الصراع الحالي في العراق وكوردستان

جان كورد 
لا يستطيع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، التكلّم بحرية في بغداد لأن للجدران آذان، بل آذان إيران حوله في كل مكانٍ، وملالي طهران هم الذين فرضوا عليه الهجوم على إقليم كوردستان، فكان لا بد له من إيجاد بقعةٍ يتمكن فيها الإفصاح عن موقفه للعرب الذين لا زالوا يعتبرونه “عربياً” إلى حدٍ ما، وللحلفاء الأمريكان الذين رغم أنهم أداروا ظهرهم للكورد وعاقبوهم بعصى بغداد لخروجهم عن الطاعة وإصرارهم على إجراء “استفتاء استقلال كوردستان”، إلاّ أنهم (الأمريكان) ليسوا أغبياءً لدرجة أن يتركوا العراق العربي والعجمي (الكوردي) كله، بنفطه وغازه وسوقه العظيمة وموقعه الاستراتيجي لأعدائهم في طهران. والعبادي يدرك ذلك تماماً، ويعلم أن البقعة الوحيدة في العالم التي يمكنه فيها أن يطلق العنان للسان، هي عاصمة المملكة العربية السعودية، التي توفر له الحرية والأمان في أن يقول ما كان يخاف منه في المنطقة الخضراء في بغداد. ونقول “أعدائهم في طهران” لأن الخمينيين أعلنوا بشكلٍ صارخٍ وفاضح عن هذا العداء منذ اللحظة الأولى لسيطرتهم على الحكم في إيران في عام 1979 وإلى الآن.
وهنا يجدر القول بأن العبادي متفق ضمناً على ما نشر باسم السيد تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكية بصدد انسحاب ميليشيا إيران التي تدعم المالكي أكثر منه، وحل المشاكل مع الإقليم الكوردي دون أن يوشوش له من خلف أذنيه عملاق طهران، قاسم سليماني، إلاّ أنه قد يرغم على الانتحار حال عودته إلى بغداد وهو يحمل مشروعاً لإنهاء الأزمة فرضه أو لم يفرضه تيلرسون ولا العاهل السعودي، الذي يجد الكورد إخوة له في العقيدة وأقرب إليه مذهبياً من شيعة العراق.
أما الذي لم يحدث في اجتماع الرياض هو غياب الممثل الشرعي للكورد، إذ بحضوره كان بالإمكان اختصار الطريق إلى السلام، ولكن يبدو أن ثمة أسرارٍ ما كان يريد العبادي الإفصاح عنها أمام الكورد الذين صاروا ينظرون إليه كعدوٍ تابعٍ لعدوٍ أشد. إلاّ أن صيغة المطالب الأمريكية من العبادي تؤكّد على أن الأمريكان جادون في أمرين:
-حل المشاكل العالقة بين الحكومة العراقية وإقليم كوردستان وفق الدستور العراقي وبتنفيذ مواده، مثل المادة 140 ونشر قوات حلفاء في “المناطق المتنازع عليها” إلى حين تحقيق الأمن والاستقرار فيها.
-طرد كافة الميليشيات الإيرانية من العراق، وهذا يعني انهاء النفوذ الإيراني بسرعة.
وقد يكون تحقيق المطلب الأول سهلاً بالنسبة إلى حكومة العبادي ورئيس العراق وأحد نوابه على الأقل ورئيس برلمانه، إلاّ أن تحقيق المطلب الثاني صعب للغاية، والعبادي بصدد ذلك إماّ أن يستقيل أو أن يرفض حتى لا تتخلّص منه الأيادي الخانقة لطهران. 
ما أفسد على السيد العبادي التمتّع بجولته الإقليمية التي تحدّث فيها عن انتصاره على “الخارجين على الدستور” هو طرح الكورد من طرفهم مشروعهم الذي يتألف من 3 نقاط هي (وقف القتال بين قوات البيشمركة والجيش العراقي وميليشيات الطائفة، تجميد وليس إلغاء العمل بموجب الاستفتاء على الاستقلال الكوردي، رغم أن الاستقلال حق مشروع لكافة الشعوب حسب ميثاق الأمم المتحدة الذي وقّع عليه العراق أيضاً من قبل، والدخول في حوارٍ بدون شروط مسبقة على أساس الدستور العراقي الذي لم يعد ملزماً للشعب الكوردي بعد إقدامه على اختياره الاستقلال بمحض إرادته)، فالعالم الحر الديموقراطي وقف ضد الاستفتاء لأنه يفتح الباب أمام عدة شعوبٍ في العالم ومنها ما هو في دول الاتحاد الأوربي لاستخدام ذات الحق الدولي والديموقراطي، إلا أنه لا يمكنه رفض العرض الكوردي الطوعي الذي يمكن أن يُبنى عليه سلامٌ حقيقي في العراق حالياً، وهذا ما يحتاج إليه المجتمع الدولي الذي يريد الخروج من دوامة الأزمات الشرق أوسطية. فالعبادي الذي وجد نفسه منتصراً في هجومه الواسع على المناطق المتنازع عليها، عاجز عن طرح أي بديل عن التهديد باستخدام القوة العسكرية، غير قادرٍ على الخروج عن طاعة دولة “ولي الفقيه” التي تفرض عليه سياساته المختلفة،  فجاء الطرح الكوردي كحبل إعدامٍ له، إما أن يقبل به وبذلك يضمن استمرار الدعم الأمريكي لبقائه في الحكم، ودعم الكورد له في البرلمان الاتحادي ومستقبلاً بعد الانتخابات التشريعية القادمة في العراق، ولكنه في هذه الحال يخسر دعم طهران له واحتمال إقدام أتباعها على الإطاحة به في ليلة وضحاها، وإما أن يرفض العبادي ما طرحه الكورد وهو الذي يزعم أنه مع السلام والحوار وضد الحرب، ويتغنى بدستورية حراكه الدموي في كوردستان، وبذلك يضمه المجتمع الدولي إلى فريق طهران الموصوف بدعم الإرهاب في المنطقة، فيخسر دعم الكورد له عراقياً ودعم الأمريكان له عسكرياً، وهنا يجد المراقبون الأذكياء أن القيادة الكوردية التي بدت مغلوبة على أمرها، قد رمت بالكرة في مرمى بغداد، وستخرج من هذه المباراة الدموية منتصرة ومدعومةً دولياً.
في هذه الحال، فإن الصراع المحتدم بين الإدارة الأمريكية ودولة ولي الفقيه قد يتحوّل قريباً إلى حالة حرب، بسبب محاولة السيد ترامب إلغاء الاتفاقية النووية وتقزيم الدور الإيراني في رعاية الإرهاب في الشرق الأوسط والعالم، والحكومة الإيرانية ستسعى بالمقابل لفرض هيمنتها التامة على العراق وكوردستان من باب “الهجوم الاستباقي” وهي التي سهرت لعقودٍ طويلة على “توحيش” أمريكا وإسرائيل وغرست أفكاراً إرهابية هدامة في عقول الأطفال الإيرانيين الذين صاروا شباباً الآن، يمكن تحويلهم إلى وقود للحرب. 
وبديهي أن هذا الصراع قد نشأ من قبل أن يفكّر الكورد في الاستفتاء من أجل استقلالهم، وليس كما يزعم بعض تجار السياسة بأن “الاستفتاء” فتح باب المخاطر للكورد، إذ معلومٌ تماماً أن الخمينية منذ بداية عهدها حملت شعار “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل” وها هو أكبر الرؤوس في إيران يعترف بأن بترول كركوك في هذا الصراع الكبير ضروري لبلاده ووقوعه في أيدي أعداء إيران فيه خطر كبير، ناهيك عن الشعارات التي يطلقها زعماء الحشد الشعبي الذين لهم أهدافٌ أبعد وأعمق مما يظن هؤلاء التجار وينشرونه بين الناس.
الأمريكان يسعون لاقتناص أكثر من 300 مليار دولار من إيران لأنها حسب المحاكمات الجارية في أمريكا مولوا إرهاب ال11/9 على الولايات المتحدة، وللإيرانيين أيدي في عمليات إرهابية عديدة ضد المصالح والشخصيات الأمريكية، وخطرها على إسرائيل يتفاقم، والضغط في مجال الاتفاقية النووية هو أحد أسلحة السيد ترامب الحادة للوصول إلى ذلك المال الكثير، وإلاّ فإنه سيجرّد سيفه من غمده، وتتحول المنطقة إلى كومة قش تلتهما ألسنة اللهب.
يبدو أن الموضوع الكوردي برمته ليس إلاً ساحة معركة جانبية في مجمل الصراع الأمريكي – الإيراني، ولذلك تحاول أوروبا من جهة وروسيا والصين من جهةٍ أخرى تخفيف حدة التوتر ونزع فتيل الشر، وإقناع الولايات المتحدة بأن الغرب كله سيتضرر في حال اندلاع حرب أمريكية – إيرانية، وستلتهب منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وإسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي، وهي خائفة من أن تباغتها الصواريخ الباليستية لإيران وصواريخ حزب الله الذي على حدودها الشمالية.
بالتأكيد، ستقف دول عربية عديدة، وفي مقدمتها العربية السعودية، إلى جانب الولايات المتحدة لأن إيران تشكل لها خطراً مستديماً ولأنها تتعرض لتهديدات طهران وتتلقى منها هجمات إرهابية بتسليح الجماعات المعادية للرياض وبدعم قوات الحوثي في اليمن رغم انكساراته المتتالية ومحاولة زعزعة الاستقرار في دول الخليج. 
لذا، على القيادات الكوردية أن تتفّق جميعاً على الوقوف مع المحور الأقرب إليها استراتيجياً والذي من الممكن التعامل معه على المستقبل البعيد، وحتى الآن، منذ قرونٍ طويلة، يعلم القاصي والداني أن محور إيران في المنطقة لن يكون في الحاضر أو في المستقبل صديقاً للشعب الكوردي، مثلما لم يكن في التاريخ كله، والذين التحقوا من الكورد بهذا المحور الطائفي الدموي الناكر لحق أمتهم في الحرية، سيجدون أنفسهم خاسرين، مثل الذين تعاونوا مع الكماليين في عشرينيات القرن الماضي وكانت نتيجتهم الإعدام وسط ازدراء الجلادين لأنهم خانوا أمتهم ولا يمكن أن يكونوا موضع ثقة من أعدائهم
  27/ 10/  2017

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…