ابراهيم محمود
لا تعاني الذاكرة الكُردية الجمعية عموماً، من قصور في مدّ الباحث بكم هائل من المفردات ذات الصلة باستباحة الآخر، أو النيل منه، أو تقريعه، أو التعريف به بصورة نافية لكل اعتبار له. أحسب أن مسعود بارزاني، وأسمّيه باسمه، وهو معروف بموقعه السياسي والوظيفي حتى الآن، أحسب أنه في موقع لا يُحسَد عليه، فهو مرصود حتى- ربما- من بعض، أو أكثر من الذين كانوا يجاورونه عن قرب فيما قام به، وتحميله كل أوزار ” الأمّة ” الكردية ومآسي الراهن.
مسعود بارزاني مهزوماً! يا لها من هزيمة تاريخية لم يحسَب لها أي حساب. تبعاً لأي حساب قدّرت هذه الهزيمة؟
في مقدور أي كان أن يقول فيه ما يعتبر صواباً، لأن الرجل بات في وضع، يثير حتى شهية من لا شهية له جهة اتهامه بمآل الإقليم، وربما أبعد من ذلك في العودة إلى الوراء، وإسناد أوجه الخلل وحتى الفساد إلى سلطته ومسئوليته عنها.
أتكلم، وأنا في دهوك، أكتب هذا المقال، وأنا أعمل في مركز بحثي بجامعة دهوك، من باب سعيي إلى التعبير عما يجري، انطلاقاً من تواجدي في الإقليم، أنوّه إلى ما أعتبره حقيقة مركَّبة، وهي أنه من الممكن مساءلته عما جرى ويجري، ووفق أي حسابات تكتيكية، استراتيجية أقدم على طرح فكرة الاستفتاء، مع من شاور وحاور وناور؟ أي رصيد قوة احتياطي كان يرتكز إليه في مسعاه هذا؟ كيف أجاز لنفسه أن يقدِم على عمل كهذا، وتكون” النتيجة ” التي لا أظنه كان يريدها أو يتمناها، هي هذه التي لا تخفي عن الناظر إليه صدمته التاريخية وربما غير المسبوقة، ذكَّرته ربما بكل الانتكاسات وخيبات الأمل التي أعقبتها سابقاً، وأكثر وأكثر، لأنها صدمة على صدمة، أكان يتوقع خاتمة غير ” سعيدة ” كهذه؟
كثيرون نحَّوه جانباً، ونظروا إليه باعتباره الواحد ” الأحد ” السياسي والمقرّر لما جرى دون أي كان، تحت وطأة فكرة أن هناك شخصاً، فرداً ما على مستوى السلطة يعنى بأمر البلاد والمجتمع. سوى أن الموضوع أبعد من ذلك، أي في هذا التوجه الأحادي الجانب. تُرى لو أن ما خطط له حقق ما كان يريد، كيف كان ينظَر إلى الرجل؟ البطل التاريخي الاستثنائي بامتياز. وهو أيضاً تقدير مبالغ فيه، إذ الحقيقة هنا لا تقرَّر بهذا الشكل: ما يقابل البطل التاريخي بامتياز: المهزوم التاريخي بامتياز. ثمة خطأ في الحالتين، لكنه خطأ تربوي واجتماعي وسياسي وثقافي، لا بد أن نسبة كبيرة من المعنيين بالتربية العقائدية في المجتمع، بدءاً بالحزب، وانتهاء بالمحيطين به، تتحمل مسئولية كهذه. إذ في الجانب الآخر بالمقابل، ثمة ما ينبغي النظر فيه على أنه امتداد لهذه الحقيقة، أو مكوّن من مكوناتها، وهو: أإلى هذه الدرجة يستحق العبّادي البغدادي شرف نيل بطولة، وهو المأخوذ بسلطة ولاية الفقيه؟ أم أن هذا الشرف يستحق تنسيباً إلى أردوغان أم إلى قاسم سليماني؟
سيقال كان يجب التفكير في هذه القوى وأبعد منها إقليمياً وعالمياً، سيقال كان يجب حساب القوة الداخلية غير المتماسكة، الداخل المنقسم على نفسه، سيقال وسيقال….الخ، ذلك ما يمكن الانتباه إليه، إنما إلى أي مدى يمكن وضع مسعود بارزاني في خانة تحميله المسئولية كاملة عما جرى، وإخراجه من التاريخ بالطريقة هذه؟
ثمة خسارة تسبب نكسة، فجيعة، كارثة ما صدمة محيطية أحياناً، تؤدي إلى تصدع البنيان النفسي والذهني للمعني بها، ذلك صحيح، إنما فيما إذا كان هذا ” الكيان الكردي: العضوي ” بالصورة السليمة التي يُنظَر إليها، أن محمّل المسئولية سليم الجسم والنفس، فيما كانت الخسارة تحسَب بهذه الشاكلة، دون التفكير في تداعياتها وحتى مردودها الإيجابي فيما بعد، فيما إذا كانت ” الهزيمة ” المقرَّرة معزّزة في تعرية قطعية دون السؤال عما يكتشَف في الجوار، ما يخص المعرفة المتعلقة بكل هؤلاء الوجوه من الخصوم والأصدقاء، والتداخل فيما بينهم، ما إذا كانت الهزيمة هزيمة بالفعل، إلا لمن يقيّم كل ” وقعة / سقوط ” موتاً زؤاماً، أو اندحاراً على مستوى الأمة، والدفع بالأعداء إلى أن يرفعوا أقداح أنخابهم على نعي ومن ثم حِداد وبكاء وعويل وندب مجتمعي كهذا، ما إذا كان الذين كانوا حتى الأمس القريب جداً يهزون أجسامهم ويهللون ويرقصون ويهتفون عالياً، ثم ينقلبون، لأنهم لا بد أن يبحثوا عن كبش فداء سمين، شحيم، لحيم تليق بوقعة كهذه، بقدر ما تتجاوب مع تقييمهم القطعي لهزيمة رجل، ليس أياً كان بالطريقة هذه.
فيما كان كل هذا الاستخفاف، والسخرية، والاستهجان الجانبي في محله، دونما مد النظر إلى الذين يشمتون حتى بالذين لم يدَّخروا جهداً للتمهيد لهزيمة فاضحة كهذه، وبالذين لا يدركون أن شماتة الأعداء ” الغالبين/ المنتصرين ” تشملهم بالمقابل، أم أن مناقبية الذاكرة الكردية الخاصة علّمتهم كيف يبرؤون أنفسهم كما يشتهون، وازدواجية وضع كهذا.
جائز لي أن أسائل مسعود بارزاني ومن معه، في أعلى سلطة قيادية في حزبه، ومن حوله، عما جرى، جائز لي أن أضع كل ما جرى نصب نظر تحليلي وانتقادي، بطريقة تدفع برجل هو مسعود بارزاني، والذين يعرَفون بمواقعهم السياسية والحزبية في الإقليم من ” فايدة ” على مشارف الموصل، إلى ” حاج عمران ” على مشارف إيران، إلى التفكير فيما جرى، والتفكير بحقيقة ما كان وما سيكون طبعاً، لأن التداعيات لما تزل قائمة، بحيث تشعِره كما تشعر سواه بقسط ما من هذه المسئولية، ومراجعة ما كان، إذ لا أسوأ في مساءلة الآخر من أسلوب التهكم، والتهكم ذو نسَب عدواني غالباً .
دهوك- في 23-10/ 2017