سلمان بارودو
بعد دخول الكرد واعتناقهم الدين الإسلامي طوعاً نتيجة تطابق هذا الدين الذي كان يدعو الناس إلى العدل والمساواة والتسامح مع التكوين القبلي الكردي آنذاك، فدخلوا الكرد طواعية إلى هذا الدين غير مكرهين أو مرغمين كغيرهم من الأقوام، حيث لعب الكرد دوراً بارزاً منذ دخولهم الإسلام وحتى الآن ضد التطرف والتشدد الديني، وأخذ الجانب المضيء منه وجعله صلة الوصل بين جميع المكونات وأغفل جانبه المظلم. وقدم خدمات جليلة للدين الإسلامي وللغة العربية وآدابها وثقافتها المتنوعة، حيث بات للدين الإسلامي ومبادئه تأثيراً كبيراً على المجتمع الكردي بالنظر إلى سواه من الأقوام والشعوب الأخرى.
لذلك، لا يمكن إنكار دور رجال الدين الكرد الذين قدموا خدمات كثيرة في ميادين عدة للدين الإسلامي، فحدث ولا حرج، من قادة عسكريين وإداريين وشيوخ دين ومؤرخين ورجال علم وأدب وثقافة، وظل الكردي متمسكاً صادقاً بأهداب الدين، وحريصاً كل الحرص على أداء فرائضه على أكمل وجه، وعبروا عن ما في الإسلام من ثقافة ومعرفة وفكر ناصع، وأغنوا بأطروحاتهم ومؤلفاتهم مختلف ميادين ساحة العلم والثقافة، ومدوا جسور التواصل والمحبة، غير متجاوزين الثوابت الأساسية لهذا الطرف أو ذاك، مؤكدين بأن الحوار هو السبيل الوحيد المؤدي إلى حل كافة القضايا الخلافية، وأن خطابهم الديني لا يخلو من مناشدة الناس بأن الحياة والعيش يجب أن يبنى على أساس من العدل والمساواة وصيانة الكرامة وحفظ الحقوق، لذلك نالوا إعجاب بني البشر على اختلاف ألوانهم ومشاربهم، وجاهدوا في كثير من الميادين من أجل نصرة وإعلاء راية الإسلام، حتى وصل بهم الأمر إلى حمل السلاح دفاعاً عن الخلافة الإسلامية، وعند الحديث عن أفضال الكرد على الاسلام والمسلمين، يحضرنا القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية.
ولدى التمعن والنظر إلى المناطق الكردية مقارنة مع بعض مناطق الأقوام الأخرى، نرى بأن معظم مناطق تواجد الكرد متمسكة أكثر من غيرها بتعاليم الدين الإسلامي، حيث لا تكاد تخلو قرية كردية من مسجد، وفي كل مسجد “ملا” مؤذن، يدعو الناس إلى الصلاة، وهذا الملا ذو تأثير وسلطة اجتماعية لدى أهل القرية لما يقوم بالحكم بين الناس عند حصول أي خلاف أو نزاع، أي بمثابة قاض يحل محل المحاكم المدنية، وأيضاً يعقد عقود الزواج، ويدرَس طلاب القرية لتلقينهم مبادئ القراءة والكتابة، وتربيتهم على الأخلاق الإسلامية السمحة، ويتسلم مقابل ذلك مبالغ عينية أو نقدية من أولياء التلاميذ، كان مادته المعتمدة في تعليم التلاميذ هو القرآن الكريم، وكان يلقن التلاميذ بشكل نغمي حركات الحروف الهجائية، مثلاً: [ اَ ، اِ، اُ ، بَ ، بِ ، بُ …]، ويستخدم الملا أساليب قاسية مع طلابه كالفلقة وضربهم بالعصا على اليدين في حال عدم حفظهم لدروسهم أو غيابهم عن المدرسة.
ومن ثم انتشرت المدارس الدينية رويداً رويداً لتصل إلى المناطق والبلدات الكردية، وكانت يدرَس فيها الفقه وأصوله والحديث والتفسير واللغة العربية وبعض العلوم الأخرى، وكان معظم شعراء الكرد وأدباؤهم من خريجي تلك المدارس والتكَايا الدينية التي كانت مناهل العلم الوحيدة في مناطق تواجد الكرد، ومن هؤلاء الشعراء والأدباء نذكر منهم: “فقي طيران, أحمدي خاني، ملاي جزيري, ملا نالي، رضا طالباني، حاجي قادري كويي،… وصولاً إلى الشاعر الكبير جكرخوين”، فمعظم هؤلاء الشعراء حملوا رايتهم القومية ودافعوا عن وجودهم وأصولهم الكردية، فدعا الكثيرون منهم إلى التحرر ووحدة الصف الكردي، حيث أنشأ أحمدي خاني في بلدته بايزيد مدرسة كلاسيكية إسلامية، وقام بوضع مناهج مكتوبة باللغة الكردية لتدريسها، كما قام ملا محمود بايزيدي ترجمة كتاب “شرفنامة” إلى الكردية, وقام أيضاً بكتابة تاريخ الكرد بلغته الأم (تاريخ جديد كردستان)، ودوَن في رسالته القيمة (عادات الأكراد وتقاليدهم).
حتى بات رجال الدين في المجتمع الكردي بشكل عام المصدر الوحيد والمرجع الأساسي للناس في كافة أمورهم الدينية والدنيوية على حد سواء، فقد أغنى العديد من رجال الكرد المكتبة الاسلامية والعربية بكتاباتهم الخالدة في خدمة الفكر والثقافة، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر: ابن خلكان وابن الأثير وابن الصلاح الشهرزوري، وابن الحاجب والشيخ عبدالقادر الكيلاني وخالد النقشبندي وعبدالرحمن الكواكبي وأحمد شوقي وآل الحيدري وعباس محمود العقاد وصولاً إلى محرر القدس القائد الكبير صلاح الدين الأيوبي … والقائمة تطول وتطول. وبالرغم من كل ذلك كان نصيبهم على مر التاريخ الظلم والتجاهل والتعسف من قبل حكام العرب المسلمين، حتى وصل بهم الأمر إلى أن مرروا أفكارهم ونفذوا برامجهم وتوجهاتهم السياسية بحق الكرد عن طريق خطابهم الديني، كونهم كانوا يتعاملون مع الدين لأجل مصالحهم، وكان تدينهم عادة وليس عبادة، حيث أن الكثيرين منهم أنكروا أصولهم الكردية مدعياً انهم من طائفة الجن، وما قصة مؤسس الدولة العباسية أبو مسلم الخرساني “كردي الأصل” الذي استطاع القضاء على الدولة الأموية، حيث كان نصيبه القتل غدراً على يد الخليفة أبو جعفر المنصور، وفي هذا الصدد يقول الشاعر أبو دلامة:
أبا مسلم ما غير الله نعمة على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المنصور حاولت غدره ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
لكن مع ظهور التيارات الإسلامية التكفيرية والجهادية مؤخراً والتي حاربت كل من يخالفها الرأي والتوجهات السياسية، إذ قامت بنشر الرعب والخوف في نفوسها، واعتبر الكثير من رجال الفكر والمعرفة أن مأزق الواقع العربي والإسلامي يرتبط بالثقافة قبل كل شيء، ويحضرنا هنا قول الشاعر العربي المعروف نزار القباني:
ثقافتنا فقاقيع من الصابون والوحل نعيش بمنطق المفتاح والقفل
نلف نساءنا بالقطن ندفنهن في الرّمل
مما دفع بالكرد أخذ الحيطة والحذر من هكذا ثقافة وتوجهات خطيرة، وبدأوا رويداً رويداً اعلان موقفهم الرافض لهذه التيارات الإسلاموية العروبية والتي كانت تقف على طول الخط حجرة عثرة ضد الوجود القومي الكردي وهويته.
ومع بروز الوعي القومي لدى الكرد وتبلور الهوية القومية الكردية، بدأ القوميون الكرد يهتمون بقضاياهم ومصالحهم القومية الخاصة، ولم يعروا أي اهتمام مثل ذي قبل للإسلام، وهذا كان أول انعطاف واضح عند الكرد لرفضهم أن يكونوا وقوداً للآخرين في معاركهم واستغلالهم من أجل تمرير أجنداتهم ومصالحهم.
وإن جميع تجارب العالم المتحضر وأصحاب الفكر والمعرفة أكدت بأن الحياة الاجتماعية لكي تسير في مسارها الصحيح والسليم، لابد من ايجاد حالة من التوافق والاحترام المتبادل بين كافة مكونات المجتمع على اختلاف أنواعها، لذلك تقتضي المصلحة العامة باجتناب كافة مظاهر التصادم والتنافر بين هذه المكونات المتعايشة مع بعضها البعض منذ زمن بعيد.
وعند النظر إلى واقع الكرد في عموم كردستان من الناحية الدينية نرى بأن كرد سوريا، أكثر من غيرهم اعتدالاً وتحرراً من التبعية للإسلام. لهذا، نستطيع أن نقول بأن كرد سوريا لا يقبلون التشدد الديني ولا الإسلام السياسي، لذلك عرف معظم رجال الدين الكرد في سوريا باعتدالهم الديني وفكرهم المتنور وخطابهم الوطني، ويعود هذا الفضل للحركة السياسية الكردية التي كانت تنبذ التشدد والتطرف الديني، ودائماً كان سياسيو الكرد يبدون مخاوفهم علناً من خطورة ظهور تنظيمات إسلامية متطرفة في الوسط الكردي، واتهامهم للدين بأنه سبب التخلف والويلات التي حصلت لهم.
ومعروف لدى القاصي والداني، بأن الكرد من أكثر الأقوام الإسلامية انفتاحاً على المرأة، حيث يصف فاسيلي نيكيتين في كتابه “رحلة في بلاد الشجعان” المرأة الكردية بأنها رمز المساواة والصلابة والجمال، يقول ما نصه: “ولم يسعني الا الإعجاب بالنساء الكورديات بمشيتهن المنتصبة وأقدامهن الثابتة الفخورة”، كما يقول المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي في كتابه (الأكراد، ملاحظات وانطباعات): “إن الكرد هم أكثر تسامحاً من جميع الشعوب الإسلامية الأخرى المجاورة تجاه المرأة”…وبذلك فالكرد أكثر تقبلاً لحرية المرأة ومكانتها قياساً بالأقوام الإسلامية (الترك والفرس والعرب)، التي بدت لمينورسكي غير متسامحة مع المرأة.
والمهم في ذلك كله، لم يشهد التاريخ بأن الكرد في يوم من الأيام جعل من الدين الإسلامي تياراً سياسياً لفرض تعاليمه ومبادئه على الناس بالقوة، أو لاستحواذه على السلطة، بل كان خطابه الديني يركز على الاعتدال والتسامح والارشاد بدلاً من التطرف والتحريض والعنف، كما كان يرى بأن التدين يشكل الصلة بين الله وعبده، ولا يجوز استغلاله تحت أي مسمى آخر.