«العمال الكردستاني» وسردياته المفخخة: بين صورة أوجلان «الزاهد»… وصورته زعيماً أبدياً

هوشنك أوسي
 
يخبرنا التاريخ بأن الأحزاب العقائديّة – الأيديولوجيّة، الدينيّة منها واليساريّة، في مطالع تجاربها تبدو زاهدة، ومتقشّفة وبعيدة عن مباهج ومتاع «الدنيا»، وأقرب إلى الجماعات الصوفيّة. ويزدري الحزب الأيديولوجي اليساري هذه المباهج والمتاع على أنها صنيعة البرجوازيّة والرأسماليّة، ولا مناص من هجرها ومقتها، تجسيداً للشخصيّة الثوريّة البروليتاريّة الملتزمة بقضايا الاشتراكيّة وخصائص المناضل الثوري. هذا النسق من الحياة المفضي إلى هكذا نمط من التفكير، عبّرَ عن نفسه في تجربة «حزب العمال الكردستاني»، بزعامة عبدالله أوجلان، أيّما تعبير. حيث يمكن تلمّس ذلك وبل التأكّد منه، فور مراجعة أعداد جريدة «سرخوبون» (الاستقلال)» الناطقة باسم الحزب. هذه الجريدة، كانت تصدر كمنشور سريّ متواضع بعد انطلاقة الحزب سنة 1978. 
وبعد مرور 4 أعوام تقريباً، مطلع 1982، صارت تصدر في ألمانيا على شكل جريدة شهرية، يتم نشر بيانات وأخبار الحزب فيها. ووفق ما هو موجود على موقعها الرسمي، ولغاية كتابة هذه الأسطر، آخر عدد صدر منها هو رقم 417، في أيلول(سبتمبر) 2016. وبعد تنزيل كل هذه الأعداد وتصفّحها، عدداً تلو آخر، أذهلني حجم الاكتشافات، ومنها:
أولاً: في الأعداد الصادرة من كانون الأول(ديسمبر) 1982 ولغاية كانون الأول 1985، صور عبدالله أوجلان، كانت نادرة النشر. ويبدو فيها رجلاً عادياً، أقرب إلى العامل الفقير. وكان أوجلان يلقّب فقط بـ «السكرتير العام للحزب». أما في الأعداد الصادرة سنة 1986، خصوصاً بعد عقد الحزب مؤتمره الثالث في سورية، وتصفية ومقتل بعض القيادات، صارت صور أوجلان تنشر بكثرة، مع الحفاظ على مظاهر الزهد البادية عليه. في حين أن الأعداد الصادرة في حقبة التسعينات، ولغاية خروج أوجلان من سورية واعتقاله واختطافه في نيروبي ونقله الى سجن جزيرة إيمرالي في شباط(فبراير) 1999، يظهر فيها أوجلان في كامل أوصاف البرجوازي، سواء على مستوى الزيّ أو الاحتفال بعيد ميلاده، ويرتاد البحر والأماكن الأثرية في سورية، محاطاً بالرفاق وهالة التقديس والتأليه، في وقت كانت الحرب بين «الكردستاني» والجيش التركي على أشدّها، وتحصد أرواح العشرات كل أسبوع! كذلك منذ أعداد 1986 ولغاية آخر عدد صدر من الجريدة، صار أوجلان يوصف بـ «القائد، قائد الحزب، قيادة الحزب، القائد الوطني»، وصولاً للقب: «قائد الشعب الكردي» الذي يطلقه «الكردستاني» وإعلامه على زعيمهم المفدّى حاليّاً.
ثانياً: المفاجأة الأكبر بالنسبة لي، كمؤيد سابق لـ «العمال الكردستاني»، ومدافع عنه في الإعلام الكردي والعربي، حين كانت تدور الدوائر على الحزب، وكان مستهدفاً من التحالف بين نظام الأسد والنظام التركي (2002-2010)، وناقداً لهذا الحزب بعد الثورة في سورية، وتحالف الحزب مع نظام الأسد الابن، كانت أنني عثرت على ما يخالف ما قرأناه طيلة أعوام في أدبيات الحزب عن قصّة فقدان مظلوم دوغان لحياته، (من مؤسسي «الكردستاني» وقياداته التاريخيّة المعتقلين في سجن دياربكر، عاصمة كردستان تركيا)، على أنه أضرم النار بجسده في عيد النوروز يوم 21 آذار(مارس) 1982، احتجاجاً على التعذيب الرهيب الذي تعرّض له المعتقلون في سجن دياربكر. وأن مظلوم دوغان أطلق صيحته المشهورة: «المقاومة حياة» في وجه من خان الحزب، أي شاهين دونميز ويلدرم مركيت (من مؤسسي الكردستاني)، وكان إضرامه النار بنفسه احتجاجاً على انهيار التنظيم في سجن دياربكر، بقيادة دونميز ومركيت.
هذه الرواية باتت راسخة في الوعي الجمعي الكردي، المؤيد لـ «العمال الكردستاني» وحتى المعارض له أيضاً، نتيجة التكرار والتداول طيلة عقود، (يستحيل التشكيك فيها، وبل يعتبر التشكيك فيها، بدعة ومن صنف الخيانة)، وإذا أدخل أي شخص اسم مظلوم دوغان في محركات البحث على الانترنت (Google, YouTube, Wikipedia…) سيعثر على هذه الرواية، ولكن «الكردستاني» صاحب الرواية نفسه في جريدته «سرخوبون» الرسميّة، العدد 5، شهر أيار 1982، وفي صدر الصفحة الأولى، يذكر أن دوغان فقد حياته، إما حرقاً أو اختناقاً، نتيجة حريق شبّ في السجن. ويتهم «الكردستاني» السلطات التركية بارتكاب مجزرة في السجن. وأن الحريق مفتعل. ولم يذكر «الكردستاني» الحادثة إلا بعد مرور شهرين تقريباً! ولا يوجد في هذا العدد، وكل الأعداد الصادرة التي تلته لغاية نهاية 1985، أيّة إشارة إلى أنه أضرم النار بجسده وأنه صرخ: «المقاومة حياة». وكل المواد التي تتناول الحدث، تكرر أن ما حصل في السجن كان مجزرة، وأن دوغان قتل حرقاً أو خنقاً. وبعد مرور عام على الحادث، (ومرور سنة تكفي للتأكّد من تفاصيل الحدث وملابساته)، وفي عدد شهر نيسان(ابريل) سنة 1983، الصفحة 14، نشرت جريدة «سرخوبون» بياناً صادراً عن «العمال الكردستاني» يقول فيه: «معتقلو الحرب، ومنذ 3 سنوات، وعبر تضحيات عظيمة وإصرار، يصعّدون النضال والمقاومة؛ وعضو اللجنة المركزية لحزبنا (PKK) مظلوم دوغان، ومن بعده؛ الكوادر القيادية في (PKK) فرهاد كورتاي، وأشرف وأنياك، ومحمود زنكين، الذين تم قتلهم حرقاً وخنقاً،…». ما يعني أن هنالك روايتين غير صحيحتين، لطالما روّج لها «العمال الكردستاني» حتى هذه اللحظة، وهما:
1 – مظلوم دوغان، صحيح أنه مقاوم ومناضل كبير، لكنه لم يضرم النار بجسده، احتجاجاً على التعذيب، ومناهضة الخيانة وانهيار التنظيم في السجون.
2 – فرهاد كورتاي (عضو اللجنة المركزية. وهو من اقترح اسم حزب العمال الكردستاني في مؤتمره التأسيسي سنة 1978) وأشرف آنذاك، مع نجمي أونَر ومحمود زنكين، لم يضرموا النار بأجسادهم في ليلة 17/5/1982، تضامناً مع مظلوم دوغان، وتأكيداً لقراره، كما يروي الحزب هذه الحادثة. وبالتالي، «الكردستاني»، ووفق جريدته المركزية والبيان الصادر عنه وقتذاك، لم يكن يسوّق ويروّج للحدث على الشكل الذي روّج وسوّق له بعد منتصف الثمانينات، مضفياً مسحة من الأسطرة على قياداته، وربطهم بعيد النوروز والمقاومة ضد الخيانة.
وفي بيان آخر، منشور في الجريدة نفسها في عدد كانون الأول 1984، إشارة الى ان شاهين دونمز (أحد نائبي أوجلان في المؤتمر التأسيسي)، موجود في سجن «آلازغ» وليس في سجن دياربكر. وعليه، مظلوم دوغان لم يضرم النار بنفسه احتجاجاً على خيانة يلدرم مركيت وشاهين دونميز اللذين لم يكونا أصلاً في سجن دياربكر، وفق ما هو منشور في «سرخوبون». من جهة أخرى، فإن محامي الدفاع عن معتقلي «الكردستاني» حسين يلدرم (موجود حالياً في السويد. انشق عن الكردستاني سنة 1988)، وفي حوار أجرته جريدة «سرخوبون» معه، ذكر أن دوغان ورفاقه، قتلوا حرقاً واختناقاً بالدخان، في الحريق الذي شبّ في السجن.
كل الأعداد الصادرة عن جريدة «سرخوبون» والتي هي لسان حال «الكردستاني»، وصفت ما حصل في سجن دياربكر، يومي 21 آذار و17 أيار 1982 بأنه مجزرة (قتلعام – KATILAM) ولم تذكر مطلقاً أن مظلوم دوغان، أضرم النار بجسده، احتجاجاً على التعذيب والخيانة.
إضافات «الكردستاني» على حكاية مظلوم دوغان، وأنه أضرم النار بجسده، ربما يبررها البعض بأن الحزب كان في حاجة إلى رموز شعبيّة بهدف التحريض على المقاومة. ولكن دوغان كان رمزاً، حتى دون هذه الإضافة – الخرافة. وصور دوغان كانت ترفع في السنوات الأولى للحزب، من 1981 ولغاية 1985، اكثر من صور أوجلان. ناهيكم بقيادات أخرى لـ «الكردستاني» كـ «خيري دورموش، كمال بير، فرهاد كورتاي…» هي أيضاً كانت رموزاً معروفة.
 
* كاتب كردي سوري
————- 
المصدر: جريدة الحياة

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…