سقط سهواً

ستران عبد الله
كانت الامبراطورية السوفياتية مترامية الأطراف تتكون من قوميات وشعوب متعددة تتوزع على جمهوريات سيادية وتشكيلات هرمية معقدة، تبدأ بجمهوريات ذات حكم ذاتي مروراً بالحكم الذاتي العادي وادارات ذات صلاحيات أقل، بحسب حجم وثقل الشعوب والقوميات،  وأحياناً بحسب سلوكها الانضباطي في أوقات الأزمات التي تحيط بالاتحاد السوفياتي. فمثلاً أثناء الحرب العالمية الثانية حيث تربصت ألمانيا الهتلرية بجغرافيا السوفيات وقعت شعوب صغيرة من آسيا الوسطى في فخ الدعاية النازية، من حيث كانت تسعى للتخلص من الحكم السوفياتي فوقعت في المحظور، مما استدعى عقاباً سوفياتياً صارماً من قبل “الرفيق” ستالین، فتشتت شعوب ورحلت قومیات الى سيبيريا أو الى جمهوريات متناثرة على طول الحدود السوفياتية. وأنفل بضعة آلاف من كرد الاتحاد السوفياتي على اعتبار أن الأنفلة قدر الكرد باشتراكييهم ورجعييهم على حد سواء.
إلا أن أخطر ما يمكن أن يتعرض له شعب من شعوب الامبراطورية، وخصوصاً الكبيرة منها، ممن هم دون تشكيلة جمهورية من الجمهوريات الثماني عشر، هو أن يتم تجاهلهم في المراسلات الرسمية  ذكراً بالاسم أو تلميحاً بالعنوان، مثل أن يقال: يتكون الاتحاد السوفياتي من شعوب وقوميات ومنها القوميات الفلانية والعلانية و.. الخ، وكانت الخ.. التي هي في المعتاد مجرد تسمية للتعدد ووصفة للتراتبية البريئة، في الحالة الستالينية هذه ايذاناً بالتغييب والتجاهل ومقدمة للغرق في بحر القوميات المتلاطمة الأمواج داخل الجغرافية السوفيتية. ويبقى على شعوب فئة الخ والقوميات المغضوب عليهم أن تنخرط في يوغا تحسين السلوك ومشقة إعادة التأهيل السوفياتية أو أن تنتظر حقبة تصحيح مسار من قبل زعامة جديدة مما تفرزه التصارعات الداخلية في موسكو.
لن أتوسع في نقد التجربة السوفياتية احتراماً لعمق التجربة على اختلافنا في تقييم موقفها من المسألة الكردية وأيضاً رهبة من ملاحظات أستاذي الكبير البروفيسور عز الدين مصطفى رسول.  
وما اعتبرناه تجربة عتيقة من القرن الماضي نراه يتكرر في العراق الجديد برعاية اقليمية  وبغض الطرف امريكياً، ويبدو أن لا فرق بين الحكم الذاتي على الطراز البعثي الذي هو نسخة رديئة من النموذج السوفياتي لحل قضايا القوميات وبين الفدرالية الكردستانية في العصر الأمريكي الحالي، فهناك حزمة اجراءات عقابية ضد كردستان تبدأ بتجزئة المحافظات مخاطبة  رسمية ويمر بالتلاعب بتسميات شمال العراق ويعرج على تشبيهات غير موفقة في المقارنة بين معالجة ملف الاستفتاء الكردستاني الذي تم في أجواء سلمية وديمقراطية مهما كانت مسوغات الحديث عن دستوريته من عدمه، وبين ملف مجابهة الارهاب الداعشي الذي هو انجاز كوردستاني مثلما هو انجاز عراقي بمعناه الوطني الأوسع، ولكن الأمر التبس سهواً أم عمداً على السيد رئیس الوزراء العراقي، فقارن مقارنة مجحفة بين الملفين في تطابق مع الوصف الخاطئ لرئیس الوزراء التركي بن علي يلدرم حيث قال: “إن مصير قرار الرئیس الأمريكي ترامب حول القدس مثله مثل مصير الاستفتاء الكردي”.. فتمعنوا في الوصف وتأملوا في التطابق بين موفق الصدرين الأعظمين!!.
في ظل هذه الأجواء الملبدة بغيوم سوء النية، فمن الطبيعي أن يسقط اسم البيشمركة عمداً أو سهواً من خطاب النصر طالما أن النصر نفسه وظف في مقارنات غير موفقة يجرح الشعور الكردستاني مثلما يلثم في عظمة الانتصار الوطني المعمد بالدماء الذكية.
فهذا يشبه العقاب اللفظي السوفياتي “الخ” معبراً عن تذمر حكومة المركز من سلوك القوميات والشعوب، وأن لفي التاريخ السوفياتي أو الأمريكي أو العراقي لعبرة لأولي الألباب.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…