عدنان بدرالدين
الأيام الأربعة من إجتماعات دهوك بين أحزاب المجلس الوطني الكردي وأحزاب الإدارة الذاتية الديمقراطية و رغم كل الضغوط الممارسة من جانب رئاسة إقليم كردستان والأمريكان أثبتت أن تجاوز المجلسين لنقاط الخلاف القائمة بينهما هو أمر غير ممكن، أقله في ظل الظروف الراهنة. فالمجلس الوطني الكردي ينادي بإقامة مرجعية سياسية كردية موحدة مناصفة بين الطرفين، وبإعادة النظر في الإدارة الذاتية القائمة بما يكفل تحويلها إلى إدارة كردية الطابع يقول إنها في شكلها الحالي تفتقده، وأخيرا وليس آخرا بإقامة قوة عسكرية كردية موحدة تكون تحت إمرة المرجعية السياسية المنشودة بإعتبار أنها بشكلها الحالي، ممثلة بقوات حماية الشعب، هي مجرد ميلشيا عسكرية تتبع مباشرة حزب الإتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.
بيد أنه يجب التأكيد على أن هذه الآراء، وبهذا الوضوح الذي أوردناه أعلاه، تخص التيار المرتبط بالحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه السيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق داخل المجلس الوطني ولاتنسحب على بعض أطراف المجلس المقربة من الإتحاد الوطني الكردستاني، أو تلك التي تدعي “الوسطية” والتي تتخذ فعليا مواقف أقرب إلى مواقف الإدارة الذاتية رغم عضويتها في المجلس الوطني الكردي.
من جانبها، تقول أحزاب الإدارة الذاتية أنها مستعدة لمناقشة فكرة إنشاء المرجعية السياسية بشرط أن تحتفط فيها بأغلبية المقاعد، لكنها ترفض بشكل قاطع مناقشة الإدارة الذاتية القائمة، أو فكرة إنشاء قوة عسكرية جديدة. فالإدارة الذاتية الحالية بنظرها أصبحت “ملكا وإنجازا للشعب” غير قابل للمناقشة، كما أنها تؤكد على أن قوات الحماية الشعبية هي قوة وطنية كردية عامة لاتخص حزبا أو طرفا سياسيا بعينه، وأن كل مايجب عمله هو إنضمام أحزاب المجلس إلى الإدارة، ورفد قوات حماية الشعب بالمقاتلين والأسلحة التي تمكنهم من مواجهة إرهاب داعش، خاصة وأنها أثببت خلال مواجهاتها مع قوى التطرف والإرهاب خلال السنتين المنصرمتين، وخصوصا في كوباني، كفاءة وبسالة نادرتين.
من الواضح أن أحزاب الإدارة الذاتية التي تتحكم بالسلطة الإدارية والعسكرية شبه الكاملة على سائر مناطق كردستان الغربية لاتجد أي سبب منطقي يدفعها لتقديم تنازلات، من أي نوع كان، إلى المجلس الوطني الكردي الذي هو تحالف هش لأحزاب وحركات سياسية تقليدية غير فعالة ومتناحرة فيما بينها، فجل ما قد تسمح به هو مشاركة شكلية لهذه الأحزاب في منظومة الإدارة القائمة التي يديرها فعليا أنصار عبدالله أوجلان وذلك من أجل كسر حاجز العزلة الخانقة التي يعيشون فيها، وإكتساب شكل من أشكال الشرعية الجماهيرية والإقليمية والدولية التي لايملكونها الآن.
مشروعان سياسيان متناقضان
تعثر إجتماعات هولير تعكس الهوة العميقة التي تفصل بين مشروعين سياسيين كرديين متناقضين ليس فقط فيما يخص كردستان سورية، وإنما في عموم كردستان، متمثلين في كل من النهج الذي يمثله السيد مسعود بارزاني، وذلك الذي يعبر عنه ويرمز إليه السيد عبدالله أوجلان وحقيقة أنهما يختلفان فيما بينهما بشأن طيف واسع من القضايا الجوهرية التي تمس طبيعة النضال الكردي ووسائله المتبعة وأهدافه المرحلية والإستراتيجية وتحالفاته الوطنية والإقليمية والدولية وموقعه في التحولات العاصفة التي تجتازها منطقة الشرق الأوسط.
مشروع السيد مسعود بارزاني الذي يمكن إعتبار تجربة كردستان العراق، بشكل من الأشكال، تجليه السياسي الأبرز يقوم على أساس فكرة التحرر القومي الكردي على قاعدة حق الشعب الكردي في كافة أجزاء الوطن الكردي في تقرير مصيره بنفسه، بما في ذلك بناء دولته الوطنية القومية المستقلة على تراب وطنه، وعلى فكرة التعددية السياسية والإقتصادية القائمة على المنافسة بين قوى وأطراف ومشاريع سياسية ومجتمعية متباينة عبر الاحتكام إلى الإرادة الشعبية المعبرة عن ذاتها في انتخابات حرة ونزيهة وتحت إشراف دولي، والانحياز إلى معسكر الشعوب في نضالها ضد الأنظمة المستبدة ومن أجل الديمقراطية والسلام. وما يميز هذا النهج هو انفتاحه على الآخر المختلف، وإبدائه قدرا كبيرا من الواقعية السياسية والمرونة في التعامل مع الظروف والمستجدات السياسية الإقليمية والدولية دون التفريط بحقوق الشعب الكردي الأساسية، علاوة على أنه نجح إلى حد كبير في ترجمة مشروعه السياسي على أرض الواقع متمثلا بإقليم كردستان الذي يمكن إعتباره، رغم كل مايمكن أن يقال عنه من نواقص ومثالب، أكبر إنجاز للشعب الكردي طوال تاريخه على الإطلاق بات يحظى بإعتراف العشرات من دول العالم بما في ذلك دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإنكلترة وفرنسا وكوريا الجنوبية وغيرها الكثير من الدول الأوربية والعربية. و” البارزانية السياسية”، إذا صحت التسمية، لاتخفي انحيازها إلى المحور الأمريكي الغربي في المنطقة والذي يضم في صفوفه كل من تركيا ودول الخليج ومصر والأردن.
أما مشروع السيد عبدالله أوجلان فيرتكز على فكرة خضوع الشعب للحزب الطليعي المنبثق عن فكر الزعيم القائد، وعلى نبذ الفكر القومي بمعنى حق تقرير المصير والدولة القومية، و عدم القبول بمبدأ التشاركية في صناعة القرار السياسي إلا في إطار التبعية ل “الحقيقة المطلقة” التي يعتقد بتفرده في إمتلاكها، ورغم التباين الكبير في الخطاب الأوجلاني وعدم وضوحه فإنه يمتاز بإحتوائه على جرعة عالية من أفكار “معاداة الإمبريالية”، و”مناهضة الاحتكارات الدولية”، أي أنه يتميز ب”طابع يساري” لاتخطئه العين . وكل المشروع الأوجلاني قام منذ البداية ولايزال على إقامة “التحالفات التكتيكية” مع أنظمة كل من سورية وإيران والعراق، كما أن مايسمى ب “عملية المصالحة” التي بدأها الحزب مع الحكومة التركية عبر قائدة السجين تأتي في إطار ذات التحالفات المشار إليها. ثمرة المشروع الأوجلاني الفعلية هي الإدارة الذاتية الديمقراطية بنظام كانتوناتها المثير للجدل في كردستان الغربية التي يفضل أخوتنا الأوجلانيين نعتها ب “روجآفا”، وهي تجربة لم تستطع إنتزاع إعتراف أية جهة إقليمية أو دولية بها حتى الآن، كما أنها أخفقت في بناء منظومة سياسية قائمة على فكرة المؤسساتية، إذ أن الإدارة الديمقراطية ذاتها غير منتخبة، والتأييد الشعبي لها كرديا محدود ويقتصر على مؤيدي الحركة الأوجلانية وبعض الأحزاب الصغيرة، علاوة على فشلها الواضح في تأمين حماية مناطق الإدارة، إذ أن كانتون كوباني أصبح فعليا محتلا من قبل داعش. وجدير ذكره أن ممارسات أصحاب هذا المشروع على الأرض تكشف عن حقيقة أنهم ينتظمون فعليا في صف المحور الإيراني- السوري بإمتداداته الإقليمية والدولية رغم أنهم ينكرون ذلك.
التغيير يبدأ من الداخل
بناءا على ما سبق سيتوجب على المجلس الوطني الكردي الإختيار بين أحد أمرين: إما القبول بالأمر الواقع والإنضمام إلى الإدارة الذاتية الديمقراطية القائمة، والقبول بدور التابع، أي ذات الدور الذي تلعبه أحزاب ماتسمى بالجبهة الوطنية التقدمية في سورية تحت جناح “الحزب القائد”، أو رفض ذلك والبدء بالنزول إلى ميدان العمل الفعلي ليلعب دور المعارضة الحقيقية لسلطة الأمر الواقع الأوجلانية. من الجائز طبعا أن يتم التوصل نظريا إلى إتفاق، من نوع ما، يحفظ ماء وجه الأحزاب الكلاسيكية الكردية المنتظمة في إطار المجلس الكردي العتيد، وأن تشكل لجان للمتابعة والتنفيذ، ولكن ذلك لن تكون له أية نتائج فعلية على الأرض، أي أن مصيره سيكون نفس مصير إتفاقيتي هولير اللتين أصبحتا في عداد المتوفين الذين لاتجوز عليهم غير الرحمة.
لقد قلنا سابقا، ونعيد هنا مرة أخرى، إن أي تغيير حقيقي ينهي احتكار سلطة الأمر الواقع للحياة السياسية في كردستان الغربية يجب أن يبدأ من الداخل، وهذا يتطلب جملة من المهام التي يتوجب على أحزاب المجلس الوطني الكردي وداعميه في إقليم كردستان العراق، إن هم أرادوا فعلا أن تكون لهم كلمة مسموعة في شؤون كردستان سورية، القيام بها من أهمها:
– العودة الفورية لقيادات الأحزاب الكردية من إقليم كردستان وتركيا إلى كردستان الغربية والمباشرة في تنظيم وقيادة الجماهير والعمل الميداني من أجل إقامة حركة معارضة قوية وفعالة لسلطة الأمر الواقع.
– إتخاذ قرار فوري بإنشاء قوة عسكرية تكون نواتها “بيشمركة روجافا” المدربة في إقليم كردستان، وإقامة مؤسسات أمنية موازية لسلطة الأمر الواقع من أجل حماية أمن أراضي كردستان الغربية ومواطنيها من الأخطار الداخلية والخارجية تكون رديفا لعمل المؤسسات القائمة ومتمما لها مع إحتفاظها في الوقت ذاته بحق الدفاع المشروع عن النفس في وجه إية أخطار داخلية وخارجية.
– القيام بحملة دبلوماسية نشطة لوضع الأطراف الدولية والإقليمية ذات الصلة في صورة الأوضاع الحقيقية في كردستان الغربية والعمل من أجل تأمين الدعم المالي والعسكري من أجل تحرير كوباني من إحتلال داعش وتحصين الوضع الأمني للمناطق الكردية في وجه الأخطار الهائلة التي تحدق بها.
– تحويل المجلس الوطني الكردي من كونه تحالفا هشا لأحزاب كلاسيكية غير فعالة ومتناحرة إلى حركة أو جبهة كردية عامة مركزية مناهضة للاستبداد والإرهاب تسهم فيه الأحزاب بنسبة معينة مع مشاركة واسعة ونشطة من فئات المجتمع الكردي الفعالة لكن المهمشة مثل الشباب والمثقفين والنساء…حركة أو جبهة تناضل من أجل الظفر بحقوق الشعب الكردي كاملة في إطار سورية ديمقراطية مركزية، وهذا لن يتأتى دون إسقاط نظام الأسد الاستبدادي، ودون تنظيف البلاد من المنظمات الإرهابية مثل داعش وإخواتها.
هذه طبعا بعضا من المهام العاجلة التي يجب أن تتخذ على وجه السرعة من أجل إنقاذ كردستان الغربية من الكارثة المحدقة بها، ومن أجل أن لاتتكرر مأساة كوباني التي تدمي القلوب في عفرين أو الجزيرة.
كل التقدير لتضحيات وبطولات قوات حماية الشعب التي تسطر أروع ملاحم المقاومة دفاعا عن الأرض والعرض، ولكن ذلك مع الأسف غير كاف لحماية شعبنا ووطننا الذي يحتاج إلى بطولات وتضحيات كل أبناءه وليس قسما منه فقط.