضة للطبقة النخبة ليست بنمط يرسم مجرى التاريخ)- المصدر السابق-156.
………………………………………………………………..