د.أحمد محمود الخليل
في 1 تموز 2016، نشرنا مقالاً بعنوان (اتفاقية أَضَنة الثانية قادمة.. فما العمل؟)، وتقتضي الأحداث الخطيرة الجارية والقادمة، وخاصة مؤتمر سوتشي القادم، أن نعود إلى الموضوع ثانية، ومعروف أن تركيا وسوريا عقدتا اتفاقية أضنه سنة 1998، لمحاربة حزب العمال الكُردستاني، وذكرنا حينذاك، وفي مقالات أخرى، أن تركيا أنتجت الجماعات الإسلامية الإرهابية لضرب مسيرة التحرر الكُردية في جنوبي وفي غربي كُردستان، واستأجرت المعارضة البعث – إخوانية السورية، وجادت على أقطابها بالأموال لهذا الهدف.
السُّلوقي والصَّيدة:
لكن بعد فشل وكلاء تركيا في تحقيق الهدف، وعجزِ (السُّلوقي) عن الإمساك بـ (الصَّيدة)، شرعت تركيا تقترب من النظام السوري، وتنسّق معه ضمناً من خلال إيران وروسيا بطبيعة الحال، والملاحَظ أن عنتريات أردوغان وبن علي يلدرم ضد الرئيس الأسد وضد النظام السوري شرعت تخفّ رويداً رويداً، وها هي قد غابت تماماً منذ حوالي شهر وربما أكثر، وباتت تركيا تتحدّث عن (الحل السياسي).
وفي المستقبل غير البعيد ستعود العلاقات بين النظام في تركيا وسوريا كما كانت، في البداية من تحت الطاولة من خلال إيران وروسيا، ثمّ ستكون بشكل صريح، وإن قيام تركيا باحتلال المنطقة بين جرابلس واعزاز، واحتلال منطقة إدلب المتاخمة لعفرين من الجنوب الغربي، له هدفان رئيسان:
1 – ضرب مشروع (خانقين- عفرين)، ثم البحر المتوسط، وحصار عفرين.
2 – اتخاذ هذه المناطق ورقة ضغط في مفاوضات (الحل السياسي)، والتوصل مع الثلاثي (إيران، روسيا، سوريا) إلى اتفاقية جديدة، لا تكون مهمّتها فقط التنسيق بين تركيا وسوريا لمحاربة حزب العمال الكُردستاني أو حزب الاتحاد الديمقراطي، بل أيضاً لضرب أي مشروع يمكّن الكُرد من الحصول ولو على الحكم الذاتي.
شيفرات سياسية:
إن التصريحات التي يطلقها كبار المسؤولين في تركيا بين حين وآخر، بأنهم لن يسمحوا بقيام (دولة كُردية) على حدود تركيا من الجنوب، وكذلك التصريحات التي أطلقها بعض كبار المسؤولين في النظام السوري بأنهم سيسترجعون الأراضي الواقعة تحت نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، هي في الواقع شيفرات سياسية يتبادلها الطرفان بأنهما متفقان ضد العدو المشترك (الكُرد).
وبتعبير آخر: إن اتفاقية أضنه الثانية باتت على الأبواب، وستكون مباحثات سوتشي القادمة مقدمة لصياغة بنود تلك الاتفاقية بمهنية عالية، ولن تجد تركيا صعوبة في تحقيق الهدف، ودعونا نفصّل بعض الشيء.
مصالح وأولويات:
أولاً: النظام السوري وحليفته إيران مستعدّان للمقايضة، أقصد أن تتخلّى تركيا عمّا تبقّى من المعارضة البعث إخوانية، وتوقف دعمها اللوجستي عنهم. وبالمقابل يستخدم النظام السوري حقه القانوني الدولي، وتحت مظلة هيئة الأمم المتحدة، في بسط سيطرته على كامل المناطق الكُردية ضمن الدولة السورية.
ثانياً: المعارضة البعث إخوانية باتت مفكّكة، وهي في النزع الأخير، بسبب تمزّقها بين أتباع المحور السعودي وأتباع المحور التركي، وشرع بعض أقطابها يستقيلون (رياض حجاب، ورياض نعسان آغا)، وعدا هذا فإن المعارضة البعث إخوانية، من القمة إلى القاعدة، كانوا – وما يزالون – أكثر حماساً من النظام السوري نفسه لحرمان الكُرد من الحقوق القومية.
ثالثاً: روسيا لن تغامر بمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية المهمّة جداً مع إيران وتركيا وسوريا كُرمى لخاطر الفيدرالية الكُردية أو الإدارة الذاتية الكُردية.
رابعاً: أمريكا، سبق أن كرّر الرئيس ترامب مراراً شعار (أمريكا أولاً)، ولن تتخلّى عن مصالحها مع روسيا وإيران وتركيا وسوريا كُرمى لخاطر الكُرد، وإن الدرس الذي لقّنته لقادة الكُرد في إقليم الجنوب ما زال حيّاً في الذاكرة، وأعلن بعض كبار المسؤولين الأمريكان أن الأولوية هي لمحاربة داعش، وليست للانشغال بمشاكل المنطقة، ونعتقد أن روسيا وإيران وتركيا سترحّب بتقاسم الكعكة السورية (آبار النفط والغاز، ومشاريع إعادة التعمير) مع أمريكا، ولا ننس أن الرئيس ترامب هو خرّيج (ثقافة البزنس)، وإن لوزير الخارجية السيد تيللرسون خبرة في مجال شركات النفط والبزنس أيضاً.
الانشطار الكُردي:
والأكثر خطورة من هذا كله هو الانشطار الكُردي- الكُردي، وخصومات (تف – دم) و(أنكسا)، وإلى الآن، ومع أن منصة إعدام الحقوق الكُردية في غرب كُردستان (شمال سوريا) تُعَدّ بسرعة وبحِرَفية، لا توجد مؤشّرات على أن الفريقين المتخاصمين قادران على ردم الهوّة بينهما، وتشكيل فريق واحد موحَّد، للدفاع عن حقوق الكُرد، وليس هذا فحسب، بل نخشى أن يوقّع طرف ما منهما سراً اتفاقية ما مع المحور (الإيراني- التركي)، ويقدّم تنازلات على حساب الحقوق الكُردية، كي يُلحق الهزيمة بالطرف الآخر، تماماً كما حدث يوم 16 أكتوبر الماضي في كركوك.
والخلاصة أن المشهد السوري عموماً، والمشهد الكُردي خصوصاً، شديد التعقيد، بل هو مشهد استثناني، وبحاجة إلى مواقف كُردية استثنائية للخروج من المَوْلد ببعض الحمّص على الأقلّ (حقوق قومية في السلطة والثروة والثقافة)، وعدم الرجوع إلى صيغة (الإدارة المحلية) السابقة.
صوت المستقلين:
وهنا المطلوب أن يرتفع صوت الكُرد المستقلّين بجميع أطيافهم (مثقفون، إعلاميون، رجال دين، رجال أعمال، ناشطون، إلخ)، وينبغي أن يُجلجل صوتهم بقوة في آذان السادة في (تف-دم) و(أنكسا)، ويُلزموا هؤلاء السادة بتوحيد الموقف والمشروع الكُردي قبل فوات الأوان، إذ ليس من المقبول أبداً أن يُقدّم ساسة الكُرد مصير الشعب الكُردي قرباناً على مذبح أجنداتهم الحزبوية، ويتمترسوا بعدئذ خلف الأعذار الواهية، ويُشغلوا الشعب الكردي بتُهم التخوين.
وكي يكون دور الكُرد المستقلين في غربي كُردستان قوياً ومؤثّراً، ينبغي أن يبادروا إلى التواصل والتنسيق، وتكوين نواة مرجعية كُردية وطنية ذات مصداقية، تنطلق من رؤية واقعية براغماتية، وتأخذ الظروف الذاتية والإقليمية والدولية بالحسبان، وتقوم بدور التقريب بين (تف-دم) و(أنكسا)، وتقديم المشورة، وتصحيح المسار، وإلا فإن (قِنّ العبودية في صيغة الإدارة المحلية) ينتظر الجميع.