حيدر العبادي.. العزة بالإثم

د. ولات ح محمد
    فجأة وجد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي نفسه في خضم عملية لم يقررها هو ولم يقم بالتحضير لها بنفسه ولم يسعَ إلى تنفيذها بالشكل الذي تم، بل دُفع به إليها من قوى داخلية (وعلى رأسها غريمه الذي أراد توريطه في حرب مع الكورد) ومن قوى خارجية وعلى رأسها إيران وبتشجيع من أنقرة وضوء أخضر أمريكي. هكذا تمت عملية غزو كركوك في ليلة السادس عشر من تشرين الأول أكتوبر الماضي وهكذا وقعت مع مناطق أخرى (متنازع عليها) في قبضة مليشيات تابعة لإيران عاثت فيها خراباً وقتلاً وحرقاً وتهجيراً.
    كان لهذه العملية أن تسجل باسم حيدر العبادي بحكم موقعه رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة، ومن الطبيعي وظيفياً أنه لا يمكن لأمر كهذا أن يقع دون صدور أوامر مباشرة منه. هكذا أراد الإيرانيون (أن يحققوا هدفهم باسم العبادي) بالتعاون مع الأتراك الذين وجدوا في نزع كركوك من يد الكورد فرصة لتقويض الحلم الكوردي الذي سيسبب لهم وجع رأس مزمناً. أما أمريكا ممثلة بوزير خارجيتها ريكس تيلرسون تحديداً فأرادت تقوية العبادي تحضيراً لإنجاحه في الانتخابات المقبلة بغية قطع الطريق على إيران ورجلها في العراق نوري المالي (بدون كـ).
    كل هذه العوامل والمصالح والأهداف (الإيرانية الأمريكية التركية) صبت في خانة العبادي دون أن يكون له دور حقيقي سوى إعطاء الأوامر للجيش بالتحرك بعد أن تلقى الإشارة من قاسم سليماني بأن الاتفاق مع مجموعة الخونة قد تم. أما ميليشيات ما يسمى بالحشد الشعبي فإن أوامر تحركها تصدر من طهران ولا سلطة للعبادي عليها. 
    المشكلة أن الرجل بعد دخول كركوك والمناطق الأخرى قد صدق خياله بأن كل ما حصل كان من تدبيره وبإرادته وبأنه القوي العزيز القادر على فرض سلطته وفرض “هيبته” على كل العراق وكل العراقيين. ومن يراقب خطاباته منذ سقوط كركوك وحتى الآن سيلاحظ فيها هذه النبرة العالية بوضوح، علماً أنه غير قادر على فرض أوامره حتى على المليشيات التي باسمه دخلت كركوك وطوز خورماتو وغيرها من المناطق وارتكبت فيها جرائم بحق العراقيين ولم يسأل عنها وعنهم العبادي لأنه غير قادر على محاسبة تلك العصابات على جرائمها التي صنفتها الأمم المتحدة مؤخراً في خانة جرائم حرب.
    هذا الإحساس الكاذب بفائض القوة وزيادة الحجم ونشوة الانتصار بعد دخول كركوك عسكرياً جعل العبادي يشعر أنه بإمكانه أن يذهب بعيداً في انتصاراته الدونكيشوتية. فقام باستصدار مجموعة من القرارات كانت في مجملها عقاباً فردياً لكل من شارك في الاستفتاء وجماعياً لكل سكان الإقليم بملايينه الستة؛ فأغلق حركة الطيران عن الإقليم وأغلق سيّدُه في طهران حدوده البرية بطلب منه هو وعمل على تخفيض حصة الإقليم من الميزانية العامة وقام بفصل الموظفين والنواب الذين شاركوا في الاستفتاء، وغيرها من الإجراءات التي تكشف عن ذهنية من يدعي الشراكة والمساواة والعدالة وتطبيق الدستور الذي خرقه بمجرد إرساله الجيش إلى كركوك لمحاربة البيشمركة. 
    بات معلوماً لدى القاصي والداني أن حكومة الإقليم والرئيس البارزاني يطالبون بغداد بتطبيق الدستور منذ سنوات، وأنهم طالبوا ويطالبون بغداد بالحوار الجاد قبل الاستفتاء وبعده لحل جميع النقاط الخلافية التي تسببت بها حكومات بغداد المتعاقبة منذ 2005 لتجاهلها تطبيق مواد الدستور. وبدلاً من أن يصحح العبادي أخطاء أسلافه زاد عليها استخدام القوة العسكرية التي لوح بها سلفه نوري ولم يجرؤ على استخدامها ضد الإقليم لفرض أمر واقع. هكذا ترجم العبادي إحساسه الكاذب بالقوة والنصر (قال قبل أيام إن الجيش العراقي من أقوى جيوش المنطقة) حتى بات لا يأبه بمواد الدستور الذي يقر بأن العراق دولة اتحادية وأن المحافظات الكوردية تشكل إقليماً فيدرالياً، وراح يعمل بدفع من طهران على إلغاء الإقليم والتعامل معه كمحافظات وكأن إدارة الدولة وقوانينها ودستورها رهن إشارة من حيدر أو نوري أو غيرهما وميداناً لممارسة نزواتهم وميولهم ورغباتهم وغرائزهم. 
    العبادي في سلوكه هذا بدا كمن أخذته العزة بالإثم كما جاء في الآية الكريمة: “وإذا قيل له اتّقِ الله أخذتْه العزة بالإثم …”؛ فكلما دعته حكومة الإقليم إلى الحوار والجنوح للسلم ازداد انتفاخاً وانتشاء وشعوراً بالقوة والنصر ومضى في إجراءاته التعسفية ولغته المتعالية غير المسؤولة متجاهلاً أن القوة “العزة” التي يشعر بها لم تأتِ نتيجة انتصار مشرّف لشعبه على أعدائه بل ولّدها ارتكابه لآثام وجرائم بحق ذلك الشعب؛ فالعبادي سلم كركوك وخورماتو لمليشيات لا تعرف قيمة لقانون ولا لشرع، وكانت نتيجةُ فِعْلتِهِ حرق عشرات البيوت وقتل المئات وتهجير ما يقرب من مائتي ألف من مدنهم وقراهم، كثيرون منهم ينامون في الحدائق والخيام منذ شهرين ولا تغيير في الوضع يلوح في الأفق في المدى الشتوي القارس المنظور.    
    ذاك هو الإثم الذي ارتكبه العبادي بحق من يدعي أنهم “مواطنوه الأعزاء”، وتلك هي العزة (القوة) التي شعر ويشعر بها نتيجة اقترافه ذلك الإثم الذي جعله مأخوذاً بنشوة “نصرٍ” يظن أنه حققه على جزء من شعبه حتى قال قبل أيام إن “توحيد العراق ومنع تقسيمه نصر آخر لا يقل عن الانتصار على عصابات داعش الإرهابية”. يبدو أن العزة بالإثم أخذته وأسكرته لدرجةٍ بات يرى فيها أن الانتصار على الكورد يوازي الانتصار على داعش، الكورد الذين لولاهم لما كان للعبادي أن يتقدم خطوة واحدة باتجاه تحرير الموصل، الكورد الذين استقبلوا مليونين من العراقيين الهاربين من جرائم داعش ومن القصف العشوائي لقوات العبادي ومن جرائم مليشياته، العراقيين الذين مازالوا في ضيافة الكورد وغير مسموح لهم العودة إلى ديارهم على الرغم من انتشاء البطل الموهوم بالإعلان عن الانتصار على الإرهاب منذ شهور.
    نعم لقد أخذته العزة بالإثم؛ فقتْلُ أهالي كركوك وخورماتو وتهجيرهم وإحراق بيوتهم جعله في مرآة نفسه بطلاً قوياً قادراً على أن يفعل ما يريد وفارساً لا يشق له غبار، مع علمه في قرارة نفسه أن ما تمَّ (دخول كركوك) ما كان لِيَتمِّ لولا اجتماع مصالح وإرادات وقرارات أمريكية وإقليمية كان دوره فيها فقط إصدار الأوامر لجيشه ومليشياته لتنفيذها ليس غير. 
    أمام هذه المرآة الخادعة يتوجب على السيد العبادي أن يتدارك أمره سريعاً ويصحو من سكرته وأحلامه النافخة وانتفاشه الطاووسي ويعود إلى واقعه الذاتي والعراقي عاجلاً وليس آجلاً، وإلا فإنه سيدفع بشعبه (الذي قال هو نفسه إنه أمانة في عنقه وإن الحكم أمانة) إلى التهلكة من حيث يدري أو لا يدري؛ فكثرة الشد تقطع وكثرة النفخ تفجر. إن العبادي في كل الأحوال هو المسؤول الأول والأخير عن كل جريمة ارتكبت أو سترتكب بحق العراقيين عرباً وكورداً وتركماناً وآشوريين، وعن انهيار المجتمع والدولة اللذين يحتاج بناؤهما إلى رجال دولة لا إلى موهومين بالبطولة ومأخوذين بالانتخابات وعدد الأصوات والمقاعد.
    إن عزة الأحرار آتية من خير قدموه لشعوبهم وذويهم ونصرٍ حققوه على الظلم، أما عزة العبيد فمأخوذة من جرائم ارتكبوها بحق أبرياء أطفال ونساء وشيوخ قتلوهم وأحرقوا بيوتهم وشردوهم في الخلوات وظنوا بذلك أنهم إنما أقوياء. 
    حقاً، لقد “أخذته العزة بالإثم …” فأي عزة وأي إثم ؟!.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…