ماجد ع محمد
إذا علمنا بأن الكوجيتيو أو الشك كان المبدأ الأول في فلسفة ديكارت وكذلك الأرضية التي بنى عليها جان بول سارتر فلسفته الوجودبة، وبما أن حقول السياسة لا ثوابت فيها وهي من أكثر الحقول زحزحةً، ونادراً ما تركن تربة مواقف العاملين بها إلى اليقين، لذا فبتصوري أن مشروعية شكوك المجلس الوطني الكردي لا تأتي من مبدأ محاكاتهم لقول السلف أي (الشك من حسن الفطن)، إنما لعل التجارب التاريخية القريبة التي كان الكرد من أبرز ضحاياها هي الدافع الرئيس للارتياب لديهم، بما أنهم أي الكرد غالباً ما كانوا عاطفيين في التعامل مع شركائهم السياسيين أكثر من اللازم، وذلك حيال معظم ما كان يُتلى عليهم من الوعود وما كان يُقال لهم مشافهةً من قبل حلفائهم السياسيين الذين سرعان ما انقلبوا عليهم بعد تمسكهم بزمام المبادرة أو فور وصولهم الى السلطة.
ومع أن الملا مصطفى البارزاني بصلابته وإبائه وقدراته القتالية ومن جهة عدم وثوقه بساسة العراق، كان قد ترك وراءه ما يشبه السكة ليسير عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني خاصةً، وساسة كرد العراق بوجهٍ عام، إلا أنه رغم ذلك انطلت الكثير من الشعارات الأخوية الفضفاضة عليهم، فلم تلتزم الحكومات المتعاقبة بعهودها معهم، وتنصل الكثير من قادة المعارضة العراقية مراراً من الوعود التي كانوا قد قطعوها على أنفسهم فور وصولهم إلى أرض العراق من منتجعات أوروبا، باعتبار أن الشرقي كثيراً ما يحاول أن يتقرب من الثقافة الغربية ويحاول تقمص صيرورات حيوات أناسها عندما يكون قائما بين ظهرانيهم ويعتاش على موائد المؤسسات الاجتماعية لديهم، إلا أنه فور وصوله إلى الشرق يعود إلى ما كان عليه، ويحاكي عواطف الشارع، ويبحث عما يرضي العامة بقليل من الشعارات الفارغة، بل ونكاد نقترب من الجزم بأن ليس فقط السياسي يفعل ذلك، إنما حتى المثقف الشرقي لديه إرضاء الشارع أهم من إرضاء ضميره وعقله ومبادئه، وإلا لما كان هذا حال الشرق، لو كان قد خرج من بينهم مفكرون ومثقفون وساسة يرفضون عقل الرعية، ولا يعملون إلا وفق ما كانوا يؤمنون به، ليس كرهاً بالناس، ولا نكاية بهم أو بالدولة أو تشفياً بالحكام، إنما حباً بالحقيقة واحتراماً لذواتهم العاقلة.
ومن جهة المعارضة العراقية فلا شك بأن من يقرأ نص البيان الختامي لمؤتمرها الذي صدر بلندن في 14-15 كانون الأول/ ديسمبر 2002 قد يتملكه العجب، إذ كان فيه جرأة في التعامل مع القضية الكردية ربما أكثر بكثير مما هي لدى الهيئة العليا، وربما لا ترقى إلى مستواها يوماً رؤية الهيئة العليا للمفاوضات، الهيئة التي قد يكون من الصعب عليها أن تقر بأن نظام البعث عدا عن تجريد الكرد من الجنسية، أقام المستوطنات في المناطق الكردية على غرار التجربة الاسرائيلية، وانتزع الأراضي من الفلاحين الكرد وأعطاها لعرب الغمر المستقدمين من محافظة الرقة، وبالعودة إلى المواقف اللاحقة للمعارضة العراقية، فبالرغم من كل الكلام المعسول الذي نطقوا به في لندن، إلا أنهم فور وصولهم إلى أرض السواد صاروا غير الذين وقعوا على بيان لندن، وللتذكير فقط فكان من بين الموقعين على ذلك البيان وفيق السامرائي ومشعان الجبوري وهما الآن من ألد أعداء الكرد.
وما قلناه أعلاه عن المعارضة العراقية ووعودها في الخارج، وكذلك عما ورد في النص القرآني عن ضرورة توثيق الاتفاقيات كما جاء في سياق ومضمون هذه الأية: (إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ …إلخ)*ربما كان سبباً للتعويل على المدون فقط، وبمثابة الدرس لدى المجلس الوطني الكردي في تعامله مع اخوانه في المعارضة السورية، وإلا فمن بمقدوره أن يجزم بأن لا تتكرر تجربة التنصل من الوعود الشفاهية، إذ وحسب الكثير من المثقفين الكرد بأن المعارضة التي لا تمتلك حالياً لا جيش قوي ولا هي وصلت الى السلطة، ومع ذلك فإن الكثير من قواها وفق تصورهم لا يطيب لها إلّا تكرار منهجية العفالقة ولكن بصيغة إسلاموية.
لذا فإن ذلك يزيد من حجم مخاوفهم من تلك القوى المتطرفة التي إذا ما توصلت الى السلطة وصار بيدها الحل والربط فما من أحدٍ يضمن بأن لا يكون كثيرهم وقتها مثل المعارضة العراقية، علماً أن المعارضة العراقية كانت قد أقرت بالفيدرالية في بيانها اللندني ولكنها عندما صارت في الداخل عملت بكل ما تملك من القوة للتنصل من عهودها ووثائقها، لذلك فلسان حال العامة يقول ما من أحد بمقدوره منع استنساخ التجربة العراقية في سوريا؟ طالما أنه حتى النص المكتوب والمتفق عليه لا وجود له كما كان الحال عليه مع بيان المعارضة العراقية في لندن، وذلك حتى يرجعوا إليه إذا ما أخلى أحدهم بمضمونه.
وفي الختام وضمن سياق الشكوك ذاتها فالكثير ممن قرؤوا التاريخ يُذكّرون قادة المجلس الوطني الكردي بتجربة كرد إيران مع الخميني، إذ وحسب مدوني أحداث ومواقف الثورة الإيرانية بأنه بعد شهرٍ واحد فقط من سقوط نظام شاه إيران، الذي ساهمت الشعوب الإيرانية مجتمعة لإزالة حكمه والاتيان بما هو أفضل منه، أرسل خميني جيوشه لكردستان ليقوموا بالمجازر فيها، وبدأ الخميني بقتل الشعب الكردي الذي ثار معه ضد الشاه، الشعب الذي تحمس للثورة ليبلور مشاريعه وأهداف الثورة الإيرانية التي جاءت بالخميني إلى الحكم، ولكن سرعان ما تبين لجميع الشعوب الإيرانيه التي ساهمت بإزالة الشاه، بأن نظام الخميني لم يكن أفضل من الشاه بشيء، بل ورأت الشعوب الإيرانية غير الفارسية آنذاك بأن الخميني ينوي تشييد امبراطوريته على جثثهم وجماجمهم، وبأن الخميني كان مجرد دجال لا يؤمن بالإسلام وكان هدفه فقط الوصول للسلطة، ووجد الرجل الديني الكردي عز الدين الحسيني أنذاك بأن الخميني رجل قومي ديكتاتوري أكثر من شاه ايران نفسه، ومع أن الحسيني كان أحد أبرز المساهمين في الثورة، إلا أنه وبعد أن كشّر الخميني عن أنيابه بعد انتصار ثورته، اضطر الحسيني إلى أن يقف بوجهه ويثور عليه لاحقاً كما ثار على الذي قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سورة النساء.
* مِن منشورات صفحة الأحواز العربية/ شبح الفاشيه حقيقه في إيران/ 31 أغسطس، 2010.