ذهنية التحريم في التعامل مع القضية الكوردية في سوريا

المحامي مصطفى أوسو

  يعتبر الشعب الكوردي في سوريا، من الشعوب الأصيلة في المنطقة، التي يعيش على أرضه التاريخية، حيث قسمت اتفاقية سايكس – بيكو، السيئة الصيت عام 1916 الكورد أرضاً وشعباً، بين عدة دول في المنطقة، وفق إرادة ومصلحة الدول التي قامت بالتقسيم، ومن ضمنها سوريا.

  ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، ينتاب الحديث عن الوجود القومي للشعب الكوردي في سوريا، الكثير من التعتيم والتشويه وحتى التحريف أيضاً، لعوامل وأسباب كثيرة، أهمها: عقلية الاستبداد الناجمة عن الفكر الشمولي، النافي للتعددية، سواء أكانت قومية أو فكرية أو ثقافية…، وهذا الأمر أصبح قاعدة يستند عليها في كل ما يتعلق بهذه القضية.
  وقد سادت سوريا الكثير من المغالطات، حول الوجود القومي الكوردي في سوريا، وفق العقلية المذكورة أنفاً، وإيديولوجيتها…، مما خلق أرضية من التباعد وفقدان الحوار…، بين أبناء القوميتين الرئيسيتين في البلاد، العربية والكوردية، ونخبهما السياسية والثقافية…، وبالتالي خلق حالة من عدم المعرفة بالآخر، ومدى معاناته من الغبن والظلم.

  في بداية استقلال سوريا، انتعش الوعي القومي الكوردي بالترافق والتوازي مع انتعاش الوعي القومي العربي، حيث كانت المواطنة في هذه المرحلة، أساساً ومعياراً للتقييم، وكان الانتماء لسوريا، دولة لجميع مواطنيها، واضحاً تماماً، حيث تمتع فيها الكورد مثلهم مثل بقية أبناء المجتمع السوري، بكل الحقوق المترتبة على الحق في المواطنة.
  ولكن، هذه المرحلة لم تدم طويلاَ، إذ سرعان ما بدأت بالانهيار، منذ الإعلان عن قيام الوحدة بين سوريا ومصر، حيث سادت الأفكار القومجية العروبية، وتم إنكار وجود العنصر غير العربي، واضطهاده وحرمانه من ممارسة حقوقه، مما أدى إلى تخريب المجتمع وهدمه سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً…، ومراكمة عوامل الفرقة والانقسام فيه، وعدم القدرة على مواكبة ومجاراة تطورات العصر، وتحولت السلطة فيها إلى سلطة استبدادية قمعية، ألغت الآخر المختلف من حياة المجتمع والدولة، بحجج ومبررات واهية.
  أن شكل التعامل الرسمي، الإلغائي، مع الوجود القومي الكوردي في سوريا، بدأ منذ تشكل وتبلور الأحزاب القومية العربية، التي بدأت بحظر كل ما يمت إلى القومية الكوردية بصلة، من التكلم باللغة الكوردية، إلى منع الزي الكوردي، وتغيير الأسماء والمعالم التاريخية الكوردية…
  ومع النهوض القومي الكوردي في أجزاء كوردستان الأخرى، بدأ الإعداد لمشروع عنصري شوفيني تجاه الوجود الكوردي في سوريا، والذي أنجزه ضابط الأمن السياسي السيئ الصيت محمد طلب هلال، عام 1962 من خلال دراسة بعنوان: ( دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية والاجتماعية والسياسية )، التي أصبحت لاحقاً المرتكز الأساسي للتعامل الرسمي مع الكورد، تضمنت هذه الدراسة، اثنتي عشرة نقطة مفصلية يتوجب تطبيقها حتى يتم التخلص من الوجود الكوردي في سوريا، وهي: تجهيل الكورد، إغلاق ومنع فرص العمل أمامهم لتهجيرهم، تصحيح سجلات النفوس وشطب ثنائي الجنسية من سجلات السوريين، خلق حالة العداء بين الكورد والعرب، ضرب الكورد بعضهم ببعض، توطين العناصر العربية في المنطقة الكوردية على طول الحدود التركية، السحب والتجريد من الجنسية والهوية السورية…
  وقد اعتمدت هذه الدراسة، من السلطة السورية آنذاك، وبدأ العمل في تطبيق بنودها، وكانت بداية هذا العمل، إصدار المرسوم التشريعي رقم / 93 / تاريخ 23 / 8 / 1963 والقاضي بإجراء إحصاء استثنائي في محافظة الجزيرة ( الحسكة )، الذي تم في 5 / 10 / 1962 وجرد بموجبه عشرات الآلاف من الأسر الكوردية من جنسيتهم السورية، على الرغم من الوثائق والمستندات، التي تثبت مواطنيتهم..
  وتتابعت هذه السياسات والإجراءات بعد استلام حزب البعث للسلطة، فتكرست المعاناة الكوردية وتتالت المشاريع الشوفينية والقرارات الإلغائية للوجود القومي الكوردي في سوريا، ومنها: تثبيت نتائج الإحصاء الاستثنائي وتكريس معاناة ضحاياه، توطين واستقدام العرب من محافظة الرقة وحلب بحجة غمر أراضيهم وإعطائهم أخصب الأراضي الزراعية في الشريط الحدودي مع تركيا بعد بناء قرى نموذجية لهم، وهو ما سمي بـ ( الحزام العربي )، الذي بدأ العمل به عام 1967 وتوقف عام 1977 إضافة إلى سياسة التعريب للمناطق الكوردية، حيث تم العمل على تغيير أسماء المعالم والقرى والبلدات الكوردية، ومنع تسمية المواليد الجدد بأسماء كوردية…
  وهكذا، أدى التعامل الرسمي الأمني والعنصري العنيف، مع الوجود الكوردي في سوريا، إلى تدمير وزعزعة الاستقرار في البلاد، وتهديد وحدته الداخلية، دون الأخذ بعين الاعتبار، علاقات الجوار والتعايش والوطن المشترك..
 ومن المؤسف حقاً، أن الرؤية الرسمية العنصرية المذكورة، استطاعت أن تؤثر في مواقف الكثير من القوى الوطنية والديمقراطية في البلاد، التي لا تزال تعاني حتى الآن، الكثير من التردد في خطابها وطرحها السياسي وشكل تعاملها مع القضية الكوردية، كقضية شعب له الحق في تشكيل جغرافيته وتحديد إطاره الإنساني الخاص به، والتي لم تعد المرحلة الراهنة بتجلياتها المختلفة، تسمح بالتعتيم عليها أو تجاهلها.
  ومع بداية الثورة السورية في الخامس عشر من آذار 2011 الساعية إلى الحرية والديمقراطية والكرامة…، التي افتقدها الشعب السوري لفترات طويلة من الزمن، بسبب تسلط النظام الشمولي الاستبدادي، انخرط فيها الكورد مع باقي أبناء سوريا، لبناء سوريا ديمقراطية، تعددية…، يتمتع فيها جميع مكوناتها بحقوقهم وحرياتهم الأساسية، أفراداً ومجموعات بشرية، ومن ضمنها أبناء شعبنا الكوردي، ورغم مرور هذه الفترة الزمنية الطويلة عليها، واستمرار النظام في قمع الشعب السوري ومحاولة منعه من تحقيق أهدافه، باستخدام جميع أنواع الأسلحة وصنوفها، بما فيها الفتاكة والمحرمة دولياً، وفشل المجتمع الدولي من القيام بمهامه وفي وقف مجازر القتل والتعذيب والتهجير والتشريد والتدمير…، وأيضاً رغم المخاطر والتحديات، التي تواجه سوريا، وطناً وشعباً، فإن المعارضة السورية، على اختلاف أطيافها وفصائلها وقواها السياسية…، لا تزال تتخذ مواقف غير واضحة من القضية الكوردية، كقضية قومية لمجموعة بشرية متمايزة، من حيث اللغة والعرق…، وتسكن بقعة جغرافية محددة، تشكل أرض الكورد تاريخياً، ألحقت بسوريا الحديثة التشكل، بموجب معاهدات واتفاقات دولية.
  وهي إحدى مفارقات المعارضة السورية، فالشعب السوري لم يهدف من ثورته المباركة، استبدال الاستبداد باستبداد آخر، بل أراد تغيير عقلية الهيمنة والانغلاق والإقصاء وإلغاء الآخر المختلف، قومياً ودينياً ومذهبياَ وطائفياً…، بعقلية منفتحة مبنية على مبادئ الديمقراطية والاحترام المتبادل والعيش المشترك ونشر الوعي الحقوقي والقانوني وتعزيز احترام حقوق الإنسان، والعمل على وضعها أساساً في الدساتير والتشريعات، لكفالة مبادئ المساواة والمواطنة العادلة ولضمان حقوق المكونات المختلفة واحترام خصوصياتهم…
  ونعتقد أنه، ليس أمام هذه المعارضة، التي رفعت شعار الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان…، في مواجهة الاستبداد، سوى الاعتراف بصراحة ووضوح، بحق الشعب الكردي في سوريا، في تقرير مصيره، كحق قانوني وسياسي يقره منظومة حقوق الإنسان، وإن العمل على خلاف ذلك، سوف لن تزيد القضية الكوردية، إلا صعوبة وتعقيداً.
  وللتدليل أكثر على هذه العقلية المنغلقة، وعلى مواقف المعارضة السورية، غير الواضحة من قضية الشعب الكوردي في سوريا، ووجوده وحقوقه القومية، نبرز هنا، مضمون الوثيقة التي وقعت بين المجلس الوطني الكوردي والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، في أب 2013 والتي بموجبها انضم المجلس الوطني الكوردي إلى الائتلاف الوطني السوري.
  أن هذه الوثيقة ورغم أهميتها وتقدمها وتطورها عن كل الصيغ والاتفاقات السابقة، المتعلقة بالمسألة الكوردية في سوريا، إلا أنها لم تتناول صراحة القضية الكوردية في سوريا، كقضية شعب، يقيم على أرضه التاريخية، ولم تتناول أيضاً بوضوح الحقوق القومية، المترتبة على ذلك، وكذلك كيفية حل هذه القضية القومية وكيفية ممارسة هذه الحقوق، وإنما اكتفت وكعادة كل الاتفاقات السياسية التي كانت تعقد بين الطرفين في السابق، بعبارات عامة وفضفاضة وقابلة لأكثر من تأويل وتفسير، لنفس الاعتبارات السياسية، التي كان يستند عليها أصحاب الفكر القومي العروبي، في المراحل السابقة، فقد أكدت الفقرة الأولى من الوثيقة على: ( التزامه – أي الائتلاف – بالاعتراف الدستوري بهوية الشعب الكردي القومية، … )، بدلاً من النص صراحة على التزام الائتلاف الوطني السوري بالاعتراف الدستوري بوجود الشعب الكوردي في سوريا، والإقرار بحقوقه القومية المشروعة، وفق القوانين والعهود والمواثيق الدولية…، كما أكدت الفقرة الثالثة على أن: ( أن سورية الجديدة دولة ديمقراطية…، واعتماد نظام اللامركزية الإدارية بما يعزز صلاحيات السلطات المحلية )، بدلاً من احترام إرادة الشعب الكوردي في سوريا، وحقه في تقرير مصيره، في اختيار الشكل الذي يرتئيه للتعايش مع بقية أبناء الشعب السوري.
  أن حل القضية الكوردية في سويا، تتطلب التخلي عن الفكر القومي العنصري العروبي، والاعتراف الواضح والصريح، بوجود قضية قومية كوردية في سوريا، والعمل على إيجاد حل ديمقراطي عادل لها، وإلغاء السياسات والمراسيم والإجراءات والقوانين…، الاستثنائية والعنصرية، المطبقة بحق أبناء الشعب الكوردي في سوريا، وإزالة آثارها وتداعياتها وتعويض المتضررين منها وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ذلك، والإقرار بوجود الشعب الكوردي في سوريا، كشعب يعيش على أرضه التاريخية، والإقرار بحقه في تقرير مصيره بنفسه، وفق المواثيق والقوانين والعهود الدولية، وتثبيت ذلك في القوانين ودستور الدولة، ونرى أن الفيدرالية، هي الصيغة الأنسب لحل القضية الكوردية، ضمن الظروف الراهنة التي تمر بها سوريا.
·       المحامي مصطفى أوسو، عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…