ابراهيم محمود
يظهر أن مشاعر المرء أحياناً وهو يعيش فورتها، تحُول بينه ورؤية الطريق بشكل دقيق، وبالتالي فهي تمنعه من تقدير المسافة بدقة.
وثمة تفاوت في عملية التأثر بفورة المشاعر ” مشاعر التأثر ” هذه، مهما أوتي ثقافةً. وإذا كان من أحد معنياً بهذه الملاحظة قبل سواه، فهو أنا، نعم أنا، وأنا أستعيد سطوة مشاعري بالأمس، في متابعتي لانطلاقة البيشمركة، كغيري من الملايين الكرد، وكما كتبت في ذات الليلة أكثر من نص ” مقالان ونص أدبي “، ليس لأنني ندمت على كتابتي تلك، وسهري الليل بطوله حتى الصباح، وإنما لأنه كان علي أن أتأنى وأنتظر النهاية، ولهذا أعتذر عن هذه الفورة من المشاعر التي انجرفتُ في تيارها وهي في غير وقتها أكثر من المطلوب، والاعتذار متداخل مع عتاب يقرب من النقد المباشر لما جرى حتى الليل التالي، والبيشمركة لم تصل إلى نقطة البداية وليس النهاية في كوباني.
وأقول هنا، وأنا أكبّر في كل كردي هذا الشعور بالانتماء الكردستاني، ولكن المتوخى هو كيفية توجيه مسار هذا الشعور، فما كنت أعتقده أن قافلة البيشمركة ستصل، في الحد الأقصى في منتصف النهار التالي ” وقد استغرقت المسافة 24 ساعة “،سوى أن حساباتي كانت خاطئة، خاطئة إلى درجة أنني نازعت نفسي بنفسي، عما جرى ويجري، فكان المقال هذا، والذي أثبته هنا:
نعم، من حق الكردي أن يفرح بما هو منشود، ولكن المنشود يحفّز على الفرح لحظة تحقيقه، وما عاينته وتبين لي، هو أن الذي حددته، أن عملية استقبال القافلة الكردستانية لا تحول دون سرعتها المطلوبة، السرعة التي تمكنها من الوصول في أقصر وقت، إذ تجلت المفارقة الكبرى لي وأنا أتابع إعلامياً مدى الخلط الكبير بين الاحتفال بالكردية الظافرة ” المنتصرة ” قبل الدخول في المعرفة، والاحتفال بعد تحقيق النصر، والفارق كبير جداً.
ما أريد تأكيده هنا، وخلال هذه الأيام، وبقوة، أننا ككرد ” في المجمل ” ما زلنا نضفي على فورة العواطف قيمة استثنائية، عبر ما هو شعاراتي، إذ كان يمكن إعلام الناس ممن يأتون للاسقبال بفتح الطريق لأن ثمة لزوماً بالتحرك، وهو لزوم مضاعف إذا حسبنا عدة أيام في التأخير، ولو أن السبب خارجي، لكنه يؤخَذ في الحسبان جهة الطرف المنتظر في كوباني وهو مشدود الأعصاب، وأكثر من ذلك جهة العدو الداعشي وهو يكثف قواه، ويشدد قبضته على كوباني، ويرسل المزيد من تعزيزاته باتجاه كوباني، لتكون المعركة مفتوحة، مصيرية، كما لو أن الكرد معنيون وحدهم بإرهاب داعش ومحاربة إرهاب داعش، والعالم يتفرج.
تصوروا لو أن النهاية وخيمة ” لا قدَّر ” كيف يكون رد فعل هؤلاء الكرد ومستقبليهم بامتداد هذه المسافة الطويلة ، لا بل والذين كانوا يتابعونهم من ” الأمم ” الأخرى؟
نقطة أخرى تتمثل في أن حالات هذه كان يمكن تجسيدها في صمت بعيداً عن رفع الرايات واستعراض الشعارات، لأن المرئي يعرّف بالقوة المتحركة، ومن وراء القوة هذه، أم إننا مازلنا نعيش وحام التحزبية والشعاراتية حتى ونحن في معركة مصيرية غير مسبوقة ؟
أعتقد، أنني سمعت عبر وسائط إعلام كردية من يوجه نقداً كهذا ” عبر روداو بالذات “، بأن المفترض كان الاحتفال بهذه الروح الكردية المقاتلة وهي موحدة بعد العودة من كوباني أو تحقيق النصر وليس قبل ذلك، ولا بد أنهم كانوا يعيشون حرارة العاطفة والتوق إلى النصر” نصر المظلوم على الظالم “، سوى أن خطورة الوضع، وقد امتد الوقت، توتر الأعصاب، وتجعل الترقب مرهقاً للروح بالذات.
بالمناسبة، وبالتوازي، لفت نظري ما يخص أعضاء اللجنتين الحزبيتين من روجآفا، وقد أنهوا لقاءاتهم مع الجهات الحزبية هنا وهناك، كما لو أنهم حققوا نصراً مؤزراً، بينما دماء الضحايا الكرد تسيل، بينما الموت يتربص بعشرات الألوف من الكرد، وكأن الذي حققوه يكفي لأن يُمنحوا دكتوراه فخرية في نيل الكردايتي، ولا علاقة لهم بالتالي، بالجاري في كوباني والمنتظر في كوباني ؟ وهي حصيلة أخرى، ومخيّبة للآمال على صعيد معايشة الواقع، تتمثل في حزبنة التاريخ والجغرافيا: فالحزبيون هم أهل السياسة، وهم أهل الحل والعقد، وهم يحددون متى يمكن للكردي أن يضحك ومتى يبكي، ولا بد أن ملايين الكرد الذي هرعوا إلى استقبال البيشمركة” والصحيح ” أرادوا تأكيد حبهم لرجالات الكرد المقاتلين، وربما أنا من بينهم، في حسبان هؤلاء السادة المتحزبيين، هم رعايا في إثرهم ويهمهم فقط نيل رضاهم عنهم، حتى نثبت لمن حولنا من ذوي اللغات الأخرى: أن الرعوية ” الشعبوية ” لا تستثني أحداً في المنطقة.
ضمناً، ولتعزيز هذا المشهد المؤسف: البارحة مساء بتاريخ 28 تشرين الأول 2014، وفي قناة” أورينت ” الفضائية العربية، جرى حوار حول عملية إرسال مجموعة البيشمركة هذه، وموقع كوباني في الإعراب السياسي لسوريا وفي المنطقة وبالنسبة للكرد، والذي لفت النظر، هو أن مدير الحوار كان لا يكف عن السخرية بحركات الوجه وبالكلام من قافلة البيشمركة المحدودة العدد ومن كوباني، دون أن ينبهه أحد من محاوريه: طبعاً كان هناك محاور تركي! وكان بليغاً في التحدث بالعربية، إذ يتكلمها بطلاقة، ويراوغ في الكلام” حين يشير إلى إقليم الشمال، وليس إقليم كردستان، والنيل من pyd، وغيره، وهو يتجاهل سؤال مدير الحوار عن لقطة فيديوية تظهر عنصري داعش يقتربان من موقع عسكري تركي ويجري لقاء بين عساكر أتراك وهذين الداعشيين “، بينما المحاوران الآخران فهما كرديان ومعمّران نسبياً: عبدالغني يحيى، ومسلم الشيخ حسن، حيث كانت لغتهما ضعيفة، مهلهلة، وخاصة بالنسبة لمسلم، والأكثر من ذلك، أنهما لم ينبها مدير الحوار إلى أسلوبه في السخرية وكان لا بد من تقريعه جرّاء استخفافه بما هو كردي، ولم يوجها ملاحظة، أي ملاحظة إلى المحاور التركي في استهتاره بما هو كردي أيضاً، أو التعليق على المشهد الفيديوي الذي عرِض ومضى دون تعليق، ليؤكدا للملأ التلفزيوني العربي، أي مستوى يكون عليه ممثلو الكرد في الثقافة أو الثقافة الإعلامية .
أكرر اعتذاري عما جرى، وأشدد على عتابي الأكثر من عتاب لما حصل ويحصل، ولعله نقد، ولا بد أنه نقد من باب الحرص لا الشماتة، ومن اعتبرها ويعتبرها شماتة ويصر على ذلك، فهي أكثر من شماتة، إذ ليس من المعقول أن يستمر هؤلاء ” لاعبو السيرك ” من المتحزبيين ودعاتهم في أكروباتهم الفاشلة أرضياً، ويوحون إلى أنهم أكروباتيون بينما مصدر الضحك فهو بعدهم عن هذه ” المهنة ” وأي بُعد.