جمهوريات عربية لاديمقراطية وملَكيات وأميريات خلافها

 ابراهيم محمود
 

قبل سنوات ثلاث، وفي ندوة حول المدينة في
الإمارات العربية ” أبو ظبي نموذجاً ” أشرتُ في مشاركتي إلى أنه حتى
أواسط ثمانينيات القرن العشرين الآفل، كان هناك اعتقاد يسود جل الشارع العربي، وهو
أن الأنظمة الخليجية باعتبارها غير جمهورية، ستكون في حكم الزوال على النقيض من
الأنظمة العربية المعتبَرة جمهورية، التي ستكون الأقدر على البقاء.

 تلك كانت لعبة الأسماء والمسميات، ليظهر أن
الأنظمة العربية المعتبرة جمهورية: مصر، العراق، مصر، سوريا، تونس، الجزائر،
اليمن، ليبيا، هي أكثرها نخراً من الداخل، وبعداً عن صفة الديمقراطية بمعيارها
العربي المستحدث، أو بمفهوم : الجمهورية حينذاك .
بعيداً عن التشخيص والتوصيف من الخارج، ما
أسهل القول بأنه على مدى نصف قرن:خرجّت سجون هذه الأنظمة المذكورة مئات الألوف من
الموتى تحت التعذيب، أو أنصاف موتى، أو مشوهين، ومشلولين، أنها وتحت يافطة
الديمقراطية، وبقدر الرهان على الشعار، وبالمقابل: مقارعة الامبريالية والاستعمار
وأعوانه وأذنابه، كان على مئات الألوف من ” رعايا ” هذه الجمهوريات أن
يموتوا في صمت، وأن يلفهم النسيان قرابين الشعار المقدس: التحرر. 
 
لا بل يسهل القول أنه في أغلبية هذه الدول
اللادول، يكاد عدد الذين أزهَقت أرواحهم على مذبح الديمقراطية المصانة، والدفاع عن مكاسب
الشعب، والحيلولة دون تسرب مؤثرات سياسية من الخارج تنال من كرامة الشعب في أي
منها، وفي دولة واحدة، يفوق عدد الذين قضوا أيام الاحتلالات الأجنبية لها مجتمعة
” ما عدا الجزائر “، بلد المليون شهيد، دون نسيان أن الجزائر بلد
المليون شهيداً قد شهدت موت أكثر من مليون دون ألقاب، بصفتهم أعداء الثورة والشعب
والنظام الديمقراطي، ليخسر هؤلاء الضحايا ” إذا كانوا ضحايا ” كل قيمة
ممكنة في الدنيا والآخرة، وأن الرعب اللااستعماري ، إنما الوطني ، لما يزل يتهدد
الجزائر في الغالب. 
 
وذاكرة العراقي مثخنة بالجراح، ويا لها من
جراح، بحيث يغدو من المستحيل حصر ضحايا الأنظمة المتعاقبة في العراق الجمهوري
الصدامي خصوصاً في المليون الواحد، دون نسيان رعب مشاهد التعذيب وأساليب النيل من
المعارضين: أعداء الثورة: الكُرد خصوصاً . 
 
وهذا ينعطف على سوريا والمآسي التي شهدتها
البلاد على مدى أكثر من ستة عقود زمنية، إذ عرفت سوريا الجمهورية العربية من السجون
السرية والعلنية كجارتها في النمط الحزبي المسيطَر مع فارق الجرعة، أكثر مما عرفته
من المؤسسات المهتمة بأمور المجتمع المدني، أو على مستوى الجامعات وعلومها
الإنسانية . 
 
ولمصر” العروبة ” مصر جمال
عبدالناصر، سهمها الوافر والظافر في هذا السباق الطويل مع العنف وألوان الموت، رغم كل اللاحم المسرودة
عن منجزات الثورة العربية والاشتراكية الموعودة بعلامتها الناصرية، والضحايا دون
حساب .. 
 
هذا يشمل ليبيا، تونس، اليمن، كما ذكرنا،
ولكل دولة تعرَف بنظامها الجمهوري طرق مبتدعة في النيل من الخصوم، سوى أن المهم هو كيفية
تحويل الجمهورية إلى عراء مفتوح لحصد الضحايا وكل من يُشك في أمره . 
 
بالمقابل، بقيت أكثر الأنظمة إثارة شبهات
حولها ” في الخليج ” إلى جانب المغرب ، وتزكيتها لخوض حروب وارتكاب فظائع بعداً عن ذلك،
بالعكس، أثبتت الأيام أنها أصبحت ” قبلة ” نسبة كبيرة ممن كانوا
يعتبرونها رجعية، ورفضوا حتى مجرد التفكير فيها خارج هذا التقييم، وباسم غواية
الإيديولوجيا، وليجدوا أنفسهم بعد ذلك، كما لو أن الذين اتخذوا هذا الموقف القطعي
أناس آخرون، بقدر ما شهدنا مدى تنافسهم على كيل المديح والنفاق الذي لا يضيّع
تاريخاً . 
 
هذا يشمل حتى بلداً محتلاً: فلسطين، ومآسي
الشعب الفلسطيني، وما شهدته منظمة التحرير الفلسطينية من ويلات في هذا البلد العربي أو
ذاك، وعشرات الألوف من الضحايا، ربما بالمجان، أكثر من كل الذين حصدتهم آلة الحرب
الإسرائيلية أو العنف الاسرائيلية حتى اللحظة هذه ” أمعنوا النظر في ضحايا
أيلول الأسود في عمّان 1970 ! ” . 
 
لا بد أن للتاريخ السياسي وجهة نظر معينة
فيما جرى ويجري حتى الآن، وهو أن الأنظمة المعتبَرة ملكية وأميرية وحتى بالنسبة
لسلطنة عمَان، قد اعتمدت على أساليب سلطة لها قاعدة قبائلية موسعة تضمن المزيد من
الاستقرار، بحيث يسود نوع من العقد المجتمعي بين مكونات هذا البلد الخليجي أو ذاك،
وهذا يقرّب حتى المغرب منها أيضاً . 
 
يغدو النظام ذو الصبغة العائلية: الملكية
والأميرية والسلطانية أكثر احتكاماً إلى ماض طويل، أكثر حرصاً على توافر فضاء واسع يسمح
بالتنفس الديمقراطي المضمون، إن جاز التعبير، أكثر استشرافاً للآتي وللتحديات،
وأهلية للتوسع القاعدي دون فقدان السيطرة على ” دفة القيادة “، وهو ما
نتلمسه في بنية هذه البلدان مع تفاوت في العلاقة من جهة، ودون أن يعني ذلك انتفاء
التحديات والمخاطر، ولكنها تستبعد وقوع ما هو كارثي حال الأنظمة الجمهورية في ضوء
المعطيات السياسية والاجتماعية وإدارة أمور البلاد على الصعيد الاقتصادي والانفتاح
على العالم .
 

يبقى لبنان العربي اللاعربي أيضاً المحصور
بين أنظمة في المنطقة لا تريد له استتباب أمن، وهو بحجمه الصغير طبعاً . 

 
ودون دخول في التفاصيل في مقال لا يسع لها،
فإن هذه الجمهوريات في غالبيتها ترتبط بجهات طرَفية، وتثار حولها أسئلة كثيرة تتعلق
بالمكوّن الاثني الرئيس فيها بداية، أي ما يخص مفهوم العروبة ولمن تعود هذه الجهات
اثنياً بداية مرة أخرى، وأي عنّف استثمر ويستثمَر فيها ؟! 
 
ليت الأنظمة الجمهورية الطابع كانت كتلك التي
لما تزل محافظة على نوع من التوازن السياسي ممن سمّيناها، وحينها ما كان لدينا كل هذا
التنويع في العنف الدموي ومظاهر القتل المتعدد الأشكال والألوان ولا تعد حتى الآن
إلا بالمزيد من الويلات وإراقة الدماء وعدم الاستقرار، وطالما هناك بقية في حياة
كل جمهورية قائمة من الجمهوريات آنفة الذكر.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…