سورية: «داعش» هو النتيجة والنظام مصدر الإرهاب

عبدالباسط سيدا

  
هناك نبرة تبرّم وشكوى في أوساط
شعبنا في الداخل الوطني والمهجر من صعوبة الأوضاع، وجسامة العذابات والتضحيات
وانسداد الآفاق، وحتى التفكير في مشروعية الثورة أصلاً، وذلك مقارنة بحجم الدمار
الذي حصل ويحصل والعدد المخيف للشهداء والمفقودين والمغيّبين والمعتقلين والجرحى،
هذا ناهيك عن ملايين النازحين واللاجئين. 
هذه النبرة انعكاس
لحالة إنسانية يمكن فهمها وتسويغها ضمن المعطيات والمآلات التي نتعامل معها في
يومنا الراهن. ولكن حينما يتجاوز المرء جانب المشاعر والعواطف التي لا بد من أن
تُحترم، ويحكّم عقله في معاينة ما كان وما هو قائم، يدرك أن الأسباب التي أوصلتنا
إلى ما نحن فيه ما زالت فاعلة، وأن الأهداف التي كانت من أجلها الثورة ما زالت
مطلوبة 
ومشروعة، وأن كل ما حصل ويحصل
إنما هو بفعل سعي النظام الى ترويع الناس، ودفعهم نحو حافة اليأس للتسليم مجدداً
بواقع أنهكهم على مدى عقود، ويُفرض بالقوة راهناً عبر التهديد بعفاريت الإرهاب
المستورد من مختلف المذاهب والأصقاع. 
فالنظام هدّد حتى
قبل انطلاقة الثورة بأن سورية ليست تونس أو مصر، أو حتى ليبيا. وبيّن بوضوح أنه
مستعد لتدمير البلد مقابل أن يستمر بشار الأسد ومجموعته في التحكّم به. وقد نفذ
تهديداته منذ الأيام الأولى للثورة، حينما بدأ بقتل المتظاهرين واعتقالهم وتصفيتهم
في المعتقلات أيام الثورة السلمية المطالبة فقط بالإصلاحات في إطار النظام القائم. 
ولعل من المناسب أن
نشير إلى ما ذكره لنا أحد المسؤولين العرب في لقاء من لقاءاتنا مع اللجنة الوزارية
المكلفة بالملف السوري. فبعد أن استمع الرجل الى وجهة نظرنا، قال لنا: ما أفهمه من
كلامكم هو أنكم تطالبون بأن يتنحى هذا النظام بعد أربعين عاماً من الحكم. هل هذا
ما تقصدونه؟ وكان جوابنا هو الموافقة على ما ذهب إليه فهمه. فما كان من محدثنا إلا
أن أردف بعصبية قائلاً: من المستحيل أن يفعل ذلك. ولم يكن المسؤول العربي المعني
هنا ينطق عن الهوى، فهو على دراية بالشأن السوري، وله اطلاع واسع على طبيعة
العلاقة التي تربط بين نظام بشار الأسد وحليفه الإيراني، ولديه معلومات حول
استعداد الطرفين للإقدام على أي شيء من أجل الإبقاء على النظام. 
وهذا ما حدث
بالفعل. فبعد ارتفاع وتيرة الانشقاقات، بخاصة في 2012، والتي بلغت ذروتها بانشقاق
رئيس الوزراء نفسه، واتساع رقعة الاحتجاجات لتشمل معظم الأماكن، بدا واضحاً للجميع
أن النظام يعاني من وضعية صعبة للغاية، وأن مسألة سقوطه لم تعد من الأمور
المستبعدة، بل أصحبت مسألة وقت. 
ولكن يبدو أن الإرادات
الدولية لم تكن قد توافقت بعد على ذلك. فكانت التصريحات المدروسة بعناية من جانب
المسؤولين الغربيين، وكان الإصرار الروسي، والصمت في مجلس الأمن، لمنع اتخاذ أي
قرار دولي يدين النظام، ويطالب بإجراءات جدية لردعه. ولم تتمكّن مجموعة أصدقاء
الشعب السوري، على رغم كبر حجمها، من فعل أي شيء سوى تنظيم اجتماعات كرنفالية،
ربما حققت لأصحابها شيئاً من راحة الضمير على الأقل إعلامياً. 
ومن الجهة الأخرى،
ظلّ التغاضي من الجميع إزاء تفاقم وحشية النظام، وإقدامه على استخدام الصواريخ
الباليستية، والطيران، وبراميل البارود، وكل أنواع الأسلحة الثقيلة التقليدية وغير
التقليدية، بما في ذلك الكيماوي، في قتل السوريين، وتدمير مدنهم وبلداتهم. 
والأمر اللافت الذي
أدى دور الإشارة الخضراء المطمئنة للنظام تجسّد في تلك التصريحات المستمرة
للمسؤولين الأميركيين، ومفادها أنه لن يكون هناك عمل عسكري ضد النظام، إلا إذا
أقدم على استخدام الأسلحة الكيماوية. هذا في حين أعلن الجميع لاحقاً أن النظام كان
قد استخدم الكيماوي لمرات عدة. وفي ما بعد جاءت الضربة الكيماوية الكبرى، ومع ذلك
استمر العالم في سلبيته، وتجاهله، وباتت الأجواء مهيأة لتنامي التطرف وحصيلته الإرهاب،
وبالتناغم والتنسيق مع جهود النظام، بل بالتفاهم مع هذا الأخير. 
وأذكر بهذه
المناسبة أن مسؤولاً روسياً قال لنا في لقاء من لقاءاتنا مع الجانب الروسي: كنتم
تعلنون أن النظام لن يستمر أكثر من أشهر وها هو مستمر، ولم يسقط. وكان جوابنا له:
كان سيسقط لولا دعمكم ودعم حليفه الإيراني، وأنتم تعرفون ذلك تماماً. فالتزم
الصمت. 
وبدا واضحاً أن
هناك توافقاً غير معلن بين القوى الدولية المؤثرة حول الإبقاء على الأزمة السورية
مفتوحة. ومن هنا جاء مؤتمر «جنيف 2» الكرنفالي الذي كان الجميع عارفاً بعدم جديته
وجدواه، ولكنه مثّل مناسبة لتبرئة الذات، وتحميل السوريين أنفسهم مسؤولية عدم
التوصل إلى حل. 
والآن، وفي ظل ما
نسمعه من تسريبات، وما نلاحظه من ممارسات وتلميحات وإشارات تتناول امكانية حدوث
صيغة مطلوبة من التفاهم الإقليمي، أساسه الاعتدال، فهذا يبدو تبشيراً بامكانية
التعويل على النيات الطيبة للنظام، وسعياً لترسيخ انطباع زائف فحواه أن الإرهاب،
الداعشي بصورة أساسية، بات الخطر الأكبر الذي يهدد الجميع، الأمر الذي يستوجب
تركيز كل الجهود لمواجهته، وهذا مؤداه الإبقاء على بشار الأسد ومجموعته، مقابل بعض
الإصلاحات غير الأساسية التي قد تجذب بعض المعارضين الموضوعانيين الذين يعلنون
قلقهم على البلد وأهله. 
فكأن السوريين
الذين كانت الثورة بهم ومن أجلهم، هم الذين دمّروا بلدهم، وقتلوا شعبهم، وليس
النظام الذي هدّد، حتى قبل انطلاقة الثورة، بالتدمير الشمولي، وذلك عبر رسائل
حمّلها الى قسم من هؤلاء المعارضين أنفسهم. 
الإرهاب الداعشي
مرفوض ومنبوذ ومدان من سائر السوريين، وليس له مستقبل في سورية. لكن العلاقـة بينه
وبـين إرهاب النـظام عـلاقة عضـويـة تضايفية، ولا يمكن أن تعالج الوضعية عبر
الإبقاء على أحد الإرهابيــن، إذا كنـــا مستعديـن لتـرسيخ اسس الاعتدال في المنطقة.
فالإرهاب مرفوض بكل أشكاله وفي كل مواقعه، سواء أكان في السلطة أم خارجها. 
الأمر واضح وضوح
الشمس: بقاء بشار الأسد معناه استمرار القتل والخراب والدمار في سورية. وما ينبغي
أن يعرفه الصديق والبعيد أن السوريين لن يقبلوا بعد كل ما حصل بالأسد، حتى لو
أجمعت القوى الكونية كلها على بقائه. 
* كاتب وسياسي سوري 
جريدة الحياة 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…