ابراهيم محمود
” أريد أن أؤرّخ لحزني وغضبي “
بودلير
وراء كل كتابة دافع معين، وتلك بداهة! وما يضفي على الدافع أهمية، هو في كيفية إنارته من الداخل: تعرُّفاً وتعلُّماً ومتابعة له. ولا بد أن الصديق الباحث الكردي محمود عباس يكتب لوجود دافع، وهو مركَّب بالتأكيد: تاريخي، سياسي، اجتماعي وثقافي..الخ، والعلامة الفارقة في كتابته هي في خاصية الانتماء إلى المكان، الحنين إلى مسقط رأسه، بيئته الكردية، أهله، شعبه والوطن الموعود: كردستان. ووراء الكم اللافت من كتاباته ” مقالاته ” ثمة ثقافة مدرَكة، فهو يحمل دكتوراه في الجغرافيا الاقتصادية من الاتحاد السوفيتي سابقاً، وأمضى فترة في ألمانياً، وهو منذ ربع قرن يقيم في الولايات المتحدة الأميركية ” مدينة هيوستن، ولاية تكساس ” صحبة شريكة حياته، ورفيقة دربه طبعاً: الشاعرة الكردية أفين ابراهيم .
ولعله في هذا الزخم الكتابي ومن خلال مئات المقالات يستحق الاهتمام، بغية التأكيد على فاعل معرفي، بحثي، وهو وجوب تفعيل النقد الذي يثري الممارسة الثقافية والحوار الثقافي، بقدر ما يعلِم الكاتب: موضوع النقد على أن هناك من يقرأ له، والقراءة فعْل نقد، سوى أن إبرازه يكون في التعبير كتابةً، فيزداد الآخر عمْق إدراك والناقد عمْق مصارحة معه.
وإذا كان لي أن أعبّر عن هذه العناوين التي تخص الصديق الباحث بأوراقها الكثيرة والساخنة بمناخاتها، رغم بُعد المسافة عن الوطن، الأهل والأصحاب، وتلك مزية وجدانية تسجَّل له في الحال، فإن ما يمكنني قوله هو أنه مهتم بكل شاردة وواردة، ويحاول الإسهام فيها، إلا في مجال الأدب بفنونه المختلفة، إذ يندر وجود كتابة تشي بذلك. إنه يظهر ذواقة أدب، إنما ليس من كتابة تسمّيه، وأما عن حلقاته المتسلسلة عما إذا كان هناك أدباء كرد قبل الإسلام، فهي تندرج في خانة التاريخ، في حيّزه السياسي بجلاء، ومن منطلق تعقُّب الهوية الكردية في التاريخ، وما يعنيه التاريخ للكرد، وهو انشغال لا ينفصل عن مستجدات الحاضر، تعزيزاً لمقولة: إن شعباً له كل هذا الحضور الذي لم يغيَّب في التاريخ، رغم أنه تاريخ مكتوب من قبل الأعداء كثيراً، لا بد أن تكون له جذور وفروع في الأدب الممثّل للهوية، وتجسيداً لروح الشعب وبعمق.
وقبل أن أباشر بتقديمه في سطور موجزة، للتعرف إليه أكثر، لا بد أن أنوّه إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي لغوية، وهي أنني أتحاشى التعرض لسلامة اللغة: في النحو والصرف، فثمة الكثير في ذلك، لأن دأبي هو محتوى الفكرة، ومن يقرأ كتاباته، وهو في مستوى القراءة: القراءة كحوار، والقراءة كمتعة، لا بد أنه سيتلمَّس مدى اهتمامه بالفكرة دون ” صحَّة ” اللغة.
الملاحظة الثانية، والتي تتطلب تثبيتاً، هي أن عباس، يسترسل في الكلام كتابةً، إنه بالكاد يستعين بمراجع مباشرةً، ويُسمّيها، إلا في القليل منها، وهي التي تحتاجها، كما سنرى ” مناقشته مع محمد جمال باروت، مثلاً “، ولكنه في مقالاته يظهِر لقارئه أن هناك قراءات مختلفة، وهو أكاديمي، و خلال علية هضم معرفية، تتمازج فيها مكوناته القرائية، وهو يعلِم بمتطلبات الكتابة في التوثيق قبل كل شيء، وفي أسلوبه تغلب النبرة الصحافية إذ تكون مطعَّمة بحيثيات التجربة اليومية والقراءات الموازية، وتحديداً في المجال السياسي – الاقتصادي، مجال اهتمامه، ولعل هذا الأسلوب يظهِر تفاعله مع ما هو سياسي والحرص على إيصال ” صوته ” إلى أكبر قدْر ممكن من قرائه، أو، وهو إجراء لا يخلو من سياسة توجُّه في المرتجى من المكتوب.
وتقول الورقة الأولى في قائمة أوراقه، كما أقدّر، على أنه ينتسب إلى وسط عائلي معروف، له حضوره الجلّي في المنطقة ” هل أقول: تلك الفاصلة بين قامشلو وتربه سبيه ؟ “، ومنذ قرنين ونصف القرن على الأقل ! إن إضاءة عالمه كبداية مفيدة لنا أولاً ” :
في مذكراته المنشورة ” ج1، 2-3/ 2016 “، ما يصله بكل كردي: بحْث الكردي عن مكان يعنيه، وباسمه يكون، ولغة تشير إليه دون رقيب (..أنني مثال عن كل كردي، ذاكرتي لا تشبه أية ذاكرة في الكون، فيها من التناقضات ما يحتاج إلى علماء كفرويد لتحليله، وإنقاذه من الدمار، التناقضات السياسية، صراع بين الذات والذات، وخلافات على الانتماءات، تشوهات في الحب والكراهية، لا أشبه الأخرين بحبي، ولا كراهيتي تصل إلى سوية الكارهين، فرض علي حب اللاوجود قبل الوجود، الوطن قبل الإنسان، والانتماء إلى ماهية لا تزال في العدم، في الوقت الذي ينتمي في الأخرون إلى وطن وكيان، يفكرون في تطوير أبعاد لا تزال أحلام بالنسبة لي، هناك من يحب لتكوين سعادة، لا لإثبات الذات مثلي . ).
تلك إذاً زبدة المطلوب في التعريف بذات لم ترتق بعد إلى مستوى استحقاق نيل الهوية، ليس لعجز في التكوين، أو قصور نمو، وإنما لأسباب أحالته كغيره إلى خانة اللاتاريخ، ولا بد أن هذا الوعي مفصح عن محرّكه القومي المشروع، ويرتبط بوعي يتعقب المستجدات من أجله .
لاحقاً، نزداد علماً ببطاقة شخصية وعائلية” ج2: 6-3/ 2016 ” ، وسوف أختصر هنا:
( الانتماء أولاً إلى قرية نصران، قرية ببيوت قليلة، بسيطة البناء، لم تتجاوز أعداد ساكنيها في قمة ازدهارها عشرين عائلة كردية المنبت، مرمية على ضفاف نهر سوبلاخ، الذي كان دائم الجريان، كثيرة الأشجار مقارنة بالقرى المجاورة، على جنوب الحدود التركية بمسافة لا تتجاوز الخمسة كيلومترات كخط نظر، وشرق قامشلو بعشرين كيلو متراً، بجانب الخط الحديدي القادم من برلين والواصل إلى البصرة. بناها والدي، وحيد والديه، مع والدتي، واللذين لم يتجاوزا بعد العشرين سنة من العمر، معهم أخي صبري في سنته الأولى، وجدتي، وعمتي الصغيرة، وفي بنائها سيرة.
بعد مقتل جدي( عباس محمد عباس) بيد الفرنسيين غدراً، في 19 حزيران عام 1923م ولم يكن قد بلغ الثلاثين من العمر، ووالدي(محمد عباس) طفل دون الرابعة….ولا يوجد أحد يحتضنه بتلك الحمية والحرارة ذاتها، اللحظة التي تركه فيها، وكانت الأولى والأخيرة العالقة في ذاكرته، كما قالها لي مرة، عندما كنت معه دون أخوتي، على تل مقبرة دوكر، وهو يبحث عن أحجار ليعيد تشكيل قبر الجد…
بعد استشهاد الجد، وبالضبط بعد قتل الضابط الفرنسي المسؤول، في معركة دياري توبي، التي لحقت بمعركة بياندور، عرف الوالد بين العائلة والعشيرة، الوريث على قريته (محركا) والتي استولت عليها الفرنسيون، بعد مضي خمس سنوات، ليملكوها لفلاحيه من المسيحيين الذين كان جده( محمد عباس) قد أنقذهم من مجازر الفرمان العثماني، مع عائلات أخرى عديدة أسكنوهم في قراهم، منها كرشيران وغردوكه ومحركا وتل جهان وغيرها … لينتقل مضطرا ووالدته إلى حضن عمه، ويتربى في قرية دوكر حاضرة العائلة، رافضا وبعناد، الدراسة في المدارس التي أشرف الفرنسيون عليها، والمنحة التي قدمها له القنصل الفرنسي عن طريق عمه كبير العائلة (سليمان عباس) بإرساله إلى فرنسا للدراسة هناك، كرها بقاتلي والده.
تزوج وهو في سن المراهقة، أنتقل بين عدة قرى من قرى العائلة، بنى بيتا في قرية غردوكه، في نهاية الثلاثينيات، فهي كانت من أملاك جده الأكبر، بحسب سندات تمليك صادرة من الأستانة تعود تاريخها إلى قرابة عام 1835م، والوثائق لا تزال موجودة حتى الأن، نشرت أحداها في كتاب مارتن فان براونسين (الأغا والشيخ والدولة). …منتقلاً بعدها إلى قرية تل برهم، وتخلى عنها تنازلا لأبن عمه عبد الكريم شلال بعد أن طالب بملكيتها جدته بعد وفاة جده (سليمان، كبير آل عباس) ووالده(شلال) بشكل غامض في بيروت، على خلفية مقاومتهم للاحتلال الفرنسي في العشرينيات من القرن الفائت، ومقتل عدد من ضباطهم…
فكانت الفكرة والخطوة لبناء قرية نصران في بداية الأربعينيات، على تخوم حدود قرية دوكر الجنوبية بثلاثة كيلومترات، بخيمة شعر بسيطة مستعارة من أحد العائلات العربية التي كانت تخدم العائلة في فترة الجد محمد عباس، وله فضل ومكرمة عليهم في السابق، ثم بيت، بني بمساعدة خاله رئيس عشيرة حجي سليمانا (حجي علي) رحمه الله، مالك قرية حلوة، على هضبة صغيرة، بجانب نهر سوبلاخ النابع من جبال طوروس، والمار بجانب دوكر المركز الرئيس للعائلة.).
ثمة الكثير مما يمكن التوقف عنده، والانطلاق منه، لتحرّي خاصية الكتابة عنده:
أولاً، لا يمكن الفصل بين هذا الشعور والذي يتخلل الكتابة المذكراتية، وهو متخَم بحرارة التفاعل مع الماضي، ليس حبَّاً مؤطَّراً فيه، وهو قائم من خلال التاريخ، وإنما من باب الإخلاص لهذا التاريخ، إذ ما أشبه الحنين إلى الجد المستشهَد، والأب المكافح، ومجابهة الظلم، بهذا الاهتمام العميق بالحاضر، حيث إن التحدي واحد، مع فارق الأشخاص وطرق التعبير والمجابهة . عباس لا يقول عن أنه مثل جده، ولا يكيل مديحاً مجانياً له، وإنما يسرد واقعة، وانطلاقاً منها يحدد موقعه، بقدر ما يقدّم صورة عما كان، وعما ينشغل به في سياق المجابهة هذه .
ثانياً، في المنطقة التي شكَّلت المهاد الجغرافي والاجتماعي والثقافي لأهله ومن معهم من كرد المنطقة، لا تخفي استراتيجيتها، حيث إن الحديث عن خط الحديد الفاصل مكان وآخر، يعبّر عن فعل تقسيم، وعن قوة لها امتداد دولي وسيطرة على المكان، وهي عملية غصب وإكراه مفروضة على أهلها الكرد، وتمتد إلى المستقبل، كما هو مخطط تقسيم كردستان.
ثالثاً، ثمة الجانب الإنساني والاجتماعي، جهة جده الذي آوى مسيحيين هاربوا من الفرمان العثمانلي- التركي، رغم مسئولية هذا الإيواء، وما في ذلك من انفتاح على الآخري.
رابعاً، ثمة ما هو سياسي واجتماعي، وهو المتعلق بصراع كردي ضد الفرنسيين، ولا بد أن يؤخَذ بعين الاعتبار، والذي يعتَّم عليه هنا وهناك، خصوصاً، في المجال الوطني، والموقف من الظلم، حيث التعتيم هذا يكتسب طابعاً ” قومياً عروبياً سورياً “، من قبل محرّفي حقائق التاريخ.
خامساً، ثمة الجانب التاريخي الوثائقي والذي لا يثمَّن، وهو يتعلق بوجود الكرد في المنطقة منذ ما قبل 1835، رداً على ادعاءات عروبيين بأنها عربية، واعتبار الكرد خارجها.
هذا التفاعل بين ما كان عليه ماضياً، وما هو عليه حاضراً، يحافظ على وحدة التاريخ، على تنقية الجغرافيا من الشوائب التي تعكّر على ما كانته سابقاً كردياً، ولتكون الكتابة رغم بُعد المسافة” آلاف الأميال “، شاهدة على هذه العلاقة.
يكتب محمود عباس لا لكي يثبت انتماءه إلى الكردية فهو قائم، إنما لكي يعمّق مفهوم الكرد في التاريخ والجغرافيا، كما لو أن الذي يُسمَع صوته خلل أوراقه ليس الشخصي فيه، وإنما ” الجمع القومي السالم “: كرده. من هنا ننطلق !
م: أنوّه من هنا ولاحقاً، على أن أي إحالاتي المرجعية إلى كتابات باحثنا، تخص موقع ” الحوار المتمدن ” الالكتروني، وما عدا ذلك، يُسمَّى في حينه .
دهوك، في 20-2/ 2017
ح3- موضوعات تُسمّي كاتبها