فواز طرابلسي
الأمن، المزيد من الأمن، الأمن دوماً وأبداً.
هذه هي الرسالة التي تزداد وضوحا يوجهها الحكم في دمشق لشعبه والعالم.
والأمن هنا بات يعني القمع، ووسواس الأمن يستدعي «المؤامرة» استدعاءً لتبرير الجواب الأمني عليها.
وبعد اقتحام درعا بالدبابات، واتهام الآلاف المؤلفة من سكانها بـ«الإرهاب»، يتأكد ان الجواب الأمني بات يعني الآن التصدي بالقوة العسكرية لحركة احتجاج شعبي متوسعة ومتصاعدة تطالب بالإصلاح والتغيير.
لم يكن «مشروع إصلاح شامل».
كان الأمن.
جرت المماطلة في موضوع إلغاء حالة الطوارئ على أمل وقف التظاهرات بالوسائل الأمنية، او بالتفاوض من غير ما طائل على مطالب جزئية مع الشيوخ والوجهاء، من دون الاضطرار الى اتخاذ قرار الإلغاء
هذه هي الرسالة التي تزداد وضوحا يوجهها الحكم في دمشق لشعبه والعالم.
والأمن هنا بات يعني القمع، ووسواس الأمن يستدعي «المؤامرة» استدعاءً لتبرير الجواب الأمني عليها.
وبعد اقتحام درعا بالدبابات، واتهام الآلاف المؤلفة من سكانها بـ«الإرهاب»، يتأكد ان الجواب الأمني بات يعني الآن التصدي بالقوة العسكرية لحركة احتجاج شعبي متوسعة ومتصاعدة تطالب بالإصلاح والتغيير.
لم يكن «مشروع إصلاح شامل».
كان الأمن.
جرت المماطلة في موضوع إلغاء حالة الطوارئ على أمل وقف التظاهرات بالوسائل الأمنية، او بالتفاوض من غير ما طائل على مطالب جزئية مع الشيوخ والوجهاء، من دون الاضطرار الى اتخاذ قرار الإلغاء
.
علماً ان القرار لم يكن يحتاج لأكثر من توقيع رئيس الدولة من ضمن صلاحياته الدستورية.
مع ذلك، لم يخطر في بال الحاكم ان يعلن هدنة ولو لأربع وعشرين ساعة، بما هي بادرة تعلن الانتقال من منطق «الطوارئ» الى منطق القانون.
وبدلاً من ان يستمر اطلاق سراح المعتقلين، توقف فجأة.
ولم تمض ساعات على إلغاء حالة الطوارئ حتى بدأ إطلاق النار لتفريق الاعتصام السلمي في حمص.
خالف المعتصمون «قانون تنظيم التظاهر».
صحيح.
ولكن أي قانون يقضي بمعاقبتهم بإطلاق النار عشوائياً عليهم؟ لا قانون ولا منطق، إلا منطق الأمن.
استغرب البعض تزاوج الحديث الرسمي عن «مؤامرة تتعرض لها سوريا» مع إعلان الاستعداد لإلغاء حالة الطوارئ.
وتساءلوا: اذا كانت سوريا تتعرّض لمؤامرة، فالأحرى تعزيز حالة الطوارئ لا إلغاؤها.
قدمت الايام الاخيرة الجواب على اللغز.
ما يجري تطبيقه عملياً بعد إلغاء حالة الطوارئ افدح مما كان يحصل في ظلها، وقد بات بعد تكليف الجيش بالاعمال الأمنية، اشبه بالانتقال الى الاحكام العرفية حتى لا نقول الى اعلان حالة حرب.
لا أمن من دون وسواس «المؤامرة».
و«المؤامرة» جواّلة.
تلبّسها فلسطينيو المخيمات من درعا الى اللاذقية، وتبعهم جزائريون، ومواطن اميركي (ما لبث ان افرج عنه) واتهم بها نائب لبناني، واستقرّت عند «السلفيين» المتهمين بإعلان تمرّد مسلّح قبل ان يعود الإعلام الرسمي فيعزوها الى «مشروع خارجي تدميري مخرِّب»، لتعود داخلية أخيراً مع تهمة «الإرهاب» التي واكبت اقتحام دبابات الجيش لدرعا.
وهذا التخبّط لا يليق كثيراً بنظام يعتز بأن انجح ما فيه هو أجهزته … الأمنية!
لا شك في وجود مسلحين يهاجمون قوات الأمن.
ولكن خيار الإدغام بين «الإرهابيين» وبين الأكثرية الساحقة من المتظاهرين والمعتصمين سلمياً – ولسان حالهم شعار «سلمية، لا سلفية» – هو المسألة.
ولا حاجة للتوقف عند المسؤول عن وجود السلفيين والجهاديين وعن تدريبهم وتسليحهم في سوريا؟ فالكل يعرف المسؤول.
لا معنى لهذا الهوس الأمني لو لم يكن ينطوي على تمسك عنيد بمصالح يمتزج بعجز متماد عن تقديم أي حل لأزمات داخلية وخارجية.
تحدث الرئيس الأسد أمام حكومته عن الفجوة بين الشعب والحكومة.
الحكومة لا الحكم؟ الحكم لا النظام؟ وحدها المكابرة تحول دون الاعتراف بأن النظام برمته في أزمة وأنه على تباعد متزايد مع شعبه وها هو يعمّد هذا التباعد بالدم.
ووحده ادّعاء الاستثناء السوري يحجب حقيقة ان وضع سوريا لا يختلف كثيراً عن اوضاع سائر الأقطار العربية، إن من حيث عوامل تفجّر الانتفاضات او من حيث مطالب العمل والحرية والخبز وكرامة المواطن.
المجتمع السوري مجتمع فتي، تقارب نسبة الشباب فيه المعدّل العربي العام، ويتكثف لديه هو أيضاً الخليط المتفجر من الشباب المتعلم والعاطل عن العمل، فيما نظام سياسي متكلّس يسدّ في وجههم الأمل والمستقبل.
هو مجتمع تحكمه سلطة لم تعد تملك إلا ترهيب الناس بالمصائر، والمصائب، اللبنانية والعراقية، وادّعاء «الأمن والاستقرار» الداخليين شرعية داخلية لوجودها.
فيما حزب قائد، دهري الوجود، لا يقود إلا بقايا احزاب جبهته الوطنية والتقدمية المترهلة، شاهد الملايين من السوريين والعرب وسمعوا مهزلة ممثليه وممثلي جبهته في جلسة «مجلس الشعب» الشهيرة.
وفي المجتمع السوري جيل جديد ينتفض ضد التسريح المتمادي للسوريين من الحياة السياسية ويريد ان تكون له كلمته في اختيار حكامه ومحاسبتهم وتقرير مصير بلده وحياته العامة.
فلا عجب ان تتمحور كل هذه المطالب عند ذلك الشغف المتمادي بالحرية.
الحرية؟ هذا هو تعريفها الجديد في قاموس صحيفة «تشرين»: «الحرية هي الأمن».
المفارقة في كل هذا ان خطاب الرئيس الأسد التوجيهي مسّ معظم هذه القضايا بالتسمية والوصف، ولكن في سرعة وفي غياب الحلول الجادة.
في موضوع الفساد، طلب الرئيس من وزرائه التصريح عن اموالهم وممتلكاتهم قبل تولي المسؤولية.
ولماذا الوزراء فقط وليس جميع المسؤولين من رئيس الدولة، وأقاربه الأقربين، الى آخر مدير عام في الدولة؟ علماً أن ضمان الشفافية يقتضي التصريح ايضاً عند الخروج من المسؤولية.
والأهم هو تعيين الهيئة المنوط بها التحقيق والرقابة والبت في امور الهدر والفساد وسوء استغلال السلطة؟ من جهة اخرى، اعترف الرئيس بمشكلة بطالة الشباب.
لكنه تعاطى معها بطريقة أبوية جعلتها أشبه بالآفة الأخلاقية، ذلك يبدو انها ـ البطالة ـ تدفع الشاب الى ان «ينقلب على مفاهيمه العائلية او حتى قيمه الاجتماعية والوطنية».
ولا حاجة للتذكير بأن مثل هذا «الانقلاب» يهدد الامن هو ايضاً!
ارتكبت السلطة السورية كل واحدة من الأخطاء التي ارتكبها ويرتكبها الحكام العرب في تعاطيهم مع انتفاضات شعوبهم.
بعضهم سقط وبعضهم ينتظر.
أجّلت وسوّفت، ووعدت من دون تنفيذ، وقدّمت التنازلات المتأخرة بحجة انها لا تخضع للضغط، ووقعت في دوامة القمع الدموي الذي يصعد الاحتجاج ويوسع مداه ليقابله بتصعيد القمع الذي يزجّ بفئات اوسع من الناس في المواجهة.
ومارست اجهزة إعلامه الكذب الصريح والتخوين بالجملة، قدر ما مارس النظام نفسه تغريب المشكلات والاحتجاجات ونسْبِها للخارج والمؤامرات.
لم تحصد سوريا من ذلك غير مزيد من الدماء والأحقاد واتساع الهوة بين النظام والشعب.
في الايام الاخيرة، اصدر عدد من مثقفي سوريا بياناً يؤكد على الوحدة الوطنية والحرية ويدعو الى حوار وطني يضم جميع اطياف الشعب السوري ويحقق مطالب التغيير السلمي.
ها هم الضحايا يقدمون مخرجاً سياسياً تفاوضياً للأزمة يغلّب تحصين الداخل في وجه مخاطر التدخل الخارجي.
فهل ما زال الحكم في دمشق مستعداً لارتكاب «الخطأ» الذي لم يرتكبه الى الآن: الحوار مع شعبه بغير قذائف الدبابات ورصاص القناصين وإهانة «الشبيحة» لكرامات المواطنين وتخريفات الإعلام الرسمي الكذوب؟
fawwaz.traboulsi@gmail.com
علماً ان القرار لم يكن يحتاج لأكثر من توقيع رئيس الدولة من ضمن صلاحياته الدستورية.
مع ذلك، لم يخطر في بال الحاكم ان يعلن هدنة ولو لأربع وعشرين ساعة، بما هي بادرة تعلن الانتقال من منطق «الطوارئ» الى منطق القانون.
وبدلاً من ان يستمر اطلاق سراح المعتقلين، توقف فجأة.
ولم تمض ساعات على إلغاء حالة الطوارئ حتى بدأ إطلاق النار لتفريق الاعتصام السلمي في حمص.
خالف المعتصمون «قانون تنظيم التظاهر».
صحيح.
ولكن أي قانون يقضي بمعاقبتهم بإطلاق النار عشوائياً عليهم؟ لا قانون ولا منطق، إلا منطق الأمن.
استغرب البعض تزاوج الحديث الرسمي عن «مؤامرة تتعرض لها سوريا» مع إعلان الاستعداد لإلغاء حالة الطوارئ.
وتساءلوا: اذا كانت سوريا تتعرّض لمؤامرة، فالأحرى تعزيز حالة الطوارئ لا إلغاؤها.
قدمت الايام الاخيرة الجواب على اللغز.
ما يجري تطبيقه عملياً بعد إلغاء حالة الطوارئ افدح مما كان يحصل في ظلها، وقد بات بعد تكليف الجيش بالاعمال الأمنية، اشبه بالانتقال الى الاحكام العرفية حتى لا نقول الى اعلان حالة حرب.
لا أمن من دون وسواس «المؤامرة».
و«المؤامرة» جواّلة.
تلبّسها فلسطينيو المخيمات من درعا الى اللاذقية، وتبعهم جزائريون، ومواطن اميركي (ما لبث ان افرج عنه) واتهم بها نائب لبناني، واستقرّت عند «السلفيين» المتهمين بإعلان تمرّد مسلّح قبل ان يعود الإعلام الرسمي فيعزوها الى «مشروع خارجي تدميري مخرِّب»، لتعود داخلية أخيراً مع تهمة «الإرهاب» التي واكبت اقتحام دبابات الجيش لدرعا.
وهذا التخبّط لا يليق كثيراً بنظام يعتز بأن انجح ما فيه هو أجهزته … الأمنية!
لا شك في وجود مسلحين يهاجمون قوات الأمن.
ولكن خيار الإدغام بين «الإرهابيين» وبين الأكثرية الساحقة من المتظاهرين والمعتصمين سلمياً – ولسان حالهم شعار «سلمية، لا سلفية» – هو المسألة.
ولا حاجة للتوقف عند المسؤول عن وجود السلفيين والجهاديين وعن تدريبهم وتسليحهم في سوريا؟ فالكل يعرف المسؤول.
لا معنى لهذا الهوس الأمني لو لم يكن ينطوي على تمسك عنيد بمصالح يمتزج بعجز متماد عن تقديم أي حل لأزمات داخلية وخارجية.
تحدث الرئيس الأسد أمام حكومته عن الفجوة بين الشعب والحكومة.
الحكومة لا الحكم؟ الحكم لا النظام؟ وحدها المكابرة تحول دون الاعتراف بأن النظام برمته في أزمة وأنه على تباعد متزايد مع شعبه وها هو يعمّد هذا التباعد بالدم.
ووحده ادّعاء الاستثناء السوري يحجب حقيقة ان وضع سوريا لا يختلف كثيراً عن اوضاع سائر الأقطار العربية، إن من حيث عوامل تفجّر الانتفاضات او من حيث مطالب العمل والحرية والخبز وكرامة المواطن.
المجتمع السوري مجتمع فتي، تقارب نسبة الشباب فيه المعدّل العربي العام، ويتكثف لديه هو أيضاً الخليط المتفجر من الشباب المتعلم والعاطل عن العمل، فيما نظام سياسي متكلّس يسدّ في وجههم الأمل والمستقبل.
هو مجتمع تحكمه سلطة لم تعد تملك إلا ترهيب الناس بالمصائر، والمصائب، اللبنانية والعراقية، وادّعاء «الأمن والاستقرار» الداخليين شرعية داخلية لوجودها.
فيما حزب قائد، دهري الوجود، لا يقود إلا بقايا احزاب جبهته الوطنية والتقدمية المترهلة، شاهد الملايين من السوريين والعرب وسمعوا مهزلة ممثليه وممثلي جبهته في جلسة «مجلس الشعب» الشهيرة.
وفي المجتمع السوري جيل جديد ينتفض ضد التسريح المتمادي للسوريين من الحياة السياسية ويريد ان تكون له كلمته في اختيار حكامه ومحاسبتهم وتقرير مصير بلده وحياته العامة.
فلا عجب ان تتمحور كل هذه المطالب عند ذلك الشغف المتمادي بالحرية.
الحرية؟ هذا هو تعريفها الجديد في قاموس صحيفة «تشرين»: «الحرية هي الأمن».
المفارقة في كل هذا ان خطاب الرئيس الأسد التوجيهي مسّ معظم هذه القضايا بالتسمية والوصف، ولكن في سرعة وفي غياب الحلول الجادة.
في موضوع الفساد، طلب الرئيس من وزرائه التصريح عن اموالهم وممتلكاتهم قبل تولي المسؤولية.
ولماذا الوزراء فقط وليس جميع المسؤولين من رئيس الدولة، وأقاربه الأقربين، الى آخر مدير عام في الدولة؟ علماً أن ضمان الشفافية يقتضي التصريح ايضاً عند الخروج من المسؤولية.
والأهم هو تعيين الهيئة المنوط بها التحقيق والرقابة والبت في امور الهدر والفساد وسوء استغلال السلطة؟ من جهة اخرى، اعترف الرئيس بمشكلة بطالة الشباب.
لكنه تعاطى معها بطريقة أبوية جعلتها أشبه بالآفة الأخلاقية، ذلك يبدو انها ـ البطالة ـ تدفع الشاب الى ان «ينقلب على مفاهيمه العائلية او حتى قيمه الاجتماعية والوطنية».
ولا حاجة للتذكير بأن مثل هذا «الانقلاب» يهدد الامن هو ايضاً!
ارتكبت السلطة السورية كل واحدة من الأخطاء التي ارتكبها ويرتكبها الحكام العرب في تعاطيهم مع انتفاضات شعوبهم.
بعضهم سقط وبعضهم ينتظر.
أجّلت وسوّفت، ووعدت من دون تنفيذ، وقدّمت التنازلات المتأخرة بحجة انها لا تخضع للضغط، ووقعت في دوامة القمع الدموي الذي يصعد الاحتجاج ويوسع مداه ليقابله بتصعيد القمع الذي يزجّ بفئات اوسع من الناس في المواجهة.
ومارست اجهزة إعلامه الكذب الصريح والتخوين بالجملة، قدر ما مارس النظام نفسه تغريب المشكلات والاحتجاجات ونسْبِها للخارج والمؤامرات.
لم تحصد سوريا من ذلك غير مزيد من الدماء والأحقاد واتساع الهوة بين النظام والشعب.
في الايام الاخيرة، اصدر عدد من مثقفي سوريا بياناً يؤكد على الوحدة الوطنية والحرية ويدعو الى حوار وطني يضم جميع اطياف الشعب السوري ويحقق مطالب التغيير السلمي.
ها هم الضحايا يقدمون مخرجاً سياسياً تفاوضياً للأزمة يغلّب تحصين الداخل في وجه مخاطر التدخل الخارجي.
فهل ما زال الحكم في دمشق مستعداً لارتكاب «الخطأ» الذي لم يرتكبه الى الآن: الحوار مع شعبه بغير قذائف الدبابات ورصاص القناصين وإهانة «الشبيحة» لكرامات المواطنين وتخريفات الإعلام الرسمي الكذوب؟
fawwaz.traboulsi@gmail.com
جريدة السفير