عبدالله كدو
تبينَ للقاصي والدّاني، خلال مرحلة الحرب الباردة التي بدأت بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بأن الأنظمة الحاكمة في معظم دول العالم الثالث، ومنها الأنظمة التوتاليتارية في المنطقة العربية قد تغولت بما لم تترك لشعوبها من إمكانات و وسائل لممارسة أي نشاط معارض، و بأي أسلوب بما فيه ” اللّاعنف ” للدفاع عن حقوقها المسلوبة من قبل حكوماتها التي صادرت السلطة والثروة، ذلك بعد أن أتت على ما تبقى من إرث مدني، مؤسساتي عن حقبة ” الأنظمة الاستعمارية ” التي حكمت هذه البلدان باسم الوصاية أو الانتداب أو .. ، حيث تحولت إلى دول أمنية صرفة، بعد أن ذوّبت السلطتين التشريعية و القضائية في السلطة التنفيذية التي تمت إدارتها بقبضة حديدية مخابراتية خفية من وراء الستار، و كذلك بعد حظر الأحزاب المعارضة و إفراغ الأحزاب السياسية الموالية ، بما فيها تلك الحاكمة من أي محتوى، و تجريدها من أي صلاحيات إدارية أو سياسية، ، لتظل صورية شاهدة زور على قمع عارٍ بحق، ليس من يعارضها و حسب إنما، من لا يصفق لها مبتسماً.
عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بضرب عراق صدام حسين ، ضمن قوات التحالف الدولي في عام 2003 ، كان لسان حال شعوب المنطقة تقول جهاراً نهاراً، دون أي حرج ، إننا في انتظار جيوش جورج بوش الإبن، حيث كان الكل يشبِّه الشعب العراقي بالطائر المُدجَّن الذي قصَّ صاحبه ريش جناحيه لمنعه، لا من الطيران فقط إنما، من القفز أيضاً، و لاقى سقوط عراق صدام الاستحسان من قبل الشعب العراقي و الشعوب المجاورة، باستثناء حفنة من القومويين و الإسلامويين و اليساريين ذوي العقول المتكلسة، ممن يطلبون من الشعوب أن تحني رقابها لإيديولوجياتهم الجامدة، وكأنهم أمام نصوص دينية.
و الآن ماذا عن الشعب السوري الذي تمّ تدجينه بالترهيب والترغيب، حتى صار يكرر طلاب سوريا و جيشها كل صباح شعار” قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد” في تحدّ سافر للأصوات المطالبة بالديمقراطية و المشاركة في حكم سوريا، وبعد استلام الأسد الابن مقاليد الحكم، قطع الحاكم الجديد الشك باليقين، ليظهر على أن سوريا ليست جمهورية عملياً ، وهي ليست ملكية نظرياً، و عليه أصبح تحديد نوع نظام الحكم في سوريا مجالاً للتندر، و سُمي النظام الجديد بالنظام ” الجملوكي” في إشارة ساخرة إلى تمازج صفات الجمهوري المنتخب رسمياً و الملكي الوراثي .
أما على الصعيد الخارجي ، الكل يتذكر كيف أن النظام السوري ظل موالياً لإيران الخمينية في خلال حرب الخليج الأولى حيث أن عملية الصراع الطائفي كان يتم نسج خيوطها بعناية، و بعد أن انطلق ربيع الثورات العربية تبين أن لسوريا خصوصيتها من حيث تشابك ارتباطاتها مع دول الإقليمية، إضافة إلى مصير حالة المهادنة و ضبط الحدود السورية الإسرائيلية منذ ما بعد حرب تشرين لغاية تاريخ انطلاقة الثورة السورية القائمة.
لقد بدا جلياً أن عامة الشعب السوري لم يتمكن من فك رموز المعادلة السياسية السورية إلا بعد انطلاقة ثورته، حيث تبين جلياً بأنه ثمة تدخل خارجي كبير يقف وراء استمرار احتكار السلطة والثروة في البلاد، وما على السوريين الآن إلا الكف عن السياسة التي اعتمدوها سابقا، و التي أثبتت فشلها على مدى ستين عام ،حيث كانت من منظور إسلاموي أو قوموي أو يساري عروبي، و لم تنتج سوى الشقاق بين مختلف مكونات الشعب السوري ، وعلى العكس، عليه الالتفات إلى الواقع الموضوعي الذي يستوجب القيام بصياغة عقد اجتماعي جديد، يتوافق عليه السوريين، ليعيدهم إلى أجواء الثقة والأمل التي سادت في مرحلة بداية الاستقلال الوطني، الاستقلال الذي شارك فيه جميع المكونات الوطنية في البلاد، واعتماد نهج ديمقراطي علماني يحترم حالة التعددية القومية و الدينية والسياسية و الثقافية، و يقبل إشراك المرأة في الحياة السياسية و الثقافية و غيرها، ما يطمئن دول الجوار وغيرها من الدول ذات الشأن أيضا، كمقدمة لتقديم البديل السياسي الذي يثق به مختلف الأطراف المعنية ، و تبدأ إيقاف المحرقة القائمة في سوريا منذ أكثر من ست سنوات، ليستأنف الشعب السوري مسيرته التنموية المتوقفة، و الحد من احتمالات استخدام سوريا ساحة مقايضة للقوى المتربصة بها، و احترام الامتدادات القومية والدينية والاجتماعية لمختلف المكونات الوطنية السورية خارج البلاد، و اعتماد سياسة خارجية قائمة على صيانة السلم و حسن الجوار.