وليد حاج عبدالقادر *
بداية : لابد من التأكيد بأن أكثر ما يؤلمنا كورديا وفي عموم كوردستان هو ذلك التغييب الذي تمنهج عربيا والذي تلى مرحلة الصراع مع الدولة العثمانية بعد الحرب الكونية الأولى و اوجدت ، لابل وسمت المنطقة بخرائطها وجغرافياتها وفيها متلازمة جينة تشظيها التي أخذت تتمظهر في هذه الأيام ، وبالرغم من أن العرب ومن خلال قائد ثورتها الكبرى سنة ١٩١٦ / الشريف حسين / كما سنرى لاحقا ، كان ممن فاوض ووافق على تشكلات خرائط مابعد سايكس بيكو ، هذا التغييب الذي نوعزه كورديا بحجبها معرفيا وتجاهلها في الدول العربية / مجتمعيا / الى المنهج الثقافي والتطبيق العملي للمعاهدة الثقافية الموقعة بين أعضاء جامعة الدول العربية منذ بداية التأسيس والتي استمرت حتى بعد التعديلات العديدة والتي / بتصورنا / لم ترتق الى الإقرار بوجود شعوب تداخلت مع العرب ثقافيا وجغرافيا ، بالرغم من إدراكنا التام واستيعابنا على النقيض منهم الموقف العدائي منهجا وممارسة من ايران وتركيا وبمختلف اشكال انظمتهم الحاكمة بآيديولوجياتها المختلفة ،
وهنا ، وفي هذا العرض ، وبالرغم من استحالة الفصل بين أجزاء كوردستان الوطن كتداخل تاريخي وجغرافي ، وضرورة التعرض لها ككل ، إلا أن التركيز وان كان سيطال الجزأين الملحقين لدولتين عربيتين ستبقى هي الغاية من هذا العرض ، لتبيان بعض من المآلات التي نراها وقد ترسخت وشكلت هوة يسعى / بعض / من متجاهلي الحقيقة التاريخية عمدا ، فيناظرون في كوردستان والقضية الكوردية بمنطق عجائبي فيتبدى حجم الخطل الممارس ، نعم ، هي التغريبة المصطنعة التي تراكمت في ذهنية دول وشخوص لم تأل ومنذ التطبيق الفعلي لخرائط سايكس بيكو ، والتي فصلت وفق تتابع مجاميع المفاوضات والمباحثات وعديد المراسلات التي تتالت كانعكاس لحالة الوهن التي ألمت بالسلطنة العثمانية ووصولها الى مرحلة التفكيك والتجزيء ، ومهدت عمليا وبالتلاقي من جديد مع مطامع الدول الإستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا ، وهنا ، وفي العودة وبإيجاز شديد في خاصية التقسيم الأول لكردستان بعيد معركة جالديران عام ١٥١٤ بين الصفويين والعثمانيين والتي استهدفت أمارات كوردية مستقلة كانت وبخصائصيتها رغم خضوعها ان توافقا او حسما عسكريا منذ عام ١٨ هجري وحملات عياض بن غنم ولتخضع غالبية كوردستان للإمبراطورية الإسلامية وتدخل إن كموقع جغرافي طبيعي أوبشري ، وتساهم بشكل مباشر او غير مباشر في المعادلات والصراعات البينية الإسلامية التي حدثت أثناء الخلافة الراشدية أو بعدها ، فكانت معبرا او حتى ساحة للصراع والمتغيرات السياسية المرافقة ، ومع هذا ، ما خلت ووفق السريالية التاريخية المعروفة مطلقا من وجود أمارات كردية كانت مستقلة إداريا ومنظمة بالمفهوم التاريخي للمرحلة ، وإن ما سلمت من محاولات الصفويين في التمدد حينا فتستخدم فائض قوتها لفرض مذهبها الشيعي بشعائرها ، وبتكثيف شديد وبالقفز على أحداث عديدة ، سيما بعد التمدد العثماني في المنطقة وتوجهها الى كوردستان ومد يد الصداقة مستغلا العامل المذهبي ومساعي الملا إدريس البدليسي في ايجاد توافقات ارتقت الى اتفاقات ولتصبح الإمارات الكوردية قاعدة لوجستية هامة وداعمة بقوة للعثمانيين في الحرب ضد الصفويين / وهذه المرحلة اضافة الى ماسبقها في الموقف من صلاح الدين الأيوبي وإطاحته بالخليفة الفاطمي هي واحدة من ثارات خامنئي ضد كوردستان والقضية القومية الكوردية / ، وكانت هي اللحظة الحاسمة / نظريا / في التقسيم الأول لكوردستان وهيمنة العثمانيين على الجزء الأكبر مساحة وسكانا منها ، ولم يخل الأمر مطلقا من ثورات كوردية لامست بدايات هذا التشكل ، ولعل ثورة سنان باشا ضد الصفويين وثورة جان بولات ضد العثمانيين اوائل عام ١٦٠٠ خير دليل على ذلك ، ومع مرور السنين حاولت الدولتان التدخل بقوة في شؤون الإمارات الكوردية ، في سعي واضح لخلق حالة جديدة من الهيمنة المركزية والتي أدت بطبيعة الحال الى ردات فعل ولتندلع انتفاضات وثورات وكان من أشهرها في الجانب العثماني ، انتفاضات البدرخانيين من ١٨٤٥ لى ١٨٥٦ وتلتها انتفاضة عبيدالله النهري عام ١٨٦٠ ولتزيد بعدها السلطنة من قبضتها المركزية وبالتالي الغاء الإمتيازات الخاصة وتحويلها الإمارات الى سناجق وماشابه ، وفي الجانب الصفوي وإن كانت أقل عنفا بسبب الحساسية المذهبية ، إلا أنها كانت تتحين أية فرصة لبسط مركزيتها والتي هنا ايضا ماخلت من ثورات مثل ثورة سمكو آغا شكاكي الأولى سنة ١٩٠٣ . وبعيدا عن المسلك التاريخي وضمن نطاقيتها في مآلات التحولات التي لازمت مجريات الحرب الكونية وتجليات الضعف الكبير على العثمانيين وحتمية انهيارها وتقسيمها وبالتالي تبلور اتفاقية سايكس بيكو وتوجه الدول الإستعمارية سيما انكلترة وفرنسا بتهيئة الشعوب المنضوية في خارطة الدولة العثمانية وحثها باعلان ثوراتها وفق تفاهمات تموضعت بغالبيتها في مفاوضات الشريف حسين كقائد للثورة العربية الكبرى المتوقعة ورسائله الى انكلترة تحديدا ، وهنا ، من المهم التذكير بالمشروع الذي تمخض عن مباحثات فيصل كليمنصو ، وسميت بإسميهما وجاء فيه : ( عطفا على التصريح الإفرنسي / الإنكليزي بتاريخ ٩ / ١١ / ١٩١٨ / من جهة وبناءا على المبادئ العامة المختصة الإفرنسية واعترافها للأهلين الناطقين باللغة العربية والقاطنين في أرض سوريا من كافة المذاهب أن يتحدوا ويحكموا أنفسهم بأنفسهم بصفتهم أمة مستقلة ) ، وهذا المشروع هو عمليا ترجمة فعلية لتفاهمات وتوافقات تمت عبر مراسلات عدة بين الشريف حسين بن علي و مكماهون بين عامي ١٩١٥ / ١٩١٦ ، ويهمنا هنا التركيز على بعض منها : ففي رسالته المؤرخة يوم ١٤ يوليو ١٩١٥ طلب الشريف حسين من مكماهون تحديد جغرافية البلاد العربية مع طلب ملح في ضم ولايتي مرسين وأضنة ، إلا أن مكماهون تملص من ذلك ببراعة . وأمام إصرار الشريف حسين ، رد مكماهون في رسالته الثانية المؤرخة ب ٢٤ / ١٠ / ١٩١٥ : ( .. أن ولايتي مرسين وٱسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق .. لا يمكن أن نقول بأنها عربية بحتة وعليه يجب ان تستثنى من الحدود المطلوبة … ) وجاء في البند الخامس من نفس الرسالة ( … أما في خصوص ولايتي بغداد والبصرة فإن العرب تعترف بمصالح بريطانيا العظمى .. ) .. وكان رد الشريف حسين في رسالته المؤرخة يوم ٥ / ١١ / ١٩١٥ .. ( .. نترك الإلحاح في إدخال ولايات مرسين وأضنة في أقسام المملكة العربية المتحدة أما ولايتي حلب وبيروت وسواحلها فهي ولايات عربية محضة . ٢ – حيث أن الولايات العراقية – يقصد بها بغداد والبصرة – هي أجزاء من المملكة العربية المتحدة … ) .. ولتكون رسالة الشريف حسين الخامسة والمؤرخة اكثر من واضحة في مسألة الحدود وبالتالي تأكيده لمكماهون بأنه أرسل أحد أنجاله لحشد الجنود ( … من مواقع مختلفة أخصها أهالي البلاد وما جاورها من الأقطار العربية كحلب وجنوب الموصل ) . ولن يفوتنا الإشارة هنا الى ان كل مناهج التاريخ العربية تقصدت تخطي البنود التي ما وائمت عربية الشعب والحجر واغفلت عن ذكرها ، وهنا وحتى لا تفوتنا قضية هامة وتتمثل بلائحة المقررات التي قدمها وفد نيابي سوري ضم عشرين عضوا برئاسة هاشم الأتاسي ، وكانت اللائحة قد صدرت عن المؤتمر السوري العام أقرتها في جلسة ٢ / ٧ / ١٩١٩ وسلمت للجنة كينغ كراين في النهار التالي ٣ / ٧ / ١٩١٩ وبحضور مندوبين من / جميع مناطق سوريا الجنوبية والشرقية والغربية / حيث تلخصت المطالب العشرة بالتأكيد على الاستقلال السياسي لسوريا ونظام ملكي نيابي لا مركزي ورفض المادة ٢٢ من عصبة الأمم المتحدة الخاصة بالإنتداب .. وأكدت الأقاليم السورية الجنوبية والشرقية والغربية بالإستقلال التام للعراق والغاء كل المعاهدات السياسية التي تؤدي الى تمزيق الوطن السوري .. وخلاصة القول هنا : فأن كل الإتفاقات التي شكلت أرضية الخرائط الموسومة وفق السياقات أعلاه والتي مست شمال حلب ومتتالياتها الى الشمال الذي تلى الشرق السوري الحالي مضافا لها ولاية الموصل المشمولة كانت لمجمل كوردستان العراق ، والتي قطعت وفصلت وربطت بمآلات عديدة وفق خرائط سايكس بيكو والذي كان لكشف السوفييت لها واحدة من أكبر الإحراجات السياسية لفرنسا وبريطانيا ، إلا أن تسارع الأحداث بالترافق مع نمو حجم اطماع الدول الأخرى سيما الولايات المتحدة التي ظهرت كطرف منافس قوي من جهة وبروز توجه لعقد مؤتمر للصلح ومن ثم تشكيل مرجعية دولية – عصبة الأمم – عجلت من خطوات بريطانيا وفرنسا ، فكان مؤتمر سان ريمو الأرضية التي بها ثبت الفرنسيون انتدابهم على لبنان وسوريا والتي ضمت المنطقة الواقعة بين نهر الفرات والصحراء السورية شرقا والبحر المتوسط غربا وتمتد الى حوران جنوبا بمساحة ٦٠ ألف ميل مربع / ١٦٠٠٠٠ كم٢/ وسكان ٣ مليون نسمة وهي سوريا الكبرى ولبنان التي وصفتها عصبة الأمم وقسمت الى أربعة حكومات : حكومة حلب من منطقة الفرات الى المتوسط ، وحكومة لبنان الكبير من طرابلس الى فلسطين ، وحكومة دمشق وتضم دمشق وحمص وحماة وحوران ، ودولة جبل الدروز . وفي الجانب الآخر من تشكلات الخرائط العربية كانت هناك حالة كوردستانية موازية تقاطعت وتماست تماما سيما الجزء الكوردستاني الذي كان قد تحالف مع السلطان سليم الأول والمؤلفة كانت من ١٦ إمارة شبه مستقلة الى ان تمت تطبيق المركزية الصارمة ومعها الغاء الإمارات والحكم المباشر ولتخلق ردة فعل قوية راكمتها قضايا سابقة ايضا فاندلعت الثورات والانتفاصات الكوردية اهمها كانت / انتفاضات البدرخانيين في بوطان ١٨٤٥ – ١٨٥٥ / وثورة عبيدالله النهري ١٨٦٠ ، وثورة ابراهيم باشا المللي ١٩٠٨ وثورات أخرى مثل ثورة بدليس ١٩١٣ بقيادة الملا سليم البدليسي .. وفي العودة الى الأوضاع العامة بالتزامن مع أجواء الحرب الكونية وعلى ارضية التلاقي مع نضالات الشعوب المنضوية تحت نير السلطنة الآيلة للإنهيار ، شهدت الساحة الكوردية ايضا جمعيات وتحركات مختلفة الأهداف أخذت ترتقي مع الأحداث لتأخذ بعدها القومي ، والتي ما غابت بالمطلق خاصة بعد اتفاق سايكس – بيكو وبالتالي توزيع مناطق بين الدول الكبرى حينها ومع بدء ترتيبات مؤتمر السلام ومعها تشكيل نواة عصبة الأمم ورافقها طرح قضية كوردستان المنضوية تحت نير السلطنة ، وبعد رسم خرائط ومناطق تداخل الشعوب سيما العربية منها وفق تفاهمات فيصل – كليمنصو التي ترجمت رسائل حسين – مكماهون ، ومع إسدال الستار بصورة رسمية على نهاية الحرب العالمية الأولى ، ومن ثم التوقيع على معاهدة فرساي بعد مباحثات استمرت لستة أشهر بعد مؤتمر باريسعام ١٩١٩ والتي تمخض عنها تأسيس عصبة الأمم للرجوع اليها في الخلافات درءا للحروب ….
يتبع في القسم الثاني
…….
* كاتب كوردي من سوريا مقيم بدبي