جان كورد
الأحلام ربما تكون خيالية ولا تنطبق على الواقع أبداً، كأن يحلم أحد المسنين العاطلين عن العمل بامتلاك طائرةٍ خاصة وخدمٍ وبنكٍ مالي وزوجة وفية، فائقة الجمال، تقل عنه أربعين عاماً… أما ما تكافح من أجله الشعوب من حرية واستقلال فإنها ليست أحلاماً وإنما أهدافٌ قومية عادلة يمكن تحقيقها بتوافر ظروفٍ دولية ملائمة ومساعدة، فالهنود أصروا على الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية المستعمرة فحققوا استقلالهم بثورة سلمية شاركت فيها مختلف مكونات الهند تحت قيادة زعيمهم المسالم المتواضع غاندي، والعرب أصروا على الاستقلال عن الدولة العثمانية فحققوا ما طلبوه بمساعدة حلفائهم البريطانيين، وحكماء اليهود وضعوا لأنفسهم هدفين: إحياء اللغة العبرية شبه الميتة وإيجاد الدولة الإسرائيلية فحققوها فعلياً، ومنذ عام 1948 توجد إسرائيل وأصبحت قوة كبيرة في وسطٍ عربي يحيط بها من الشمال والشرق والجنوب، وصمدت في وجه العرب في عدة حروبٍ شاركت فيها أكثر من دولة واحدة، لغتها الرسمية هي العبرية.
مع الأسف فإن العديد من السياسيين، ومنهم سياسيون كورد مشاهير أيضاً، يخلطون بين “الحلم” و”الهدف القومي”، ولذا لابد من العودة إلى هذا الموضوع بين الحين والحين للتوضيح والشرح.
لا يمر يوم على الصحافة العالمية، إلا ونقرأ أو نسمع ونرى سياسياً أو إعلامياً بارزاً في العالم الحر الديموقراطي يطالب بأن يتم الاعتراف للكرد بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة على أرض وطنهم كوردستان، ومنهم من يقول بصوتٍ عالٍ: اليوم وليس غداً… ولكلٍ منهم الأسباب الكافية للإعلان عن استقلال الكورد، فالقضية الكوردية لم تعد قضية تمرّد عشائري أو محلي محدود النطاق على دولة قوية، كما كان وضع الكورد في النصف الأوّل من القرن العشرين في مواجهة حكومة عراقية تفوقهم عدةً وسلاحاً، بل تطوّرت القضية الكوردية، واتسع نطاق تأثيراتها فيما حول الكورد من بلدانٍ وشعوب، وتحوّلت إلى قضيةٍ تشغل المجتمع الدولي، بحيث لم يعد لأحد إخفاء الرمح في الكيس كما يقول المثل الكوردي (Rum di çiwalî de naye veşartin)، إلا أن غالبية السياسيين الكورد يحاولون التهرّب من الإجابة الصحيحة بأساليب غير مقنعة مع الأسف فيما إذا سئلوا عما إذا كانوا يعملون من أجل “حرية الكورد واستقلال كوردستان”.
لقد تشكّل معظم بلدان المشرق العربي بمساعدة أو تأثير من الدول الغربية، كما أن إسرائيل “اليهودية” ولبنان “المسيحية” قد نالتا حق الوجود بدعم أمريكي وأوربي، في حين تم إهمال حق الكورد الذين تم تقسيمهم وتجزئة وطنهم كوردستان بموجب اتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية لعام 1916، التي يلعنها مثقفو العرب ليل نهار، إلا إذا تعلّق الأمر بالكورد، فإن غالبيتهم ترفض “تغيير الحدود القائمة” بذريعة أنهم لن يساعدوا في “تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ” ويعنون به “الوطن العربي” الذي لم يجدوا له عبر التاريخ اسماً موحداً، في حين أنهم بذلك مع “تقسيم الوطن الكوردي: كوردستان” وكأن قدر الكورد هو العيش مجزئين وخاضعين لغيرهم من الشعوب.
يتذرّع بعض الإسلاميين بأن “دولة الإسلام” لا تفرّق بين الشعوب والمواطنين، وهذا ما لم يشعر به الكورد في ظل أي دولةٍ كانت في المنطقة، سواءً أكانت سنية أو شيعية أو علوية أو علمانية ملحدة لا تؤمن بالدين ولا تعمل وفق أي شريعة، وها هما دولتان تزعمان أنهما إسلاميتان: تركيا السنية وإيران الشيعية، وفي كلا الدولتين يتم حرمان الكورد من حق التعلّم بلغتهم الأم، ويزج بهم في السجون إذا ما طالبوا بحقهم في توحيد أجزاء وطنهم، ويشهد العالم كله كم مارس الفرس سياسة الإعدام والاغتيالات والتعذيب حتى الموت بحق المناضلين الكورد الذين لم يطالبوا سوى ب”الحكم الذاتي”، وكم عذّب الكماليون الطورانيون الكورد حتى الموت، وها هي الدولة العلوية السورية التي طبّقت مثل حكومة البعث البائد في العراق شتى أساليب القمع والإرهاب والاقصاء ضد الطموح القومي الكوردي في أبسط صوره وأشكاله. والدولة الإسلامية الموعودة من قبل أحزاب الإسلام السياسي ستكون لغتها الرسمية هي العربية، ولن تسمح للكورد بأن تكون لهم دولة خاصة بهم، بل ستكون نسخةً سيئة – في أحسن الأحوال – عن الدولة الأموية التي فرضت السيادة العربية واللغة العربية على كل الأقوام والشعوب التي دخلت الإسلام كرهاً أو طوعاً. بل وضعت شرطاً أساسياً للخلافة وهو أن يكون الخليفة عربياً ومنهم من أضاف: عربياً قرشياً، ومنهم من لم يكتفِ بهذا بل قال: أن يكون عربياً قرشياً هاشمياً، حتى أضطر كثيرون من شيوخ المسلمين في شتى أنحاء العالم الإسلامي إلى ربط جذور أشجارهم العائلية بآل البيت الشريف، ليتسنى لأولادهم وأحفادهم الصعود على سلّم المناصب الإدارية والحكومية دون عقبات، ولذا نجد في العالم الإسلامي حتى اليوم طبقةً من “الأسياد!”، كما نجدها في كوردستان أيضاً، وفي شمال كوردستان (سيدا أو سيدا أوغلو).
وقد يسأل سائل: لماذا الإصرار على الدولة الكوردية؟ فالجواب بسيط لا حاجة لنا بسواه من الأجوبة:
منذ انهيار الدولة العثمانية في الربع الأوّل من القرن العشرين، تشكّلت للأتراك، الذين جاؤوا قبل قرونٍ إلى المنطقة من هضاب آسيا، دولة ذات حدود خاصة بها، في حين أن الكورد، الذين يعيشون في المنطقة منذ آلاف الأعوام، بل منذ أن حطت سفينة النبي نوح (عليه السلام) على جبل الجودي (Godî) في بلادهم كوردستان، لم يحصلوا على دولة، فظل الترك بمنجى عن الاضطهاد والتشريد والتقتيل والاستعباد منذ قيام دولتهم، في حين تعرّض الكورد الذين لا يقلون عن 20 مليون مواطن في ذات البلاد (التركية!!!) إلى سياسةٍ إرهابيةٍ متواصلة وقمعٍ واقصاءٍ وإذلالٍ لا مثيل له منذ ذلك الحين، فهل من العدالة الإسلامية أو الإنسانية أن يظل الكورد عبر التاريخ البشري كله مقموعين ومشردين وخاضعين لسواهم؟ أولم يقل الدين المشترك للعرب والترك والفرس والكورد ولسائر العالمين: إنما المؤمنون إخوة… فأي أخوّة هذه التي تدعوننا إليها؟
إن مآسي الكورد لن تنتهي حتى يكون لهم سور دولةٍ تحميهم من العدوان ومن استغلال الغير لهم وتنقذ بلادهم وثرواتهم البترولية والمائية من نهب الآخرين… فقط هكذا ستضمن السياسة القومية والدولية حق الكورد في الحرية والحياة، وما دون ذلك ليس إلا مساومات ومزايدات سياسية تجارية رخيصة انزلق إليها السياسيون الكورد لأسباب خاصةٍ بهم وبأحزابهم وليس عن إيمانٍ بأن حق أمتهم هو في المطالبة بما هو دون الاستقلال.
أقول هذا لأني على ثقةٍ تامة بأن أعداء الكورد وكوردستان متفقون على عدم السماح لأمتنا بأن تتمتّع بحريتها واستقلالها، وكل ما يثيرونه من مزاعم عن الأخوّة والحياة المشتركة ليس إلا لوضع العراقيل أمام تطوّر الكفاح القومي الكوردي صوب الحرية والاستقلال، وبدون تطوير هذا الكفاح في الاتجاه الصحيح سيتعرّض ما أنجزه الكورد حتى الآن إلى الغزو والتدمير، وما هجمات الإرهابيين على كوردستان إلا مقدمة لهجماتٍ أكبر وأوسع من قبل المحتلين الطامحين في الاستيلاء على كل شيء مما نملكه ومما نسعى لاستعادته.