د. محمود عباس
قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
حول كردستانية الجزيرة:
1. يذكر الكاتب في الصفحة (823) ” وباندلاع حركة الاحتجاجات السورية في شباط/فبراير –آذار/ مارس 2011 تدخل الحركة الكردية السورية في مرحلة تطور جديد ما تزال في قيد التكوين وتراوح اتجاهات الأفكار فيها بين حقوق الشعب الكردي السوري بوصفها جزءاً من حقوق الشعب السوري السياسية والاجتماعية، وبين الاعتراف الدستوري به كقومية ثانية، وبين أفكار ” مشوشة” تنوس بين اللامركزية الواسعة و” الفيدرالية” وما دعي ب “حق تقرير المصير”.)
لا شك هنا يظهر واضحا بأنه يستند في عرضه لأجزاء من أدبيات الأحزاب وتحليله لنهج الحركة الكردية السياسية الحديثة على منطق الأسد والبعث من حيث التطبيع، وحصرهم ضمن بوتقة شريحة من النسيج السوري العربي، وعلى أن قضية الشعب الكردي في كردستانه الجنوبية الغربية المحتلة سورياً، يجب ألا تتجاوز التمييز الاجتماعي، معتبرا بأن الغبن الذي حصل لا علاقة له بالتمييز العنصري، والصراع السياسي، كان على حق المواطنة! ملغيا هنا مسيرة التاريخ، وكردستانية الجزيرة، وعارضا سوريا وكأنها دولة كانت بهذا التقسيم الجغرافي منذ ما قبل غزوات القبائل العربية الجاهلة، ومتناسيا أن مطالب الشعب الكردي بعد تقسيم كردستان واحتلالها من قبل الدول الأربعة، تختلف ما بين الواقع، والمطروح على الساحة السياسية حسب الظروف ومتطلبات المرحلة. فالأساليب الحديثة والمسلك الجديد في التعامل مع القضية الكردية ضمن سوريا، تظهر من خلال ما يعرضه الكاتب في الصفحات المذكورة، وهي ما تتبناه وتركز عليه الحركة العروبية الحديثة، المدعومة من قبل (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات القطرية) والتي جندت العديد من أمثال محمد جمال باروت وعزمي بشارة وغيرهم، وبينهم العديد من الكتاب والباحثين الذين كانوا سابقا في خدمة البعث السوري والعراقي. وعرضه المذكور بالصيغة التشكيكية، له منها غاية، مع ما فيها من شبه تعجب، حول الانطلاقة الكردية بعد الثورة السورية، متهما وبشكل غير مباشر الكرد وبمقاييس العروبيين العنصريين بالخروج من الحيز الوطني، المصطلح الذي لم يكن له وجود يوماً، ولن يكون ما دام القوميين العنصريين العروبيين يتحكمون بمصير المنطقة. وقد بحث في هذه القضية العديد من الكتاب والسياسيين الكرد، الحزبيين والمستقلين، ولأن معظم دراسات هؤلاء الكرد تدحض نهج محمد جمال باروت فلم يأتي على ذكر أي منهم كمصدر، ولم يستند على أقوالهم وأبحاثهم، بل ولم يعرضهم حتى كمفهوم متناقض، لأنه يعلم وخلافاً للعديد من مفاهيم البعث المتأثرة بها أن تحليله للقضية الكردية في سوريا وبهذه الطريقة، ساذج وضحل ولا قيمة فكرية أو سياسية لها خارج جغرافية البعثيين وأمثالهم من العروبيين.
2. الفصل الخامس عشر، بدءاً من الصفحة (824) وما بعد، يمكن للقارئ الاستغناء عنه بل وعن أكثر من نصف الكتاب، فيما إذا حصرنا الموضوع في إطار العنوان، فهذا الفصل بالتحديد، فصل تركيبي، من الهجرة إلى الجزيرة إلى الهجرة منها، من مجرد الأسئلة الشكوكية حول الهجرة إلى قضية العمران، فهو تكرار لمواضيع بحث فيها سابقا ولمرات، حشى بها كتابه بصفحات إضافية، من خلال تكراره وتلاعبه بمعظم المصادر المذكورة سابقا، وأغلبيتها غير مسنودة، أو أنها مفبركة، وبعضها غير موثقة، ، والاسنادات الحديثة العروبية ليست سوى محاولة لتثبيت وجهة نظر البعث والأسد والتي كان مكلفا بها أثناء خدمته ككاتب للمربعات الأمنية السورية، والتي تلقفها عنهم دولة قطر بعد دمج أفكاره ومفاهيم البعث بالفكر التكفيري الإسلامي العروبي…
من الصفحة (823) بداية الفصل الخامس عشر ولعدة صفحات، يعرض مفهوما ينقض به الأجزاء الأولى من كتابه، ويعري معظم فبركاته التاريخية السابقة، وخاصة المذكورة حول وجود القبائل العربية في المنطقة، كبني ربيعة والقيسية، والذي كانوا رحل ويستندون على الغزوات في العيش، وقد بحثنا في هذه القضية خلال الحلقات الأولى، وبينا كيف أن القبائل العربية الغازية لم تكن فقط لا تؤمن كثقافة بالتحضر، بل كانت تبتذلها، حتى عندما احتلوا الجغرافية الكردستانية، التي يفترض الكاتب والبعض من العروبيين بأنها كانت لهم، لم يستقروا فيها ولم يبنوا حضراً. وبناءً على قول الكاتب ذاته أنها كانت منطقة تتسم بالعمران والحضارة وبالمدنية قبل ظهورهم المفاجئ، ويقول في هذا ومن بداية الفصل ” كانت سوريا الشامية قائمة بشكل راسخ من ألوف السنين، وتتسم بعمرانها البشري والحضري المتصل أو ما يسميه ابن خلدون بـ ” العمران المدني” الذي يطابق قول “الحكماء “بأن الإنسان مدني بالطبع””. لا شك هذا النموذج المدني لم يتطابق ونمط حياة القبائل العربية ومن ضمنها القبائل الشمالية والتي يحاول الكاتب جرهم إلى المناطق الحضرية في الجزيرة السورية أو جنوب غربي كردستان. مع استثناءات بسيطة تشبه الواحات في قلب الصحراء، كإمارتي الغساسنة والمناذرة، اللتين فرضت عليهما الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية التحضر، والبناء، ليجمعوا حولهم القبائل العربية ويستخدموهم، لغايتين، الأولى التحكم في حركة القبائل العربية، والثانية السيطرة على مناطق الثغور الجنوبية المتخاصمة عليها الإمبراطوريتين.
كما ويناقض ذاته بذاته في الصفحة (825) عندما يقول “لقد كان ما أرسته مرحلة التنظيمات العثمانية في وادي الفرات والجزيرة الوسطى هو وضع أسس التحول الحضري المعقد من البداوة إلى العمران، لكن هذه الدينامية التاريخية لن تنطلق في منطقة الخابور التي تمثل القسم العلوي منها إلا في مرحلة الانتداب الفرنس العامة(1920-1934)” وهنا تتبين إشكاليتين، الأولى أن العرب كانوا رحل، ولم يكونوا من أصحاب المنطقة، وقد بحثنا فيها ضمن الحلقات السابقة. والثانية، لا يأتي الكاتب على ذكر المراكز الحضرية الكردية في المنطقة والتي تعود تاريخ بعضها وبوثائق عثمانية إلى قرنين من الزمن.
علما أن هذين الاستثناءين أيضا لم تعرفا من المدنية أو المدينة حتى بمفهوم تلك الفترات التاريخية مقارنة بالمدنية في الحضارتين الساسانية والبيزنطية، واستمرت القبائل العربية بالعيش والتمدد على مبدأ الغزو والترحال دون التحضر أو بناء الدولة المدنية حتى منتصف الخلافة العباسية، رغم ما ظهر في الخلافة الأموية من ركائز الحكومة الإقطاعية “الوراثة” والتي أقيمت على مخلفات الدولة الحضارية البيزنطية، مع ذلك في عمقها ومن حيث الثقافة، والعمران والتمدن تراجعت ولفترات طويلة عن المستويات التي كانت عليها الحضارة البيزنطية، بل وقد عد العديد من المؤرخين وعلماء الاجتماع بأن الحضارة زالت من المنطقة بعد غزو القبائل العربية الجاهلة، ولم يتمكن زعماء قريش من البقاء حتى على مخلفات الحضارة المستولية عليها، رغم احتكاكهم الدائم بها سابقا، فالبنية التي كانوا يستندون عليها كانت ثقافة جاهلية، ولم يكن الإسلام قد ساد بمفاهيمها الثورية على القبائل، وظلوا يجهلونها لقرون طويلة، وتعد هذه من أحد أسباب تناقضهم للمفاهيم الحضارية، بل كانوا في عمقهم يكرهونها.
وما ظهر من تقليد لعملتهم، وتنسيخ الدواوين الفارسية والآرامية بالعربية، لم يكن كافيا لتكوين الدولة المدنية الحضارية، ولم تغير في ثقافة القبائل ونقلهم من نمط الترحال والغزو إلى التحضر والزراعة والمهن اليدوية. وما يقوله الكاتب محمد جمال باروت عن سوريا الشامية تنجر على الجزيرة لأنه بذاته يربطهم ببعد ثقافي وحضاري وعمراني فيقول في الصفحة نفسها ” فلم يتم تعريف سورية في أي مرة بمعزل عن بلاد الجزيرة”. ويؤكد على تناقضه وتحريفه للتاريخ في الصفحة (825) عندما يذكر” مثلت بلاد الجزيرة القلب الحضري النابض لإقليم الشام التاريخي، بل لـ “الهلال الخصيب” الذي يشمل الشام والعراق” ولا شك هنا ينسى ولا يتناسى، أن القبائل العربية لا تصنف ضمن هذا المفهوم، ولسبب بسيط، رفضهم للحياة الحضرية، والمؤدية إلى عدم قدرتهم على تقبل المدنية، حتى عندما اصطدموا بها أثناء غزوات القبائل العربية الأولى تحت الراية الإسلامية، كانوا يفتخرون بالعيش رحلا والغزو كنمط للحياة…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/4/2016م