جان كورد
في القرن التاسع عشر وما قبله من القرون، منذ دولة (ميتان) ومن بعدها الدولة الميدية قبل الميلاد، كانت العشيرة تشكل القوة الأشد أهميةً في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في كوردستان، والدخول من الخارج إلى منطقةٍ ما من كوردستان كان يستدعي كسب رضى زعماء العشائر أو نسائهم عن طريق تقديم الهدايا لهم ولهن أو القيام بالخداع والاحتيال عليهم بإعطائهم وعوداً معسولةً كاذبة من قبل المستشرقين وجواسيس الدول الاستعمارية وضباطها المكلفين بالتسلل بوحداتٍ عسكرية إلى داخل المتحدات الاجتماعية الكوردية، واستمر هذا إلى فترةٍ طويلةٍ في النصف الأول من القرن العشرين أيضاً، حتى بعد ظهور الحركة السياسية والتنظيمات الحزبية في كوردستان.
ولذا لا نجد في كتب التاريخ ما يمكن تسميته ب”الخطاب السياسي الكوردي”، على الرغم من أن بعض الزعماء الكبار قد شاركوا باسم الأمة الكوردية في مؤتمر سيفر في عام 1920، وتلاقى بعضهم لتأسيس وتكوين جمعيات ثقافية كوردية أو لمخاطبة حكومتي الدولتين اللتين كانتا تقتسمان كوردستان آنذاك (إيران والدولة العثمانية)، ومنهم من قاد الثورات الوطنية العارمة، وقدّم نفسه وأهله وأملاكه في سبيل ذلك، إلاّ أن هؤلاء الزعماء لم يتمكنوا من اقناع زعماء العشائر الكوردية بالانضمام إلى نضالهم، إلا العدد القليل منهم، الذين لم ينخدعوا بوعود الأعداء ولم يستلموا منهم أموالاً للوقوف معهم ضد أبناء قومهم. وحتى الآن ليست هناك دراسة كوردية واسعة حول هذه النقطة بالذات (التأثير السلبي للعشيرة على الكفاح الوطني التحرري في كوردستان) وبخاصة حول الأسباب الذاتية الكوردية لعدم القدرة على انتاج شيء هام بعد الاعتراف العالمي بالحق القومي للشعب الكوردي في معاهدة سيفر 1920. ويجدر بالذكر هنا أن التأثير السلبي للعشائرية كان رهيباً ومدمراً في عهد ثورة أيلول المجيدة (1961-1975) على وحدة العمل السياسي وبالتالي على وحدة الخطاب القومي الكوردي.
بعد ظهور الجمعيات الثقافية ذات الخلفية السياسية إبان انهيار الدولة العثمانية وظهور الاتجاه العلماني الذي أسس بمساعدة الغرب جمهورية تركية قائمة على أساس اللغة الواحدة والقومية الواحدة، كان أمل الكورد الواعين هو الاستمرار على الخط الوطني المطالب بالحق القومي الكوردي في الحرية والاستقلال، إلاّ أن تراجع الغرب في معاهدة 1923 عما وعده في (سيفر) لشعبنا، وعدم وجود ترابط سياسي بين زعماء العشائر التي منها ما كان يتحارب بالسلاح على الماء والكلأ أو لأسباب مذهبية في ظل الصرع الشيعي – السني الطويل الأمد بين إيران وتركيا، قد ساهم بشكلٍ مؤسف في عدم ظهو خطاب سياسي كوردستاني موحد وقوي، وفشلت ثورة الشيخ سعيد بيراني في شمال كوردستان، مثلما فشلت حركة الشيخ محمود الحفيد في جنوبها وحركة الزعيم سمكو آعا في شرقها… كل ذلك في فترة (1919-1925)، أي في ست سنوات تحولت فيها كوردستان إلى حمام دم وصارت خراباً يبابا.
عقد الكورد الأمل على ظهور حركة (خويبون) في عام 1927، وكان فيها فادة سياسيون وترأس قواتها المقاتلة جنرال هو (إحسان نوري باشا)، وكانت للحركة أهداف وطنية محددة وبنود صريحة بصدد حرية واستقلال كوردستان، وهذا هو الخطاب الصحيح الأنسب لحركة أمة كبيرة لا يقل تعداد سكانها عن سكان أكثر من 10 دول أعضاء في الأمم المتحدة، ومساحة أرضها لا تقل عن مساحة 5 دول أوروبية معاً، إذ كان لا بد من إيجاد حركة بهذه الصفات والملامح حتى يفهم العالم ماذا يريد الكورد حقاً، دولة دينية (مثاله ما طلبه الشيخ سعيد النورسي)، حكماً ملكياً (مثاله ما عمل له الشيخ محمود الحفيد)، أم هو مجرد مطالبة بحكم ذاتي، أم أنه كفاح من أجل الاستقلال؟ وما العلاقة التي ينشدها الكورد مع العالم الغربي، وما تأثير الشيوعية العالمية في الحراك السياسي- الثقافي الكوردستاني عموماً؟ إلاّ أن ثورة (خويبون) (1927-1930) ومن بعدها ثورة الشيخ علي رضا (1937) قد فشلتا أيضاً بسبب التركيبة العشائرية والدينية والمذهبية المتشابكة والمتنازعة في كوردستان.
على أثر انهيار الثورات الكوردية المتتالية التي قدم فيها الشعب الكوردي الكثير من التضحيات الجسام وتعرضت كوردستان إلى دمار شامل بسبب السياسات الرعناء والعنصرية للدولتين التركية والإيرانية، وتقسيم كوردستان إلى أربعة أجزاء، منذ تأسيس دولتي سوريا والعراق باتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية بين إنجلترا وفرنسا في عام1916، وبسبب مساعدة المستعمرين حكومات الدول المقتسمة لكوردستان في حروبها القذرة ضد الشعب الكوردي وكفاحه العادل من أجل الحرية والاستقلال.
من خلال تأسيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني في إيران والعراق في منتصف الأربعينيات في القرن الماضي، استمر كفاح الكورد ولكن في إطار التجزئة المفروضة على وطنهم، فظهرت فكرة الحكم الذاتي التي اقترنت بمطلب الديموقراطية في البلدان التي يخضع لسيادتها الكورد، إلا أنه لم يكن مهماً للغرب سوى الحفاظ على الوضع الواقعي الموجود، وهذا يعني الاستمرار في دعم الشاه الإيراني ونظام آتاتورك والحكومات العميلة لها في بغداد ودمشق، وكلها كانت ضد الديموقراطية واللامركزية، وليس حق الأمة الكوردية أو العدالة والمساواة بين الشعوب، واستمر هذا منذ قيام جمهورية كوردستان في مهاباد عام 1946 إلى انهيار ثورة أيلول المجيدة في عام 1975، وكلا الحدثين كانا في خدمة الديموقراطية واللامركزية، أي لصالح الدول الغربية والمبادئ التي تزعم أنها حاملتها وحاضنتها، وبخاصة فإن ثورة أيلول كانت في ظل قائدٍ لم يكن متأثراً بالشيوعية رغم أنه عاش في الاتحاد السوفييتي مدة 12 عاماً مع مئات من مقاتليه (البيشمركه) وعوائلهم، بل كان صديقاً للغرب وحامياً لمختلف الأقليات القومية والدينية ومطالباً بنظام ديموقراطي في العراق، ورغم ذلك خانه السيد هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك لأنه لم يجد في نجاح الكورد أي مصلحةٍ هامة لبلاده، كما صرّح علانية بنفسه.
فهل كان الخطاب السياسي الكوردي صحيح المسار حتى الهزيمة التي ألحقها نظام صدام حسين الدموي بالشعب الكوردي بمساعدة السوفييت؟ وما الخطأ في هذا كله، بعد كل تلك الانتفاضات والثورات العظيمة التي قدم فيه شعبنا التضحيات الجسيمة؟
09 أيار، 2017
(يتبع)…