إدريس سالم
يقول المناضل الكوردي حجي بلال: «بالاستفتاء عرف الكورد أعداءهم وأصدقاءهم، وهو ما سيرسم خارطة العلاقات والتعاونات معهم في المستقبل».
لنترك العاطفة جانباً، على الرغم من أنها تحرّك سوق التداول السياسي ويستخدمها تجّار القرارات وسماسرة الحروب في واقعنا الكوردي، ولنكن واقعيين وعمليين، بوضع كل جهودنا وطاقاتنا على مرحلة ما بعد الاستفتاء، الذي أثبت نجاحه وفعاليته «الاستفتاء كان درساً في النضال والسياسة لأبناء الصفويين والعثمانيين»، بنسبة مشاركة تخطّت 72.16% في عموم إقليم كوردستان،
فالمصوّتون بنعم بلغ نسبتهم 92.73% أما الذين صوّتوا بلا فكانت نسبتهم 7.27%، لأن أسهم البورصة الكوردستانية ترتفع وبقوة في سوق التداولات السياسة الدولية والإقليمية، خاصة وأن الذين ندّدوا في الأمس بجثّة سايكس – بيكو المعفّنة وضرورة طمرها في الأرض، ها هم اليوم بسنّة وشيعة وعلوية المعسكر الرباعي يغسلونها بدعواتهم الهادفة إلى بناء أدوات إرهابية أخرى لشعوبهم وللكورد أيضاً، إلا أنهم أخفقوا في إزالة رائحة العفونة القذرة منها، ولن يستطيعوا إحياءها من جديد.
إن المرحلة القادمة من حياة إقليم كوردستان هي مرحلة المفاوضات مع بغداد والدول الإقليمية، بعد انتهاء حقبة علاقات دولة مع إقليم فيدرالي مرتبط بحكومة مركزية، وبناء علاقات دبلوماسية جديدة بين دولتين جارتين «بناء الدولة الكوردية في هذا التوقيت فيه مصلحة لدول الشرق الأوسط، المقتتلة فيما بينها بحروب دموية وصراعات طائفية»، وهذه المفاوضات ستتمحور حول ملفات الحدود والنفط والغاز والمياه والمناطق المتنازعة عليها «كركوك لن تكون خارج خارطة الدولة الكوردية» وعلاقات ثنائية بين دولتين جارتين، وعلى بغداد أن تقبل بالحوار وبنتائج الاستفتاء، وتتوقف عن خطاب التهديد والوعيد، وعن حربها الإعلامية الكريهة، وقراراتها الجائرة التي تضرّ بأمنها واستقرارها «الاستفتاء هي إرادة شعب، وليس قائد أو حزب أو عشيرة كما يتصوّره البعض»، لأنها تصبّ في مصلحة العراقيين.
من ناحية أخرى، على حكومة بغداد أن تصبّ كل جهودها في التخلص من آثار فاجعة سيطرة تنظيم داعش على نحو ثلث أراضيها، وتعيد ثقة الشعب بجيشها، وتجدّد من هيكلية برلمانها المفسد إيرانياً، بحيث يؤمّن هذا البرلمان حياة سياسية صحية لشعبها، ويوصّلهم إلى عراق ديمقراطي مدني مفصول فيه الدين عن السلطة، وتعمل على تعديل دستورها بما يتوافق مع مكوناتها المتبقية، وتطبقه على الجميع، لا تنتهكه ضد شعبها وتشرعنه لأجل حلفائها، وتقضي على أزمة الفساد التي يندر مثيله في العالم، وتضع حدّاً للتدخلات الإيرانية المباشرة في شؤونها الداخلية والخارجية، بدل زرع مزيداً من الفتنة والكراهية في عقول شعبها، وبتحريك قواتها الجوية ضد شعب عريق قرّر أن يكون سيد نفسه «كوردستان ترفض وصاية الطائفيين ومنتهكي حقوق الإنسان».
في الوقت الراهن العراق بأشدّ الحاجة لأصوات عراقية حكيمة «هل ستتخلّص بغداد من طهران وأنقرة اللتان تحركانها لحماية مصالحهما فقط؟» لحسم كيفية تعايش دولة تجاه دولة أخرى، وليس دولة داخل دولة كما يروجه الساسة العراقيون، وترسم طريق دبلوماسي متزن للانفصال، والاعتراف بتغيرات المرحلة الجديدة القادمة، وتبتعد عن إصدار قرارات طائفية قد يصعب معالجتها لاحقاً، فتحديدها للخيار العسكري لن يجلب لها إلا مزيداً من الدماء والدمار، وتفكيك جغرافيتها لصالح الشيعة، الذين يتربّصون بالسنّة.
مقابل ذلك، هناك أصوات عربية من أبناء معرّبي كوردستان ترى إلى أن انفصال إقليم كوردستان عن العراق، وإعلان الدولة الكوردية سيؤدي إلى تغيّرات كبيرة وخطيرة، من شأنها أن تضعف الواقع العربي المفتت بشكل أكبر، لصالح تقوية كل من إيران وتركيا وإسرائيل «العراق – بعد الاستفتاء وقريباً الاستقلال – ستقبل بالعيش مع جارتها الجديدة رغم الأجواء والظروف المشحونة والمناهضة لقيام هذه الدولة، التي وعدت بأنها ستؤمن حقوق الشعوب الأخرى ضمن حدودها، وستفي بوعدها»، وأنه يجب الوقوف ضد هذا الانفصال ومحاربته بالتدخل العسكري أو بالحصار الاقتصادي، ولكن هذه الأصوات التي تنطلق من قاعدة الفكر البعثي والشيعي لا تدرك أن هذا التفتت كان نتيجة لسياسات حكّامها وحكوماتها المضطهدة لحقوق الإنسان، التي همّها الأول والأخير ملء بطونها وبطون مَن يدعمها، ليبقوا أطول مدة زمنية ممكنة في سدّة الحكم.
ربما هذه الأصوات العربية، ومعها النباح الدولي المزدوج سنراها في المستقبل تثني على دور الدولة الكوردية وأهميتها في نشر الأمن والاستقرار في المنطقة، وتمدح مساهمتها في القضاء على بؤر الإرهاب والتنظيمات المتشدّدة والطائفية، وتأكيداً على ذلك يقول الأكاديمي والباحث الكوردي محمود عباس “قريباً ستبدأ الدول العالمية بإعلان تأييدها لنتائج الاستفتاء الكوردي، وستلحقها بعض الدول الإقليمية، ومن بينها المعترضة حالياً”، وهذا دليل على أن بناء الدولة الكوردية في هذا التوقيت سيكون عامل استقرار وسلام لمنطقة الشرق الأوسط، بعد أن كان الكورد بقلمهم وبنادقهم عامل فعّال في محاربة آلة الإرهاب، في كل من سوريا والعراق.
على هذه الأصوات أن تعلم أن شكل الدولة الكوردية القادمة لن يكون كما في نظام الإقليم السياسي الراهن بطبيعته العملية، أي تقسيم السلطة بين الحزبين الرئيسيين “الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني”، فالتلاحم الشعبي والتوحّد السياسي أثبتا فعاليتهما في يوم الاستفتاء، عندما توجّه زعماء وقادة الأحزاب الكبيرة في الإقليم، بما فيهم قادة حركة التغيير والجماعة الإسلامية «حتى لو صوّتوا بِـلا» إلى مراكز التصويت للمشاركة والإدلاء بأصواتهم بشكل ديمقراطي، وعلى قادة العراق أن يستفيدوا من تجربة الاستفتاء، ومن سياسة الرئيس مسعود بارزاني وتجاربه السابقة «على العراقيين أن يدركوا أن نجاح الاستفتاء لا يعني أنه انتصار عليهم!»، علّهم يتقدموا بالعراق نحو الأمام لا للخلف، وأن يديروا ويحكموا أنفسهم بأنفسهم، لا أن يديرهم القم الإيراني والسلطان العثماني المغرور.
أخيراً..
إن الحدود الدولية المصطنعة ليست مقدّسة ولا دائمة، كما تعتقده الدول المحتلة لكوردستان، ولا تتطلّب التضحية من أجل إبقائها، فتركيا وإيران والعراق رفعوا الخيار العسكري «لماذا لا يرفعون الخيار العسكري ضد إسرائيل، على اعتبار أنها تحتل فلسطين كدولة سنية، وتمارس بحقها شتى أشكال القمع؟»، لإحياء جثة اتفاقية سايكس – بيكو المعفنة، وللوقوف في وجه إرادة الشعب الكوردي، وهذا الخيار مجرد عنتريات فارغة في مضمونها ومؤقتة في شكلها، ويجب عليهم احترام إرادة هذا الشعب ورغباته في التخلص من مجازرهم وديكتاتورياتهم، وأن قوتهم العسكرية لا تستطيع فرض الوحدة على الشعوب بالضد من إرادتها الصارمة، ومثل هذه الوحدة الهشة ستنهار وتختفي مهما طال عمرها، فتركيا تناور عسكرياً وتهدد إعلامياً «تخبّطات أردوغان سترمي بتركيا إلى التهلكة السياسية» لكنها تخشى أن تفقد أهمية الكورد سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فيما إيران الغاضبة أمام الرأي العام والسعيدة تحت الطاولات تعتبر الاستفتاء فرصة لتعزيز موقعها في بغداد، وتعزيز دور المليشيات الشيعية المرتبطة بإيران «قريباً.. تركيا وإيران ستتنافسان في الحصول على أكبر العقود التجارية والمشاريع الاقتصادية مع الدولة الكوردية الوليدة»، أما العراق فغارق في مشاكله ومنهمك في حروب استعادة كرامة جيشه وشعبه.
في نهاية المقال، ولكوني كوردي، ويهمني قضية تحرير الجزء الذي أنتمي إليه من براثن النظام السوري البعثي، والتحاقه وتوحيده بالجزء الذي يستفتي اليوم على مصيره واستقلاله، لا بدّ لي في نهاية كل مقال أكتبه أن أوجه ندائي لقادة وسياسيي الحركة الكوردية في غربي كوردستان، وأهمية أن يتعلّموا من الدرس والموقف التاريخي الذي قدّمته القيادة السياسية في إقليم كوردستان، بوضع الخلافات السياسية والصراعات الحزبية جانباً، والوقوف معاً في حدث الاستفتاء التاريخي، وضرورة أن يكتمل بالنجاح، ويعيدوا النظر في مشاريعهم المستقبلية وعلاقاتهم مع الأطر السورية، ومواقفهم من قضايا الساعة، وخطابهم الإعلامي والثقافي، لأنّ الخطر الذي يواجهه الشعب في غربي كوردستان هو نفسه الذي يواجهه جنوبي كوردستان، ولتوسيع نجاح مكسب الاستفتاء «مَن يراهن على أن استفتاء إقليم كوردستان شأن خاصّ بهم، فإنه يعيش في دوّامة مظلمة، ولن يخرج منها طالما تفكيره متمرّس بهذا الشكل» وإيصاله إلى الجزء الغربي عليهم أن يكثّفوا طاقاتهم وجهودهم، ويوسّعوا صدورهم، وأن يكونوا أكثر حكمة وصبراً لترتيب وتوحيد الخطاب السياسي، وتخليصه من حالة الجمود والإقصائية والتحزبية العمياء، والأهم ضرورة ولادة مسعود بارزاني آخر في غربي كوردستان، ليكون الحامل السياسي الجامع لتطلعات كورده.
كاتب وصحفي كوردي