دهام حسن
علينا بداية أن نعلم أن اقتران اسم الليبرالية بالحرية الفردية لا تعني ألبتة التجاوز والعسف، فحرية الفرد بالمفهوم الليبرالي، يعني أن الفرد يضع حدودا لحريته على أساس وعيه لحرية الآخرين، وهذا الوعي ضرورة يدركها الفرد..حتى أن هيغل كان يجمع بين الحرية والعقل، باعتبارهما مبدأين أساسيين متلازمين، في حين أن سان سيمون من قبله، كان يرى في التصنيع القوة الوحيدة والممكنة لحمل الناس على الحرية والعقل، لهذا وجدنا فريدريك باستيا ينبّه الذين كانوا يلعنون الآلات عندما لاحظوا واهمين كيف: (تزداد هيمنتها في كل عام، وتحكم بالفقر على ملايين البشر) فجاء باستيا ليقول أن (لعن الآلات يعني لعن العقل البشري..) وهؤلاء حمّلوا الآلات أسباب فقرهم فقاموا بتدميرها، مثلما فعل اللوديون، والتدمير ليس كسبا بتعبير باستيا أيضا، فما من أحد بقادر اليوم التغاضي عن أهمية التكنولوجيا في حياة البشر من حيث صقل فكر الفرد والتوق للحرية..
وعن الحرية أيضا، يقول جان ستيوارت مل إن: (صلاح شؤون الناس من الوجهة العقلية، يقتضي إطلاق حرية الآراء وحرية التعبير عنها) وبالمقابل فإن خمول الشعب أكبر خطر يهدد الحريات، وسيمرّ معنا دوما كيف أن الليبرالية دافعت عن الحقوق الفردية، باعتبارها حقوقا طبيعية، حيث وجدت هذه الحقوق قبل وجود الحكومات بتعبير جون لوك، وإن الحريات الفردية هي إحدى الشروط المطلقة في التنمية، دون أن ننسى أن الحرية هي الوجه الآخر للديمقراطية، والديمقراطية هي التعبير السياسي للحرية…
أيضا فالليبرالية عندما تطرح سياسة المنافسة السلمية الحرة إنما تهدف لتقويض سياسة القوة، بغية تحقيق التقدم الاقتصادي، وترسيخ حالة الوفاق الوطني بين فئات المجتمع كافة..
لقد ركزت الليبرالية في مسيرتها الطويلة على ناحية مهمة أو مبدأ أساسي في ميدان الحريات، هي الحرية الفردية، وينسحب ذلك على سائر المجالات، حتى أن ماركس نفسه في سياق دفاعه عن الحريات يراها في الوقت ذاته من أن الحرية شمولية تشمل: (حرية التجارة، حرية التملك، حرية الضمير، حرية الصحافة، حرية القضاء، هذه كلها أنواع لأصل واحد متشابه هو الحرية) كما أن التفكير الحر هو شرط لا بد منه في مواكبة التطور والنهوض والتقدم، فالعقل ليعجز عن إنتاج الفكر إلا إذا تميّز بخصلتي المعرفة والحريّة..
بعد أن مهدّنا للثقافة الليبرالية بهذه التقدمة، سوف نحاول قراءة المشهد العربي.. فأول ما يفجؤك في السياسات العربية، هو الاستبداد والنظام الشمولي وبالتالي المركزية المشددة، فمازال الفكر العربي أسير النزعة الأصولية، ويدور في فلك مقولات أبدية لم يطلها مسّ ولا تغيير، مع عجز البرجوازية الوطنية من نشر العلمنة في العالم العربي، بعد نكستها منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بل أن البرجوازية البيروقراطية اليوم، هي تعتمد على السلطة في تكوين واقعها كقوى متنفذة داخل النظام الحاكم..
من جانب آخر عندما تمثلت الأحزاب العربية في السلطة، وامتلكت القوة والمال، سعت لقمع الفكر وتدجينه وجعله تابعا، بحيث وصلت تبعية الفكر للسياسة لدرجة تدمير النشاط الفكري، وغدا المفكر يخضع للسياسي قليل المعرفة منقادا بأغلال التبعية، ولم يعد للفكر ذلك الحيّز من الجدل والتحاور والتعايش الطبيعي، فلم تشهد النظم الشمولية لدى العرب التعددية السياسية، وهي بهذا ألغت التطور التقدمي، فالقمع في كل بلد، والمعتقلات تعجّ بأصحاب الرأي، فضلا عن الفقر والجهل، بسبب غياب خطط للتنمية، وسوء إدارة الاقتصاد، وتحكم الدولة بمركزية مشددة دون تعددية، فغالبية النظم العربية تعيش أزمة حقيقية ربما تكون بمثابة خارطة الطريق ترسم بداية نهايتها …
من المفارقات الغريبة، أن بعض الأقطار العربية في حقبة السيطرة الكولونيالية قد شهدت قدرا من الديمقراطية، والتعددية في السياسية والاقتصاد، واستطاعت قوى سياسية مختلفة أن تصل إلى البرلمان، لكن بعدما تحقق الاستقلال، صرنا مع قوى بلبوس (وطنية) جديدة، تنكرت لما أعلنته من برامج، وما رفعته من شعارات، فأصبحت هذه النظم الجديدة الحاكمة تقمع المعارضة الوطنية بعنف وقسوة، ولم يعد للديمقراطية حضور إلا في أذهان المقموعين، حتى وصل بالناس القول بهذا التساؤل الإنكاري، من أية مؤسسة ترى تستمد هذه الأنظمة شرعيتها.؟ من هنا يمّم كثير من العرب صوب الليبرالية كونها تنطوي بالأساس على حرية الاختيار، ويمكن بتعبير آخر القول إن الليبرالية تسعى لنقل مفهوم السوق من مجال الاقتصاد إلى ميدان السياسة، فكما يختار المستهلك سلعته من السوق بحرية، يختار الفرد أيضا الحزب السياسي الذي يوائم تفكيره، ويصوّت لشكل النظام الذي يوافق رؤيته ومصلحته، فثمة سوقان، سوق اقتصادية وأخرى سياسية..
إن نظرة أولية في المركزية المشددة في حالتي السياسة والاقتصاد على النطاق العالمي، تبيّن لنا كيف أن نظما انهارت سياسيا واقتصاديا، بخلاف الدول التي اتبعت ثقافة الليبرالية حيث حققت نموا كبيرا في التنمية بجوانبها المختلفة، والدليل على ذلك دول النمور الآسيوية التي حققت نهضة اقتصادية كبيرة، وتنمية بشرية ملحوظة، وبالمقابل فقد مني المثال السوفييتي بالإخفاق، فانهارت المنظومة الشيوعية الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي، وتآكلت النظم العربية التي اتبعت وصفة السوفييت، فهذا (فون هايك) يعارض تدخل الدولة في الاقتصاد والتخطيط، لأن هذا يستتبع (حكما المركزية والأوامرية، وهما على الصعيد السياسي صنوان للديكتاتورية والتوتاليتارية) ومن نافل القول التذكير بمبادرة لينين عندما استعصت عليه حالة التنمية، كيف طرح (النيب) –السياسة الاقتصادية الجديدة- وتفهّم جدوى التكنولوجيا الأمريكية، واستبشر باستقدام الخبراء للعمل والاستثمار في روسيا، رغم الشروط المجحفة حينها…
لقد درجنا على اعتبار المعيار الموضوعي للتقدم الاجتماعي هو التطور الذهني، وتقدم التكنيك، وازدياد الرّفاه، وانتشار الثقافة, وازدهار الفنون..
من الإشكالات الأخرى التي تعاني منها غالبية النظم العربية، هي غياب الطبقة الوسطى المستقلة نسبيا، والتي تتمتع بالدينامكية في ميدان الاقتصاد خاصة، فقد تعرضت لضربة قاسية في النصف الثاني من القرن العشرين، عقب استقلال أغلبية النظم العربية، وبعد أن آل الحكم إلى القوى الراديكالية من قوميين ويسار مشبعين بالأفكار الثوروية، دون تراكم معرفي يذكر بالتحولات على الصعيد العالمي، كانت أمامهم فقط التجربة السوفياتية الفتية، والتي نسجت حولها حكايات لها أشبه بالأساطير..
إن العرب عاجزون اليوم عن تحقيق التنمية، والتحوّل الديمقراطي، والولوج إلى عالم الحداثة في ظلّ غياب الطبقة الوسطى، لقد لعبت برجوازية المدن دورا ملحوظا على صعيد التنمية البشرية، فضلا عن دفع الإنسان كمادة خام باتجاه الثقافة والتعليم، واكتساب مهارات مهنية، لتخلق منه عضوا ذا فاعلية في وسطه بدلا من أن يكون عالة على المجتمع، لكن هذا النزوع جاء وأدها مبكرا..
إن طرح مبادئ الديمقراطية، يعني طرح مسألة السلطة، والحكام بعيدون عن التفكير بهذه المسألة، أو اتّباع السبل الرشيدة لتنمية معارف ومهارات الأفراد بغية الوصول إلى تنمية اجتماعية شاملة، على العموم.. لا بد من بلورة موقف فاعل يكتنز الحرية الفردية، وينبذ المركزية المشددة، للنهوض بالإنسان العربي حرّا وغنى، روحيا وماديا، حتى يرقى إلى مصاف أبناء الأمم المتقدمة، والتاريخ كفيل بتنحية وإزاحة أي معوّق يعترض سبيله، للمضي في مساره الصحيح والصاعد إلى أمام دائما وأبدا..