و كأن السوريين يبدؤون كل شئ من بداية الخلق، بدؤوا ثورةً لم يسبقهم الى مثلها أحد، ثم طوروا وسائل مقاومة لم يسبق لغيرهم أن كتب ابجديتها و ذلك رداً على وسائل ابادة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، فهكذا هو السوري في سعيه للتمسك بثقافة الحياة على أرضه و هكذا هو في الأمصار التي أُضطر للفرار اليها من الموت الذي يلاحقهُ، فهو يبرهن دائماً على أنهُ أقوى من البراميل المتفجرة و العقول المتخلفة التي تقف ورائها، و انهُ جدير بالحياة.
خلال السعي نحو تعزيز ثقافة الحياة، تأتي المدارس التي لم ينقطع عنها، و مدارس (جان) في تركيا هي واحدة من عشرات التجارب التي يخوضها السوريون في غير مكان للبرهان على هذه الثقافة المتجذرة، و الواقع أن جمعية (جان) السورية، و هي جمعية تعمل أساساً في المجال الإغاثي، و بسبب من تزايد أعداد اللاجئين السوريين في تركيا، هي التي قامت بالحصول على ترخيصٍ لافتتاح أربع مدارس تحمل اسمها في تركيا، اثنتان منهما في اسطنبول و الأُخريتان في مدينتي باطمان و نُصيبين التركيتين.
كان يمكن للعملية التعليمية في هذه المدارس أن تتم بسلاسة، و هي تسير تعليمياً على الأقل في حدها المعقول، لولا ما أُثير مؤخراً من لغط عن فسادٍ جرى في مدرسة (باطمان) و تعيينٍ لمعلمين لا يحملون أهلية التعليم و إقصاءٍ لآخرين مؤهلين، و كُل ذلك لأسبابٍ شخصية، و هكذا انقسمت المواقف بين طرفين و أخذت تتصاعد الاتهامات فخلقت قطيعة أخذت تنعكس وجوماً على الوجوه.
زُرنا مدرستي جان في كلٍ من نُصيبين و باطمان اللتين تم افتتاحهما منذُ ما يقارب الشهرين و يدرس فيهما مئات الطلاب، و تواصلنا مع الطرفين بمختلف الوسائل في محاولة للأمساك بخيوط الحقيقة.
آلية تعيين الجهازين الإداري و التدريسي:
قامت الجمعية في البداية بتشكيل لجنة لاستئجار أبنية لاتخاذها مدارس كما اعلنت عن طلب مدرسين و دعت أولياء الآمور الى تسجيل أسماء أبنائهم للدراسة، تم نشر الإعلان على صفحة الجمعية و مواقع النت و قامت اللجنة بالتواصل هاتفياً مع المعلمين الذي علمت بوجوهم و طلبت منهم التقدم بأوراقهم الثبوية و ذلك قبل مدة من تاريخ اجراء امتحان كتابي للراغبين في باطمان و في نصيبين جرى بالاضافة الى ذلك الصاق الإعلان على بعض الحيطان.
قامت لجنة مكونة من موجهين تربويين معروفين بالخبرة و القدم التربوي يقطنان في اسطنبول، و يتبعان الائتلاف الوطني السوري بوضع أسئلة الأمتحان الكتابي و ارسالها الى المدرستين، كانت الأسئلة الأربعون تتمحور حول فحص أهلية المتقدمين التعليمية خاصةً بسبب عدم توفر جميع الاختصاصات و بالتالي خاجة المدرسة و رغبة بعض المدرسين أو المتقدمين للتعيين في التدريس بغير اختصاصهم، و هكذا تقدم لامتحانات باطمان لوحدها خمسون شخصاً من بين ما يقارب المائة مُعلم و مدرس و راغب في التدريس كانوا قد سجلوا أسمائهم، و عندما انتهى الامتحان أُعيدت الأوراق الى اسطنبول لتدقيقها و منح علامات للناجحين حيثُ تم التعيين بناءً على تسلسلها، بعد اعلان النتائج أبلغت اللجنة الناجحين بأنهم سيكونون في طور الاختبار خلال شهر من ذلك حيثُ سيتم حضور دروسهم و تدقيق شهاداتهم من قبل لجنة ستُكلف بذلك.
في هذه الأثناء كانت اللجنة قد استأجرت بناءً مكوناً من ثلاثة طوابق لأتخاذه مدرسة في باطمان و بدأت بتنظيفه و اصلاحهُ، و بلغ عدد التلاميذ الذين سُجلوا هناك حوالي الـ 600، و هم من الصف الأول و حتى البكالوريا، كما تم استئجار مدرسة للمرحلة الابتدائية في نُصيبين و بلغ عدد تلاميذها حوالي السبعين.
انسحابات من الأمتحانات:
بدأت الاشكالات تظهر في مدرسة (باطمان) منذُ اليوم الذي أُجريت فيه الامتحانات و ربما أبكر من ذلك، فقد كانت هناك تشنجات نتيجة تباعد المواقف السياسية بين المعلمين ظهرت خلال لقاءات التعارف التي سبقت ذلك، لم تُعجب صيغة الأسئلة بعض المُمتَحنين الذي وجدوها ذات صبغة دينية (حسب تعبيرهم) أكثر منها تخصصية، اضافةً الى ذلك فإن شخصية المُدير نفسها كانت مثار جدل، فرغم أن الرجُل لهُ في التعليم ـ اختصاص رياضيات ـ ما يُقارب العشرين عاماً، إلا أن البعض اعتبره جزءاً من مما يجري في الامتحان و لجأ بعد مشادات كلامية الى تمزيق ورقة امتحانهُ و القائها و من ثم انسحب منهُ، لم تنجح الاعتذارات التي أعقبت ذلك في تخفيض منسوب الخلافات.
بعد ظهور النتائج بدأت الآمور تتفاقم أكثر خاصةً في ظل وجود بعض الشهادات المزورة، فقد كانت الهيئة الادارية قد عينت ثلاثة أشخاص بموجب قرار أصدرتهُ بتاريخ الثاني عشر من كانون الثاني لازالة اللغظ الحاصل حول الموضوع، كانت اللجنة مكونة من ثلاثة أطباء قاموا بعملهم بوسائل بسيطة كالمعاينة و سؤال أُناس من مُحيط أصحاب الشهادات فاكتشفت عمليات التزوير، لكن أسوأ ما حدث خلال ذلك هو عملية التشهير الواسعة على صفحات النت، التي بدت و كأنها مُمنهجة، ضد أصحاب تلك الشهادات و كذلك ضد أهلية الناجحين من خلال تسليط الضوء على أخطاء كان يُمكن معالجتها بطرق أُخرى بعيدة عن الأضواء التي فاقمت الأمر، بحيث أصبحت جريمة التشهير أكبر من عملية التزوير نفسها و من الصعب احتوائها، لأن النشر تم دون موافقة أصحاب المشكلة و دون الحصول على موافقة جهة قضائية ما أو كنتيجة لحكم توصلت اليه من خلال حسم أمر التزوير، بحيثُ سيبقى الأمر يُلاحق هؤلاء كالكابوس.
مُدراء و معلمون:
شحصية أُخرى كانت محوراً للشد و الجذب ألا و هي شخصية السيد عمران عزيز، حيثُ تداولت الأحاديث أنهُ كان بدوره مُديراً للمدرسة رغم أنهُ لا يحمل شهادات تؤهله للتدريس، و عند مواجهته بسؤالٍ عن ذلك أوضج أنهُ كان مُكلفاً من قبل جمعية جان بالبحث عن بناء لأستئجارهُ و اتخاذهُ مدرسة، و هو قام بالعمل في صيانة البناء حيثُ كان جزءاً من الهيئة الإدارية المُختصة بتهيئة الأمور لافتتاح المدرسة، و قد كان الجميع يُخاطبهُ خلال ذلك (بالأستاذ) و هو لم يكُن يُمانع في ذلك، و أضافُ أنهُ لم يجلس في حياتهُ على كُرسي المُدير و مستعد لخدمة المدرسة و التلاميذ بأية طريقة كانت، و قد تم استبعادهُ من الهيئة الإدارية و هو الآن ممثل للجمعية في المدرسة.
و حدث خلال زيارتنا للقبو الذي تتخذهُ المدرسة مستودعاً للكُتب، و تتخذ احدى زواياه مكاناً للتدريب على مقاطع مسرحية تحت قيادة الكاتب المسرحي أحمد اسماعيل، حدث أن تعرض مجرور الصرف الصحي لمشكلة ما تسببت في تسرب مياه آسنة الى المستودع فما كان من السيد عزيز إلا أن شمر عن ساعديه و ساقيه و دخل وسط المياه يحاول فعل شئ لانقاذ الموقف في حين كان المُعلم محمد علي موسى يرفع
الغطاء في الشارع و يقوم باحكام اغلاق المجرور لمنع تسرب المياه، الأستاذ محمد علي كان لهُ نصيبهُ في العاصفة التي أثيرت حول المدرسة كونهُ مُعلم فنون جميلة في حين أنهُ و بنتيجة الامتحان الكتابي أصبح يُدرس مادة أُخرى.
التعليم:
لا يُمكن الوقوف على حقيقة مستوى المُعلمين و التلاميذ خلال زيارة واحدة للمدرسة، لكن يُمكن القول ان احداث مدارس سورية في تركيا هي خطوة متقدمة خاصةً أن التحاق السوريين بالمدارس التركية أمرٌ صعب بسبب عائق اللغة، و هكذا تتيح المدارس السورية الفرصة للأطفال للتعلم و ان كان في حده الأدنى، كما تُدخل العملية التنظيم الى حياتهم و تحول دون تشردهم، و هناك أحاديث عن أن الشهادات التي سيحصلون عليها ستحظى بالاعتراف.
ان ما لاحظته في المدرستين هو اقبال التلاميذ على الدراسة و المستوى المقبول الذي أظهروه مقارنةً بالمدة القصيرة التي قضوها في المدرسة، و قد بُدأ في الأيام الأخيرة باعطاء درس للغة الكُردية، و سمعت بعض التلاميذ العرب يُرددون بعض الكلمات الكُردية، و بالمناسبة تبلغ نسبة العرب في مدرسة باطمان حوالي 10% من مجموع التلاميذ، و التعلم باللغة الكُردية مادة اختيارية.
كانت هناك اشكالية تتعلق بالذهاب الى المدرسة تسببت في امتناع الكثير من أولياء الآمور عن ارسال ابنائهم بسبب توزع اقامتهم على المدينة المترامية الأطراف و قراها، إلا أن تبرع جمعية تركية بحافلات لنقل التلاميذ قد غير ذلك الواقع و ازال عقبة كبيرة أمام التلاميذ، أخبرني أحد القائمين على المدرسة بأنهم اشترطوا على الجمعية عدم التدخل في شؤون التعليم فاخبرتهم بدورها أن بامكانهم عدم ذكر اسمها حتى في مراسلاتهم، كما أن هناك حالياً وجبتي غداء تقدمان من قبل احدى الجمعيات الخيرية، كما تم تقديم جاكيتات شتوية للتلاميذ اضافةً الى القرطاسية بطبيعة الحال.
تمويل المدارس:
تلقت جمعية جان مبلغ 60,000 دولار عبر المجلس الوطني الكُردي من الائتلاف الوطني أجل انشاء المدارس الأربعة، و يبدو أنهُ تم صرف المبلغ كلهُ في صيانة الأبنية و المعاملات الإدارية، و بسبب نفاد المال فقد بقيت بعض الأمور معلقة تحتاج الى انجاز، من ذلك مثلاً عدم وجود باب لأحدى الصفوف في مدرسة نصيبين و بقاء غرفة المُعلمين مفتوحة على الغرف الأُخرى و بحاجة الى حائط يفصلها عنها، كما لاحظنا أن درج مدرسة باطمان مُكسر و يشكل خطورة على التلاميذ، اتصلنا بأحد كبار القائمين على الاغاثة في الائتلاف (فوعد خيراً)، أخبرني القائمون على المدرسة بانهم أصبحوا مدينين ببعض المال بسبب بعض الاصلاحات الضرورية التي قاموا بها، هذا طبعاً عدا ما قام به بعضهم من أعمال دون مقابل، و قد قاموا بطلب مبلغ يُعادل الـ 100 دولار من التلاميذ لتسيير بعض الأمور العاجلة، لكنهم أخبروني ان بعضهم دفع المبلغ و آخرون لم يدفعوه بعد أو دفعوا نصفهُ، و وعدوا باعادة المبلغ في حال توفر التمويل الذي توقف بسبب اللغط الذي أُثير حول الفساد الموجود، من جهةٍ أإخرى تلقينا اخباراً بأن هناك تهديدات للتلاميذ الذين لم يدفعوا بالفصل لكن دون أن يقدم دليل على وجود حالات فصل بسبب الامتناع عن الدفع.
لكن لا بد من القول في كل هذه المعمعة بأن المعلمون لم يقبضوا حتى الآن سنتاً واحداً رغم أن الضجة المُثارة التي تدفع الى الاعتقاد بأن أمورهم على خير ما يرام، أحد المُعلمين أخبرني بأنهُ يعمل بعد الظهر ليعيل أسرتهُ و بأنهُ يستطيع الصمود ربما شهراً آخر دون راتب، آخر قال لي بأنهُ يستطيع العمل على هذه الحال شهوراً، في حين تمنت احدى المُعلمات أُخرى بأن تُحل هذه الاشكالية بسرعة.
طريق الحل:
بقاء الأمور على ما هي عليه الآن في مدرستي باطمان و نُصيبين يهدد بفشل التجربة و سيكون البديل كابوسٌ مُرعب يبدو بأن لا أحد يريد أن يُفكر فيه أو يتخيله، و سيدفع الصغار ثمن خلافات الكبار مرةً أُخرى.
ان توقف التمويل و استمرار الصراع سيؤدي لاحقاً الى تأثر التلاميذ من خلال اغلاق المدارس و بالتالي ذهاب مئات الأطفال كل صباح الى الشوارع بدلاً من المدرسة ليكونوا بذلك عُرضةٌ للاصابة بأمراضها و جلبها معهم الى بيوتهم، لن يبقى أمام الأطفال في هذا السيناريو المُفترض سوى العمل القسري أو التسول و حتى القيام بالأعمال الغير المشروعة لأثبات ذواتهم أمام أهاليهم الذين يُعانون من الضائقة أصلاً، و بذلك سيضيع جيل كامل سيصعب اعادة الذي يليه الى السكة الصحيحة.
ينبغي لذوي الأمر في الجمعية أو المجلس الوطني الكُردي و حتى الائتلاف أن يتدخلوا لوقف التدهور الحاصل من خلال تشكيل لجنة محايدة من خارج الجمعية نفسها لإعادة تقييم ما حصل و الاتصال مع مُختلف الأطراف داخل المدرسة و خارجها للبناء على مصلحة الطلاب التي تتمثل في استمرار المدارس، و ضم اصحاب الاختصاصات الذين هم حالياً خارج الملاك و الذين تحتاجهم العملية التربوية دون شك.د