د. رضوان باديني
يبدو لي بأننا نحن السوريون، لم نأخذ الدروس من مصائبنا الراهنة ولم نتعظ ونرتقي لمستوى المسؤولية، أو نبلغ، أفراداً وجماعات، مستوى “النضج الوطني” بمعايير الأمم المتقدمة، لنتمكن من تقرير مصيرنا وتحديد مستقبلنا بأنفسنا. ويبدو لي بأننا ما زلنا بحاجة لوصاية أو إنتداب جديد يقوّم سلوكنا ويضبط زلاتنا عن المعايير الحضارية في تعاملنا وسلوكنا مع بعضنا البعض. لأننا لم نتعلم إحترام بعضنا البعض كأعضاء أسرة واحدة قبل الإهتداء بالفكر التقدمي الحر أو المبادئ الديمقراطية والمعايير والضوابط الحقوقية الأكثر إنتشاراً في العالم..فالتعبير عن رأي آخر، مختلف أو مخالف، حق طبيعي من حقوق البشر في هذا العالم الحديث الذي من سماته الأساسية إنتصار حقوق وحريات الأفراد والجماعات.
من هنا يجب أن نقر، بأننا فشلنا فشلاً ذريعاً في مهمتنا الوطنية الأولى وهي الحفاظ على كياننا المشترك كدولة مستقلة ذات سيادة، تتكفل بتأمين السلام الإجتماعي بين مكوناته والحفاظ على تنوعه القومي بعقد إجتماعي وبمضمون حضاري جديد، يتساوي فيه، وبميزان القيم المعنوية من العزة والكرامة والأنفة والأباء ايضاً: الكردي والعربي والسرياني والتركماني والأرمني والمسيحي والمسلم واليزيدي والدرزي والإسماعيلي والمؤمن والملحد..الخ. لقد فشلنا في هذه المهمة التاريخية ولم نؤمِّن اللحمة الوطنية التي تغنينا بها كثيراً.
إلى الآن لم يقر جلنا بأننا كمواطني بلدٍ واحد نملك نفس الحقوق والواجبات إلاّ في مجاملات عدم كسر الخاطر. لأن جل مفرداتنا ومفاهيمنا الجديدة للمساواة والعدالة تأتي من الذهنية الإقصائية القديمة التي حكمت البلد أكثر من نصف قرن. والإبقاء على التمييز الذي كرسه النظام البعثي في ذاتنا وسلوكنا الجمعي بات مسألة غير خيارية بل جزءاً من المساوئ المكتسبة والموروثة من زمن النظام الشمولي والديكتاتوري؛ تماماً كالعبيد الذين لا يقوون على ممارسة حريتهم وينصاعون بعد التحرر بملأ إرادتهم للأنظمة التي ظلمتهم!؟
تجدنا نبكي ونتباكى على الخراب الذي طال بلدنا ولا نشير إلى السبب البيّن للجميع، ألا وهو: سيادة الفكر القومي الإقصائي والشوفيني المتعنت! الذي قسم السوريين إلى صالح وطالح بل إلى مواطن وغير مواطن!!؟؟ والذي كان يقضي بقصقصة ما يفرقنا من مميزات ثقافية وإجتماعية لنشبه بعضنا البعض بالفقر والضعف والهزال. بل حتى الإفتخار بأمجاد الوطن، كان حتى الأمس القريب، غير مسموح به ولا يصح بغير اللغة السائدة رسمياً. أما المتكلمون باللغات المسودّة “الأثنية القاصرة ” أو “العرقية” لا يحق لهم حتى التغني “بلغاتهم الساذجة” بهذا الوطن ذو اللون الواحد الموحد؛ بل يمنع عليهم حتى إطلاق الأهازيج بلسانهم تعبيراً عن فرحهم وحبهم لوطنهم! والأنكى من ذلك أن البعض منّنا، وبالأخص أولئك الذين فقدوا بعض إمتيازاتهم بإنحسار سلطة النظام، وفي محاولة لـ”معالجة” تلك “التشويهات” وصون الوجه “الوطني النضر” الصالح والمقبول لغالبية السوريين، يصّر على الحفاظ على تلك “الجعلكة” القسرية التي تركتها سياسة البعث على وجه “سوريا” الجريحة والتي شوهت ومسخت جزء هام من تاريخها وماضيها المشرق والمجيد والزاهر بكل الوان الطيف الفسيفسائي. أنهم يخشون بأن هوية سورية انتهت لصالح الهويات الاخرى من عربية لكوردية لإسلامية لمسيحية..” (!؟) ولا يفكرون بأن الهوية السورية هي حاصل جمع هذه الهويات! أنهم ما زالو يفكرون بأن هناك سوريون أصلاء وآخرون دخلاء! سوريون سائدون وسوريون مسودون..وعليه يجب أن يبقى سوريون مضطهدون وسوريين مضطهدين!. وينسون أو يتناسون بأن ما لحق بسوريا من ضرر هو آتٍ من زمن طمس “هوياتنا السورية” وإقصاء ومنع أجزاء غنية وغالية من حضاراتنا ولغاتنا وثقافاتنا.. (نعم أقولها بصفة الجمع)، لأن ما قامت به الشوفينية القومية العربية- وهذا أسمها، وليس توصيف كيدي، هو بالدرجة الأولى: إلغاء التعددية الثقافية والقومية لتركيبة السكان ومنع وإلغاء جميع ما ذخرت بها سوريا من ثقافات ولغات. نعم أن الشوفينية القومية لم تستطع بمبادئها القاصرة والمقتصرة على الفكر العروبي، تأمين الحد الأدنى من التلاحم والتعاضد الوطني بين الأرومات التاريخية القديمة في هذا الوطن الفسيفسائي الجميل بمكوناته، المتعدد الألوان واللغات والثقافات والحضارات. نعم أنه “يثير ريبتنا نحن أيضاً” هذه المعالجة القاصرة لإرثنا القديم العملاق الذي لم يكن زمن البعث إلاّ وطئة مسخة فيه!. أنهم بذلك كانوا كمن تمنعه “شجرة واحدة من رؤية غابة كاملة”. ومن هذا المنظور غيّبت كنوز إرثنا وحضارتنا وفولكلورنا ولغاتنا…
هذا هو الواقع المر، ويجب أن لانغض عنه النظر: نحن الآن منقسمون وفي حرب طاحنة لم تترك لنا مشتركاً واحداً!! إعفوني من ذكر عدد الكيانات العسكرتارية الناشئة وراء كل تلة وعلوة وجبلٍ ووادٍ..يجب أن نقر بأن أمراء الحرب قسموا بلدنا للمرة الثانية بإسم “الأصالة” و القيم السلفية”الإنتماء للعروبة والإسلام” بعد التقسيم الأول بأسم “الثورة” و”الرسالة العربية الخالدة”..وهذه أمور معروفة للقاصي والداني.. نحن الآن عشرات الممالك والدويلات و”الإمارات” والخوات الجهوية المذهبية والطائفية المنتشرة في كل أصقاع البلد.. نحن الآن عشرات “الكيانات المصطنعة”، القائمة، وبعضها تعيش وتعتاش على “ثقب” واحد في أنابيب ثروتنا النفطية لعدم وجود خفر موحد ونظام يحمي ثروتنا الوطنية الأهم- البترول.. وبعد كل هذه الويلات يدعون بأن “سوريا ستبقى بفضل ابنائها و ثقافتهم المشتركة “!؟ هذا ما يحيلنا رغما عنّا للتقصي عن المزعوم من “الثقافة المشتركة” في سياسات العابثين بالخارطة “الوطنية” الممزقة، تلك الخارطة التي قال فيها كبار ساسة العالم ومفكريها بأنها فقدت تماسكها ووحدتها المادية والمعنوية. أنهم يتعامون على رؤية حقيقة أن البعث لم يترك لنا ثقافة مشتركة. أن حرمان المواطنين العاديين وبميئات الآلاف وخلال عقود من الزمن من حق المواطنة نفسها.. لم يكن إلاّ تمييزاً عنصرياً شكلياً، أما مضمون تلك السياسة الإقصائية فكانت تنمي بكل أبعادها عن إستعمارٍ داخلي حقيقي. أن الركيزة الإيديولوجية التي جعلت من سوريا الوطن المشترك للجميع بصفة قومية واحدة لـ”الجمهورية العربية السورية” جعلت من جميع أبنائها من غير العرب (وهم 27 مكون) هجناء وغرباء وغير معترف بأصالتهمّ! لقد أعمى بصيرة النظام فكره الأحادي المظلم الذي سحبه على التنوع الثقافي لبلدنا الزاهي والجميل بمكوناته العريقة. وكجواب على من يتعنت ويريد تلحيم وسد الشروخ والتصدعات التي أصابت “الوحدة الوطنية” بهكذا شعارات نقول: أنتم تراهنون على النصف المتبقي على قيد الحياة من شعبنا والقسم القليل المتبقي من الأطلال القائمة الدالة على وجودنا الحضاري المشترك. كفى المزاودات!. لقد دفعنا ثمناً غالياً من الدماء والدموع بسبب هذا الطيش الفكري ! النصف الباقي من الشعب السوري على قيد الحياة لن ينخدع بأطروحات جاهلة لإرثنا ولغاتنا وقومياتنا. لن نقبل بأنصاف الحلول. ولن نتغاضى عن رؤية الحقيقة كاملة بكل قيافتها وأبعادها. السوري الذي يدعو لترميم الإرث البعثي يخون العروبة والوطنية السورية نفسها. أننا منقسمون الآن، ودعونا “نتحد” بصيغ عصرية جديدة نتفادى فيه الوقوع في المطبات التي أوصلتنا إلى الحرب الأهلية. أنها جريمة نكراء أن نتباكى على سوريا- وطن الجميع، وندعي و”ونأسف على فقدانها الصفة الشمولية الباطلة “هويتها العروبية” المصطنعة؛ وندّعي أن ذلك يكون في “صالح إحياء هويات كردية وعربية ومسيحية”..لماذا يجب أن ندفن مرة أخرى ميئات الآلاف من أبناء شعبنا أحياءاً، (كما سماهم أحد الصحفيين الأجانب؟) بتبني نفس المبادئ التي أودت بنا إلى هذا الدمار والخراب؟! الكلام المعسول بدون العمل لن ينطلي على أحد بعد!.
وأخيراً، من المؤسف أن ما زال بيننا إلى يومنا هذا، من ينادي بحقوق الإنسان والمساواة والأخوة وفي نفس الوقت يرفض حذف الصفة “العربية” من توصيف سوريا!؟ في حين في كل الأوطان المشتركة عبر العالم نجد الأقليات القومية تحصل على أحقية إدخال رموزها وبعض الكتابات بلغاتها ليس فقط على الوثائق والدساتير المشتركة.. بل حتى على العملة الوطنية وجواز السفر والنشيد الوطني..! فأين نحن من كل ذلك!؟!. وعليه نتسائل ونستفسر مرة أخرى: هل سوريا بهذا الشكل تجمعنا سوية فعلاً؟